يوم الجمعة الماضي، خرج الجزائريون في مشهد مهيب إلى الشوارع للاحتجاج على ترشيح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية خامسة. حيث تعد هذه الاحتجاجات الأكبر منذ عام 2011 إبان الربيع العربي، حيث كان الناس ناقمين على الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
شملت الاحتجاجات، الجمعة، جميع أنحاء الجزائر، وعنوانها الرئيسي الكبير: "لا للولاية الخامسة!"، كانت سلمية تماماً، وأكبر من المتوقع. حيث خلق نجاحها نوعاً من الإثارة لدى الجزائريين، الذين ينتظرهم موقف فاصل في الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي ستعتمد نتائجها إلى حد كبير على كيفية استجابة النظام وتعامله مع هذه الاحتجاجات.
كيف يجب علينا فهم الاحتجاجات في الجزائر؟
يقول الباحث والأكاديمي طاهر كيلافوز لصحيفة The Washington Post الأمريكية، إن هذه الاحتجاجات هي نتيجة لأفعال النظام نفسه. إذ أرادت السلطة، "المعروفة باسم (The pouvoir)" بين الجزائريين، الحفاظ على وحدتها الداخلية، وكان لديها دافع وجيه لذلك. ففي عام 1988، أدَّت الانقسامات المتزايدة بين معسكرات النظام المتنافِسة إلى مشكلاتٍ لا حصر لها قادت إلى احتجاجاتٍ جماهيرية، وعملية تحول ديمقراطي مضطربة، وخسارة النظام للسلطة مؤقتاً، وانقلابٍ عسكري، وحربٍ أهلية لاحقة استمرت عقداً من الزمن.
ولتجنُّب سيناريو مشابه، منح النظام الأولوية للوحدة الداخلية واتُّفِق على عبدالعزيز بوتفليقة لتجنُّب الانقسامات واستمر في ذلك بالرغم من تدهور حالته الصحية لاحقاً. ومع أنَّ هذا بدا هو الخيار الأكثر أمناً، لم يستشرف صانعو القرار رد الفعل الجماهيري هذا.
ويضيف كيلافوز أن الاحتجاجات ليست بالضرورة مناهضة للنظام. إذ إنَّ المطالب المباشرة ليست متمثلة في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية أو حتى الانتخابات النزيهة، مع أنَّ هذه العوامل في طور التراكم عملياً الآن، كما يقول كيلافوز. فهتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" ليس هو الشعار الرئيسي تماماً كما كان الحال في الاحتجاجات التي عمَّت المنطقة عام 2011. بل هتف المحتجون بتصرُّف، قائلين: "الشعب يريد تمهيد الطريق" للمضي قُدُماً لما بعد بوتفليقة.
Une vidéo de la manifestation de tout à l'heure.
الشعب يريد إفساح الطريق.
سلمية سلمية.
يا لابوليس نتوما خاوتنا
يا البوليس غير اخطيك، أويحيى غدوة يرميك.#Alger pic.twitter.com/6g4e1859WI— Hamdi (@HamdiBaala) February 24, 2019
ويرى الباحث الأمريكي أن هذه الاحتجاجات مناهضة لبوتفليقة، ولنكون أكثر دقة، مناهضة للعهدة الخامسة. وبوتفليقة ليس بالضرورة شخصاً مكروهاً. إذ تمتَّع بالشرعية لفترة طويلة، كما كان الكثيرون ينظرون إليه باعتباره المُنقِذ من الحرب الأهلية وباني الاستقرار أثناء ولاياته الأولى في الحكم. لكن إذا تحدَّثنا عملياً، لم يكن الرجل هو مَن يحكم البلاد في السنوات القليلة الماضية، والناس يدركون ذلك.
كان من الممكن أن يرضى معظم المحتجين بمرشحٍ آخر. وفي حال كان النظام اتفق على مرشحٍ توافقي آخر لا يُعَد شخصية جدلية، ربما ما كنا سنرى مثل هذه الاحتجاجات. غير أنَّ المحتجين لا يهتفون لأي من مرشحي المعارضة كذلك، بل هم بالأساس ضد فكرة أن يكون لديهم رئيس تجعله حالته الصحية غير مؤهل لتولي عهدة خامسة.
ما السيناريوهات المحتملة لمستقبل الأزمة في الجزائر؟
في حين أنَّه من المبكر التنبؤ بما سيحدث بعد ذلك، فإنَّ هذه الاحتجاجات تختلف بوضوح عن احتجاجات 2011، نظراً لمطالبها المحدودة. علاوة على ذلك، لا يمكن تقدير تطور الحراكات الاحتجاجية من خلال المحتجين فقط، فالأمر يعتمد أيضاً على رد النظام. وفي هذه المرحلة، لا يمكننا إلا التكهُّن في ما يتعلَّق بالردود والسيناريوهات المحتملة لكل من المحتجين والنظام.
أولاً: مرشح بديل لبوتفليقة
قد يختار النظام مرشحاً جديداً ليحل محل بوتفليقة. وبما أنَّ هذا من شأنه أن يُمثِّل استجابة مباشرة لمطالب المحتجين، قد يحلّ تسمية مرشح جديد المشكلة. لكنّ هناك مخاطرتين يجب أخذهما بالاعتبار. فمن ناحية، قد يؤدي هذا مجدداً إلى انقسامات داخلية في النظام. ومن الناحية الأخرى، قد يكون إقناع الجماهير بمرشحٍ بديل أكثر صعوبة. وفي حال احتشدت الجماهير بما يكفي بحلول إعلان اسم مرشحٍ جديد، قد يصدرون رد فعل تجاه هذا المرشح هو الآخر.
إلا أنه وفي أول ردة فعل من قبل النظام على هذه الاحتجاجات، قال مدير حملة الرئيس بوتفليقة الثلاثاء 26 فبراير/شباط 2019، إن الرئيس سيقدم طلباً رسمياً للترشح لولاية جديدة في الثالث من مارس/آذار المقبل لخوض الانتخابات الجزائرية، مما يعني أنه النظام ما زال متمسكاً بورقة بوتفليقة حتى اللحظة، في تحدّ واضح لمطالب المواطنين.
ثانياً: سيناريو القمع الكامل وتدخل الجيش
قد يستخدم النظام القمع الكامل والتفريق والضرب والاعتقال مع المتظاهرين. فلأنَّ الاحتجاجات في مرحلة مبكرة، من الممكن إنهاؤها بإجراءات قوية. لكنَّ هذا يثير مخاطرة تحويل حراكٍ احتجاجي ذي مطالب محدودة إلى حراكٍ واسع النطاق مناهض للنظام.
وهنا، يقع احتمال تدخل الجيش لفرض الواقع بالقوة، ففي أول تعليق له على الاحتجاجات الرافضة لترشح بوتفليقة لعهدة خامسة، هاجم نائب وزير الدفاع الوطني، الفريق أحمد قايد صالح، دعوات الخروج إلى الشارع بقوة، بل وصفها بـ "النداءات المشبوهة ظاهرها التغني بالديمقراطية".
وقال قايد صالح في كلمة أمام الجيش بتمنراست، الثلاثاء: "إن الجيش الوطني الشعبي بحكم المهام الدستورية المخولة له يعتبر أن كل من يدعو إلى العنف بأي طريقة كانت تحت أي مبرر وفي ظل أي ظرف هو إنسان يجهل أو يتجاهل رغبة الشعب الجزائري في كنف الأمن والأمان".
وأضاف قائلاً: "فهل يعقل أن يتم دفع بعض الجزائريين نحو المجهول من خلال نداءات مشبوهة ظاهرها التغني بالديمقراطية وباطنها جرّ هؤلاء المغرر بهم إلى مسالك غير آمنة بل غير مؤمنة العواقب. مسالك لا تؤدي لخدمة مصلحة الجزائر ولا تحقيق مستقبلها المزدهر"، على حد تعبيره.
ثالثاً: سيناريو وقوع احتجاجات محدودة تحت السيطرة
قد يسمح النظام، كحلّ وسط، باحتجاجاتٍ محدودة تحت السيطرة حتى تهدأ التوترات. فمن ناحية، قد يُظهِر النظام بعض القوة من خلال السيطرة على شبكة الإنترنت والقمع المحدود للاحتجاجات، كما شُوهِد خلال الاحتجاجات الأحد 24 فبراير/شباط. ومن الناحية الأخرى، قد يُقدِّم تنازلات محدودة أو يشتري القادة المحتملين للاحتجاجات.
هذا السيناريو الثالث يشبه الإستراتيجية التي استخدمها النظام عام 2011 ضد الحراكات الاحتجاجية. لكنّ هناك اختلافين اليوم: الأول أنَّ بوتفليقة خرج في عام 2011 على شاشة التلفزة الوطنية وتعهَّد بإصلاحات من أجل امتصاص الضغوط. أمَّا اليوم، فليس واضحاً أي إصلاحات يمكن التعهُّد بها في وجه مطلب باستبدال بوتفليقة.
ويتمثَّل الاختلاف الثاني في أنَّ النظام استخدم موارده لزيادة الرواتب وتخفيض تكاليف الواردات الغذائية من أجل التحفيز المادي على نهاية الاحتجاجات آنذاك. لكنَّ الجزائر اليوم تمر بأزمة اقتصادية يمنع اتباع استراتيجية كهذه.
إنَّ الانتخابات الرئاسية على بُعد أقل من شهرين، والمعارضة ضعيفة ومنقسمة وغير مستعدة لمثل هذا الحراك الاحتجاجي الجماهيري. وفي حين لا توجد شك كبير في أنَّ مرشح النظام سيفوز بالانتخابات في ظل الظروف الطبيعية، ستُمثِّل الأسابيع القادمة اختباراً آخر لمرونة النظام الجزائري.