ينتظر المصري عمرو، اليوم الذي يطرد فيه من شقته، مرة أخرى، بعد أن تأخر عن دفع الإيجار لثمانية عشر شهراً وعجز عن دفع فواتير المرافق العامة.
قبل أربع سنوات، كان عمرو (71 عاماً) قادراً على تدبير معيشة هزيلة من معاشه التقاعدي البالغ 310 جنيهات، وبيع الملابس من محله في منطقة الرزاز بمنشأة "ناصر" جنوب شرقي القاهرة، حيث عاش لمدة 40 عاماً.
لكنَّ الحكومة نقلته إلى مجمع الأسمرات السكني في حي المقطم بالقاهرة، على بعد أكثر من 10 كيلومترات من منزله، لأنَّ المبنى السكني الذي كان يقطنه اعتبر غير آمن وهدم عام 2015. في البداية استضافه الجيران في منشأة ناصر، قبل تقديم الإسكان الشعبي عام 2016.
"إنها منطقة بلا روح"
يذهب عمرو، في معظم الأيام، إلى منشأة ناصر من المجمع للعمل في محله، لكنَّ رحلة الذهاب والعودة هذه تكلفه 20 جنيهاً، وهو مبلغ كبير بالنسبة إلى المعاش الذي يتلقاه، وما زاد من صعوبة الوضع اعتماده على العكازات للسير.
وفي حين قال إنَّ شقته في حي الأسمرات نظيفة وجديدة، فهي بعيدة عن مكان حياته اليومية السابقة؛ وليس ثمة أسواق أو وظائف ولا تعيش أسرته ولا أصدقاؤه في هذه المنطقة. وقال عمرو لموقع Al-Monitor الأمريكي: "إنها منطقة بلا روح ووحيدة".
أنشئ حي الأسمرات عام 2016، ليكون تحديداً للأشخاص الذين جرى إجلاؤهم من المناطق العشوائية في القاهرة.
تقدّم عمرو بطلب للحصول على قروض متعددة ليدفع الإيجار والفواتير التي تصل فيمتها إلى 300 جنيه في الشهر، لكنَّ طلباته رفضت جميعها. وقال عمرو: "إذا كانوا يرفضون طلباتي للحصول على قرض، فمن الذي يقبلونه إذن؟".
بعض الظروف المعيشية في المناطق العشوائية في القاهرة، حيث يقطن ما يصل إلى 60% من سكان المدينة، لا يمكن الدفاع عنها بحق، وأجزاء من "منشأة ناصر" ليست استثناء من ذلك. وفي عام 2008، تسبب انزلاق صخري في منطقة الدويقة المجاورة في مقتل ما لا يقل عن 119 شخصاً. الكثير من الشقق في المنطقة مكتظة وسيئة البناء وثمة القليل من المواصلات العامة الرسمية والبنية التحتية، وفي بعض الحالات ليست هناك مياه جارية ولا اتصال بشبكة الكهرباء.
ونقلت 82 عائلة، بعد انزلاق صخري آخر في منطقة الرزاز في الـ29 من شهر يناير/كانون الثاني، إلى حي الأسمرات. لم يجر الإبلاغ عن وقوع أي ضحايا. وفي حين زعمت الكثير من وسائل الإعلام المصرية أنَّ بعض البيوت دمرت، فإنَّ زيارة أخيرة لموقع Al-Monitor أظهرت أنَّ هذا ليس بصحيح.
وقال السكان للموقع إنه على الرغم من الانزلاق الصخري، فإنه لم يدمر أي منزل. ولكنهم زعموا أنَّ الحكومة كانت تريد هدم الكثير من المنازل في المنطقة لوقت طويل، لأنها من بين أسباب أخرى، ترى المنطقة غير آمنة للسكن، وتستخدم ذلك ذريعة.
وقالت واحدة من السكان للموقع الأمريكي، تكلمت بشرط عدم الكشف عن هويتها، إنَّ الحكومة هدمت شقتها. لكن لأنَّ زوجها كان في عمله بينما كان يجري نقل السكان، وبحلول الوقت الذي ذهب فيه لتسجيل اسمه في الوكالة الحكومية المحلية للانتقال إلى الأسمرات، كان آخرون قد وضعوا في القائمة بالفعل وضاعت الفرصة على أسرتها. وتعتقد أنَّ اللجوء للقضاء لا يعد بالكثير لإيجاد سكن آخر. وفي الوقت الراهن، فإنها تقيم مع العائلة في المنطقة.
هل تكون مصر خالية من "العشوائيات" قريباً؟
وفي شهر ديسمبر/كانون الأول، قال خالد صديق، مدير صندوق تطوير العشوائيات إنَّ مصر سوف تكون "خالية من العشوائيات" بنهاية عام 2019. ومع ذلك، فقد قال صديق، في مقابلة مع صحيفة Al-Ahram Weekly، في أوائل شهر فبراير/شباط، إنَّ مصر سوف تكون خالية من العشوائيات بحلول عام 2030. ولم يتسن التحقق من سبب هذا التفاوت بين التاريخين من هذه المقابلة.
ونقلت Al-Ahram عن صديق قوله إنَّ 14 مليار جنيه (798 مليون دولار) قد أنفقت بالفعل لتطوير المناطق العشوائية وإدخال تحسينات على المنازل الموجودة فيها بالفعل.
وأدرج الصندوق حوالي 1100 من "المناطق العشوائية" في مصر، وحوالي 350 في القاهرة الكبرى.
تواصل الموقع الأمريكي مع صديق من أجل هذا التقرير، ومع أنه وافق في البداية على إجراء اللقاء، فقد قال في وقت لاحق إنه غير متاح.
إخراج الناس بالقوة.. دون المبالاة بما سيحدث بعد ذلك
وقال باحثون في الإسكان العشوائي في القاهرة، إنه كان هناك تركيز أكبر على هدم المنازل وأحياناً إخراج الناس ضد إرادتهم في السنوات الأخيرة.
وقال أحمد زعزع، وهو باحث ومخطط حضري، إنه على الرغم من اختلاف أسباب كل من الهدم والإخلاء، فإنَّ النتيجة واحدة. إذ قال: "إنَّ الفكرة كلها واضحة للغاية: بالنسبة للدولة، ثمة هذا الميل لإزالة الكثير من المناطق العشوائية ونقل سكانها إلى مدن مسورة مثل الأسمرات. لا يبالون بما سوف يحدث، لا، ليس ثمة منطق. تنفذ الأوامر فحسب".
وبحلول شهر أغسطس/آب 2018، كان حي بولاق التاريخي في منطقة ماسبيرو قد سوي تماماً بالأرض. وأجبر السكان على مغادرة منازلهم ونقل معظمهم إلى مجمع الأسمرات وحصلوا على مبلغ أقل بكثير من قيمة أرضهم، وذلك بحسب السكان والباحثين.
ونظراً لارتفاع قيمة أرض منطقة بولاق، الواقعة بجوار وسط القاهرة والنيل، فقد ظلت محط اهتمام المستثمرين لأكثر من عقد من الزمان.
وإلى الشمال فحسب من وسط القاهرة، تقع جزيرة الوراق، التي يقطنها حوالي 100 ألف شخص، والتي كانت هي الأخرى محط اهتمام المستثمرين. وفي عام 2017، قتل متظاهر محلي عندما حاولت قوات الأمن، بلا نجاح، هدم بعض المنازل ليتمكن المستثمرون من إعادة تطوير الجزيرة.
وفي ذلك الوقت، انتشرت صور على منصات الشبكات الاجتماعية المصرية تظهر احتمالية تطوير الجزيرة إلى منطقة شبيهة بدبي على النيل.
وأعلن الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، في شهر مايو/أيار عام 2018 عن حملة لاستعادة جميع الأراضي المملوكة للدولة -حوالي 800 ألف هكتار وذلك وفقاً للتقديرات الحكومية- التي جرى التعدي عليها "بشكل غير قانوني".
وتعتبر جزيرة الوراق جزءاً من هذه الأراضي، لكنَّ سكان الجزيرة يزعمون أنَّ الكثير من عائلاتها يعيشون في المنطقة منذ أكثر من 100 عام وأنَّ لديهم عقوداً تثبت ذلك.
هل تنجح محاولات "التأقلم" بعد فشل "المقاومة"؟
وقال أحد سكان جزيرة الوراق لموقع Al-Monitor، بشرط عدم الكشف عن هويته: "يريدون الجزيرة بأكملها ليخلقوا مانهاتن في القاهرة. لدينا عقود لكنهم لا يقبلونها. نحن منتظرون لنرى ما سوف يحدث… ثمة الكثير من الحلول مثل أن يدفعوا لنا مبلغاً عادلاً مقابل الأرض، لكنَّ الأمور قد تصير إلى العنف".
وبينما يواصل سكان الوراق مقاومة إخلائهما، وربما ينجحون فعلاً في ذلك، فالأمر متأخر للغاية بالنسبة للكثيرين وينبغي لهم إيجاد طريقة للتأقلم مع أماكن مثل حي الأسمرات، على الرغم من الصعوبات.
وقال أحمد زعزع: "إنَّ حي الأسمرات محاط بالجدران مع بوابات قليلة ذات أبراج مراقبة عليها حراس، وثمة كاميرات تلفزيونية مغلقة داخل الحي. يشبه الأمر رواية 1984".
ووصف المؤلف والمخطط الحضري المستقل، ديفيد سيمز، هذه الظاهرة بأنها "هندسة اجتماعية" في مقابلة مع Monitor. وقال سيمز: "إنَّ انتقالهم إلى هناك يعني أنهم فقدوا رأس مالهم الاجتماعي. لا تفكر الحكومة في ذلك، فهم يبنون والسكان يجتثون من مساكنهم".