يرد فهد الشهراني البالغ من العمر 27 عاماً على هاتفه بلمعان في عينيه شاعراً بالرضا من تغييرات سوق العمل السعودي، إذ يُشرف وليّ العهد محمد بن سلمان على ما ينظر إليه بشكل واسع النطاق على أنه أكثر الحملات قوة لتأمين وظائف في القطاع الخاص للمواطنين الشباب. وقال فهد إنه كان في الماضي يرسل سيرته المهنية إلى 30 شركة، ولا يتلقى أي جواب.
لكنه في الأسابيع الأخيرة وجد نفسه مطلوباً. إذ قال: "يرنّ هاتفي طوال الوقت". وفي الوقت المناسب تماماً رنّ الهاتف، إذ اتصل محل للعطور كان فهد قد تقدم للحصول على وظيفة فيه ليخبره المتصل بأنه ضمن الأشخاص المرشحين لشغل هذه الوظيفة.
ويتلقى فهد الاتصال في متجر ساعات، حيث بدأ الشاب السعودي العمل منذ شهر واحد فحسب. ويلاحظ نضال شعبان، المدير السوري للمحل، بهدوء، أن أحدث موظفيه يبحث بالفعل عن وظيفة تدر راتباً أفضل.
في تقرير لها تشير صحيفة The Financial Times البريطانية إلى أن متاجر الساعات من بين 12 قطاعاً من قطاعات البيع بالتجزئة -تتراوح بين صُناع الأدوات البصرية إلى منافذ قطع غيار السيارات- التي أضيفت إلى ما يسمى ببرنامج "السعودة" في شهر نوفمبر/تشرين الأول، وهو ما يعني أن المواطنين السعوديين ينبغي أن يمثلوا 70٪ على الأقل من الموظفين. ويعرف مدير المتجر أن سياسة الحكومة تصب في مصلحة فهد وأقرانه، على الأقل في الوقت الراهن.
تفاؤل الشباب بالسعودة يصطدم بعقبات هائلة
وترى الصحيفة البريطانيه أنه مع ذلك، فإنَّ تفاؤل الشاب يتناقض مع العقبات الهائلة التي تواجه جهود الرياض لإصلاح نظام العمل الذي كان لعقود معتمداً على ملايين العمال المستقدمين من المنطقة وآسيا، والمستعدين للقيام بالمزيد من العمل مقابل أجر أقل.
ويقول الخبراء إنه من بين جميع تعهدات الأمير محمد بتحديث الاقتصاد المعتمد على النفط وتنويعه، فإنَّ هذا هو التحدي الأكثر صعوبة وحساسية.
إذا أحسنت السعودية فعل ذلك، فسوف تخفف من إدمانها للعمال الأجانب، الذين يشغلون حوالي 90٪ من جميع وظائف القطاع الخاص، وتتعامل مع بطالة الشباب المستشرية في بلد أكثر من نصف سكانه يقل عمرهم عن 25 عاماً. وإن فشلت فسترتفع البطالة وتكون عرضة لأن تصبح مصدراً للاضطراب الاجتماعي في أكبر مصدّر للنفط في العالم.
وقال جون سفاكياناكيس، كبير الاقتصاديين في مركز أبحاث الخليج ومقره الرياض: "إنَّ خلق الوظائف (يقبع) في صلب [إصلاحات] الأمير محمد وازدهار البلاد واستقرارها على المدى الطويل. في نهاية المطاف، فإنَّ قدرتك على خلق الوظائف والدخل، هي محكّ اختبار الناس لك".
ولا تبدو الدلائل جيدة. فعلى الرغم من عثور المزيد من السعوديين على وظائف في القطاع الخاص، فقد كانت البطالة بين السكان المحليين في مسار صاعد بحدة على مدار السنوات الثلاث منذ أطلق ولي العهد خطته الطموحة للإصلاح، رؤية 2030. إذ قفزت البطالة من 11.5٪ في الشهور الثلاثة الأولى من عام 2016، إلى 12.9٪ في شهر يوليو/تموز العام الماضي، وهو أعلى مستوى على الإطلاق. وتصل نسبة البطالة بين الشباب إلى 40٪ والنسبة أعلى بكثير بين الشابات.
وأدت الإجراءات التي اتخذتها الرياض لتسريع إصلاح سوق العمل إلى زيادة التكاليف التي تواجهها الشركات التي تعاني بالفعل من ضعف النمو منذ أن تسبب انخفاض أسعار النفط عام 2014 في تعثر الاقتصاد.
وبالإضافة إلى الإجبار على السعودة في عدد متزايد من القطاعات، فقد زادت الحكومة من الرسوم التي يتعين على الشركات دفعها مقابل كل عامل أجنبي، من 200 ريال سعودي (53 دولاراً) إلى 300 ريال سعودي (80 دولاراً أمريكياً) على الشركات التي توظف سعوديين أكثر من المغتربين، و400 ريال سعودي (107 دولارات) شهرياً على الشركات التي توظف عدداً أقل من المواطنين. وقدمت الرياض أيضاً في عام 2017 رسوماً شهرية تقدر بـ100 ريال سعودي (27 دولاراً) ينبغي للمغتربين دفعها مقابل من يعيلونهم، ثم تضاعفت هذه الرسوم العام الماضي.
والهدف هو البدء في سد الفجوة بين تكلفة توظيف السعوديين وتكلفة توظيف الأجانب، إذ يحصل السعوديون على رواتب أعلى بمقدار 1.5 إلى ثلاث مرات من العمال الأجانب.
نتيجة الإصلاحات.. وقوف المواطنين السعوديين أمام واجهات المتاجر
والنتيجة الأكثر وضوحاً لهذه الإصلاحات وقوف المواطنين السعوديين وراء واجهات المتاجر وشوايات البرغر في مراكز التسوق المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، أو إصلاح الهواتف النقالة أو بيع قطع غيار السيارات أو الأجهزة. لكنَّ الكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة قد أجبرت على الإغلاق، وذلك وفقاً لمحللين وتقارير إعلامية سعودية، بسبب تكاليف العمالة المضافة والنمو الضعيف.
وقال مسؤول تنفيذي سعودي: "تحاول تحسين التوظيف، وهو ما يحدث، لكنك في الوقت نفسه تفرض (تكلفة) إضافية، ويخلق هذا ضغوطاً على الشركات. ينبغي لك حماية الشركات القائمة.. (لكنَّ) بعضها يغلق".
ويصر هذا المدير وآخرون على أنَّ الحكومة تفعل الصواب بعد سنوات من التقاعس والتراخي في الوقت الذي تدفقت فيه دولارات النفط. وكانت محاولات السعودة في التسعينيات والعقد الأول من الألفية بلا فاعلية، فكانت الشركات تلتزم بالحد الأدنى لتلبية الحصص الخاصة بها، وتشتكي من أخلاقيات العمل للمواطنين. ولم تُقدم المزايا السخية من الدولة، التي من الممكن أن تصل إلى ثلثي الحد الأدنى للأجور في القطاع العام، حافزاً كبيراً للسعوديين للبحث عن عمل.
واليوم، فإنَّ مسؤولي وزارة العمل يخرجون في دوريات على المحلات للتأكد من التزامها بالحصص. ويواجه المخالفون غرامة تقدر بنحو 20 ألف ريال سعودي (5332 دولاراً).
وقال المسؤول التنفيذي: "كان لدينا اقتصاد غير منظم للغاية منذ عام 1975. وقبل ذلك كانت لدينا دورات عادية لكل شيء، وكان عدد الأجانب 100 ألف أجبني فحسب. ومع ازدهار النفط، ذهبت الأمور في كل اتجاه، ولم يكن ثمة خطة ولا استراتيجية".
ومع ذلك، فإنه يقر بأنه لن يكون هناك أي انخفاض في معدل البطالة "في المستقبل القريب". وبدلاً من ذلك، فإنَّ الإبقاء على مستوى البطالة بالمعدل الحالي للسنوات القليلة القادمة "يشكل تحدياً".
المصريون والأردنيون يدفعون الثمن
ولهذه الإصلاحات، بالفعل، أثر دراماتيكي على العمال الأجانب البالغ عددهم 10 ملايين عامل، في المملكة البالغ عدد سكانها 33 مليون نسمة. فإلى جانب قطاع البناء المتعثر والنمو الضعيف، فإنَّ هذه الإصلاحات قد غذت خروجاً للمغتربين من البلاد. إذ غادر أكثر من 314 ألف عامل مغترب بين النصف الثاني والثالث من العام الماضي، ليصل عدد مَن غادروا المملكة منذ بداية عام 2017 إلى أكثر من 1.4 مليون عامل.
ولسنوات، قدمت المملكة منفذاً للباحثين عن وظائف من دول العالم العربي غير المصدرة للنفط والدول الآسيوية، التي توفر الجزء الأكبر من العاملين في وظائف البناء والعمالة المنزلية. ولا يتوقع أحد أن يضطلع السعوديون بأدوار في هذه القطاعات، وسوف يستمر الأجانب في تشكيل شريحة كبيرة من القوى العاملة.
لكن كلما زاد عدد السعوديين في قطاعات الخدمة، زاد إحلالهم محل العرب من الدول المجاورة، ما يهدد بإضعاف الرابطة الاقتصادية الحيوية بين هذا البلد المصدر للنفط في المنطقة، والجيران الأفقر مثل مصر والأردن. إذ انخفضت تدفقات التحويلات النقدية من السعودية من ذروتها التي بلغت 38.8 مليار دولار عام 2015، إلى 36 مليار دولار عام 2017، وذلك بحسب بيانات البنك الدولي.
وقال شعبان، الذي فرّ من بلاده عام 2011، إنه اضطر إلى فصل بعض العمال اليمنيين لإفساح المجال لسعوديين منذ بدء سريان هذه التغيرات، وأضاف: "جميع الأجانب قلقون. لو فقدت وظيفتي فسوف يتعين عليّ مغادرة البلاد، وبما أنني سوري فإنني لا أستطيع العودة بسبب الحرب. أعرف أكثر من 50 شخصاً غادروا البلاد خلال العام الماضي بعد استبدال سعوديين بهم. اضطروا للمغادرة. لا تريد الشركات تعيين المزيد من الأجانب".
بالنسبة للرياض، فإنَّ المعضلة تكمن في طريقة المضي قدماً في الإصلاحات دون إلحاق المزيد من الأضرار بالقطاع الخاص الذي يُعتمد عليه في توظيف السعوديين. وقد عانى الاقتصاد منذ انخفاض أسعار النفط عام 2014 وانزلق إلى حالة من الكساد عام 2017. وعاد الناتج المحلي الإجمالي للارتفاع بنسبة 2.3٪ العام الماضي، لكنَّ صندوق النقد الدولي يتوقع أن يتباطأ مرة أخرى وصولاً إلى 1.8٪ عام 2019.
وتفاقم الوضع بسبب تحركات الحكومة التي أضرّت بأمزجة المستثمرين الهشة. وأدت حملة الأمير محمد الاستثنائية ضد الفساد في نوفمبر/تشرين الأول 2017، التي احتجز خلالها أكثر من 300 من الأمراء ورجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين السابقين، إلى إرسال موجات من الصدمة عبر المملكة. وأدى الغضب العالمي من قتل الصحفي جمال خاشقجي، في أكتوبر/تشرين الأول، إلى المزيد من إضعاف الاهتمام الدولي في وقت كانت فيه المملكة في مسيّس الحاجة للدعم الخارجي لمشروعات الأمير الضخمة.
وفي يناير/كانون الثاني أطلقت الرياض خطة تكلفتها 450 مليار دولار، مدتها 10 سنوات، تركز على التعدين والصناعة واللوجستيات والطاقة، على أمل خلق 1.6 مليون وظيفة بحلول عام 2030. لكنَّ ذلك، مثله مثل الكثير من خطط الأمير محمد، سوف يعتمد على جذب المملكة لمستويات ضخمة من الاستثمارات.
وتقول بعض الشركات إنه في أعقاب قتل خاشقجي أصبحت القيادة تولي مزيداً من الانتباه للمخاوف المحلية. إذ وافق الملك سلمان في فبراير/شباط على خطة بتكلفة 3.1 مليار دولار لتخفيف أعباء رسوم الأجانب على الشركات، في محاولة لتحفيز النمو. وسوف تعفي الحكومة بعض الشركات من دفع رسوم عام 2018 أو ترد النفقات التي دفعتها هذه الشركات بشرط أن تحرز تقدماً في توظيف السعوديين. ويعترف المسؤولون بأنَّ بعض أهداف الإصلاح كانت طموحة للغاية.
الأمير محمد مستمر في "السعودة" رغم سلبياتها الاقتصادية
ويقول المحللون إنَّ الحكومة، في الوقت ذاته، قد أعادت بهدوء ضبط هدفها بخفض البطالة إلى 9٪ بحلول عام 2020 وإلى 10.5٪ بحلول عام 2022. لكن من غير المحتمل أن يخفف الأمير محمد من حملته للسعودة.
وقال فواز العلمي، النائب السابق لوزير التجارة وكبير المفاوضين الفنيين لمنظمة التجارة العالمية: "سوف يستمر في دفع هذا الأمر بوصفه أولوية رئيسية له. كل مرة يقترح عليه أحدهم: سموك، هل نبطئ ونخفف من هذه العملية؟ يقول: لا. هذه أولوية، وليس لدينا مزيد من الوقت للإبطاء. يعتقد البعض أنَّ الحل في تحسين مهارات السعوديين وتضييق الفجوة بين أجور الأجانب والسكان المحليين، إلى أن يتخطف أرباب العمل السعوديين لما يتمتعون به من مزايا".
لكنَّ المملكة تخوض سباقاً مع الزمن. إذ قدَّر تقريرٌ في عام 2015 لشركة McKinsey، شركة الاستشارات التي تُقدِّم المشورة للحكومة، أنَّ ما يصل إلى 4.5 مليون سعودي في سن العمل سيدخلون سوق العمل بحلول عام 2030، وهو ما سيؤدي تقريباً إلى مضاعفة حجم قوة العمل المحلية لتصل إلى 10 ملايين شخص. وقال التقرير إنَّ استيعاب هذا التدفُّق سيتطلَّب توفير ما يقارب ثلاثة أضعاف فرص العمل السعودية التي جرى توفيرها أثناء فترة الوفرة النفطية بين عامي 2003-2013.
السعودية مطالبة بتوفير 400 ألف فرصة عمل سنوياً
وتُخفِق بالفعل عملية خلق فرص العمل في مواكبة عدد السعوديين البالغ عددهم 400 ألف الذين يدخلون سوق العمل سنوياً، 230 ألفاً منهم من خريجي الجامعات. ويُقدِّر سفاكياناكيس أنَّ الاقتصاد كي يتمكَّن من تلبية هدف بلوغ نسبة البطالة 10.5% بحلول 2022، سيكون بحاجة لاستيعاب نحو 30 ألف وظيفة في القطاع الخاص شهرياً، مقارنةً بـ4 آلاف – 6 آلاف وظيفة يجري توفيرها شهرياً حتى الآن.
ويعني تخفيف بعض القيود الاجتماعية على النساء في هذا البلد شديد المُحافَظة، مثل رفع الحظر على قيادة النساء للسيارات، تطلُّع المزيد منهن للعمل.
فيقول سفاكياناكيس: "على الرغم من أنَّ الضغط على القطاع الخاص للتوظيف المفتوح (للسعوديين) أمرٌ إيجابي، ستكون له قيوده. فأنت بحاجة لنمو إنتاجي وحقيقي. إنَّ عملية التوظيف السعودية التي نشهدها الآن مردُّها بالأساس استبدال العمالة الأجنبية والعمالة الحكومية، لكن بعد ذلك ستحتاج إلى نمو حقيقي من أجل خلق الوظائف".
وسيتمثَّل أحد الاختبارات المهمة في ما إن كان المواطنون السعوديون –الذين يتعرَّضون كثيراً للانتقادات بسبب اعتمادهم على المساعدات الحكومية- سيتمكَّنون من مضاهاة إنتاجية العمال الذين يحلون محلهم.
يستخدم الشهراني هاتفه المحمول ليتحقَّق من تاريخه الوظيفي على موقع الضمان الاجتماعي الحكومي، ويكتشف أنَّه لم يعمل إلا لمدة 27 شهراً فقط خلال السنوات التسع منذ إكماله الحصول على دبلومة في دراسات الحاسوب. فقضى بعض الوقت في شركة سيارات، لكنَّه شعر بعدم الراحة لأنَّ معظم الموظفين الآخرين كانوا أجانب. وانتهى عمله في هيئة الجمارك لأنَّ طريق التنقُّل إلى العمل كان طويلاً جداً. وحاول أن يعمل أمين خزينة (مُحاسِباً) في متجر سوبرماركت، لكنَّ "ساعات العمل كانت طويلة جداً" و"متعبة جداً".
ويتقاضى الشهراني حالياً 3 آلاف ريال سعودي (800 دولار تقريباً) شهرياً في عمله بمتجر الساعات، لكنَّه يعتزم ترك الوظيفة بمجرد العثور على وظيفة ذات راتب أفضل. ويرفض فكرة أنَّ أخلاقيات العمل لدى السعوديين سيئة، قائلاً إنَّ هذه "مجرد صورة نمطية".
وفي الناحية الأخرى المقابلة للمتجر، تستقر أفراح هلال (23 عاماً) في وظيفة جديدة في إدارة محل صغير لبيع العطور، وهو العمل الذي بدأته بعد 24 ساعة من رحيلها عن ربّ عملها السابق. تقول أفراح: "طُرِدتُ صباحاً، ثُمَّ جئتُ إلى هنا في المساء وبدأتُ العمل في اليوم التالي".
وتضيف صاحبة الـ23 عاماً: "اعتادت بعض الشركات النفور من توظيف السعوديين، لكنَّ هذا تغيَّر وبات العمال جادين أكثر. في السابق، لم يكونوا يُعمِّرون طويلاً (في الوظيفة) قط، فكانوا يبقون بها لشهرين أو ثلاثة، ويحصلون على بعض المال، ويشترون شيئاً، ثُمَّ يتركونها. لكن باتت هناك الآن أخلاقيات عمل أفضل بكثير".
لكنْ هناك آخرون أقل اقتناعاً بهذا. فيقول المسؤول التنفيذي السعودي: "الشباب ليسوا راغبين في العمل.. لا يمكن أن يحدث التغيير الاجتماعي والثقافي بين عشيةٍ وضحاها. الإصلاح عملية صعبة، إنَّها ليست مهمةً سهلة".