إنَّ تقييماً سريعاً قد يخلص إلى أنَّ الولايات المتحدة ليست مرشحاً نموذجياً لمهمة إدارة النظام المالي للكوكب، لكن مع ذلك لا يزال الدولار ملك العملات ويوصف بكونه "ذهب العالم الجديد"، بحسب صحيفة The New York Times الأمريكية.
فرغم أن ديون أمريكا العامة هائلة، إذ تبلغ 22 تريليون دولار، وهي آخذة في التزايد. أما سياساتها، فقد نتج عنها مؤخراً أطول إغلاق حكومي في التاريخ الأمريكي. ونظامها المصرفي على بُعد عقد واحد فحسب من أسوأ أزمة مالية منذ الكساد العظيم. ورئيسها الفخور بقوميته يثير شكاوى من الحلفاء والأعداء على حد سواء، بخرقه أعراف العلاقات الدولية؛ وهو ما أدى إلى حديث عن أنَّ الدولار الأمريكي قد فقدَ هالته بوصفه ملاذاً آمناً لا يُقهر.
لكنَّ المال يروي قصة مختلفة
إذ احتل الدولار، خلال السنوات الأخيرة، مكانة أعظم بوصفه مستودعاً مفضلاً للمدخرات العالمية، والملاذ الأهم في أوقات الأزمة والشكل الأساسي لتبادل سلع مثل النفط.
إنَّ هذه القوة المستمرة للدولار تقوِّي طريقة الرئيس الأمريكي في إدارة الأمور، إذ مكنت وزارة الخزانة خاصته من إيجاد مشترين لسندات الادخار الحكومية بأسعار رخيصة بصورة مثيرة للحسد، حتى عند إضافة تخفيضاته الضريبية التي تضيف 1.5 تريليون دولار إلى هذا الدين. وقد عززت هذه القوة سلطة ترامب في فرض سياساته الخارجية على العالم المعارض له، في غالب الأحيان بتضخيم قوة عقوباته التجارية، خصوصاً ضد إيران وفنزويلا.
لا بديل للدولار
ولأنَّ البنوك لا يمكنها المجازفة بوصولها إلى مسارات الشبكة المالية العالمية القائمة على الدولار، فقد تجشمت عناء المشقة لتنأى بنفسها عن الدول والشركات التي تنبذها واشنطن. وقال مارك بليث، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بجامعة براون الأمريكية: "ليس ثمة بديل للدولار. نحن عالقون مع الدولار، وهو ما يعطي الولايات المتحدة قوة هيكلية مذهلة".
وفي إشارة واضحة إلى أنَّ العملة الأمريكية كانت تزداد قوة، ارتفع الإقراض الذي يهيمن عليه الدولار إلى المقترضين خارج الولايات المتحدة، باستثناء البنوك، بين أواخر عام 2007 وأوائل عام 2018، وذلك بحسب بنك التسويات الدولية. إذ ارتفع هذا الإقراض ليصل إلى أكثر من 14% من الناتج الاقتصادي العالمي بعد أن كان أقل من 10%.
وقد حدث هذا على الرغم من أنَّ مجموعة كبيرة قد توقعت، بعد الأزمة العالمية، أنَّ الدولار ربما يتخلى في النهاية عن بعض هيمنته. يعني ذلك أنه، في عصر مقاومة الاستثنائية الأمريكية، قد آن الأوان لتأخذ عملة بلد آخر دورها.
ماذا عن الصين؟
تحاول الصين زيادة دور عملتها الرنمينبي، لتعكس مكانتها بوصفها قوة عالمية. وخلال العقد الماضي، اتخذت الصين ترتيبات لتبادل العملات الأجنبية مع عشرات الدول، وضمن ذلك كندا وبريطانيا والبرازيل. وتزعَّم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، مجموعة مشروعات البنية التحتية العالمية التي تنفذها الصين والبالغة قيمتها تريليون دولار، والمعروفة بمبادرة الحزام والطريق، جزئياً بوصفها وسيلة لتوسيع الاستخدام العالمي للرنمينبي. والعام الماضي (2018)، أطلقت الصين نظاماً تجارياً في شنغهاي يسمح بشراء النفط بالعملة الصينية.
لكنَّ تباطؤ الاقتصاد الصيني الآخذ في التكشف، والمخاوف بشأن ديون بكين المرتفعة، وشعور جيرانها بالقلق من أنَّ استثماراتها في حقيقة الأمر شكل جديد من أشكال الاستعمار، تضافرت جميعها للتخفيف من أهمية خططها للبنية التحتية.
وقد أدت القيود التي فرضتها الحكومة الصينية على نقل الأموال خارج البلاد، واحتجازاتها المثيرة للقلق للأجانب -التي عادة ما كانت تأتي بالتوازي مع ورطات جيوسياسية- إلى اختبار جاذبية الاحتفاظ بأموال منقوشة عليها صورة الرئيس ماو.
وقال بليث، في معرض كلامه عن البدائل المحتملة للدولار: "ماذا عن الصين؟ يمكن أن أذهب هناك ثم أختفي. هذا أمر لا يوحي بالثقة. ما إن تشرع في هذا النوع من السياسة، فلا يمكن أن تكون جاداً (عند الحديث) بشأن عملة عالمية".
اليورو هو المنافس الأبرز
المنافس الأقوى للدولار، منذ وقت طويل، هو اليورو. وفي شهر سبتمبر/أيلول 2018، كرَّس رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، جزءاً من خطابه الأخير بشأن حالة الاتحاد، للتعبير عن أسفه بسبب أنَّ الكتلة كانت تدفع نظير 80% من وارداتها من الطاقة بالدولار، في حين أنَّ 2% فحسب من الطاقة تأتي من الولايات المتحدة.
وقال يونكر: "سوف يتعين علينا تغيير ذلك الأمر. ينبغي لليورو أن يصبح الأداة النشطة لأوروبا جديدة ذات سيادة".
لكنَّ أكثر استثمار موثوق به يهيمن عليه اليورو، وهو السندات الحكومية الألمانية، يعاني نقصاً مزمناً. فمع وجود نفور ثقافي عميق من الاستدانة، كانت ألمانيا مترددة في تمويل نفقاتها من خلال بيع السندات. ونتيجة لذلك، فإنَّ المستثمرين الساعين إلى أماكن آمنة للغاية لإخفاء المدخرات، لديهم خيارات قليلة للغاية في عملة اليورو. وفي المقابل، فإنَّ سندات الادخار الأمريكية، بواقع الأمر، ذات وفرة غير محدودة.
وأدت سلسلة من الأزمات داخل البلدان الـ19 التي تتشارك التعامل باليورو إلى إثارة مزيد من العداوة لا الاتحاد، وهو ما كشف عن خلل تأسيسي: فاليورو عملة مشتركة تفتقر إلى هيكل سياسي يمكن أن يضمن استجابة قوية عند وقوع المشكلات.
وقالت كاثرين شينك، المؤرخة الاقتصادية بجامعة أوكسفورد: "مشكلات اليورو هي مشكلات تتعلق بالحوكمة. لقد كان اليورو معيباً للغاية منذ البداية، إذ لا يبدو كأنه ملاذ آمن للغاية للجوء إليه بدلاً من الدولار الأمريكي".
عملة بلا مخاوف كبرى
وعلى النقيض من ذلك، يبدو الدولار مثل مخلوق نادر الوجود على الساحة العالمية، عملة بلا مخاوف وجودية.
وفي السنوات الأخيرة، رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة، لأنه تخلص تدريجياً من الأموال الرخيصة -الأموال التي كانت تكلفة اقتراضها منخفضة- التي أطلقت لنفسها العنان في جمعها لمواجهة الأزمة المالية. وقد عززت الأسعار الأعلى، جاذبية الدولار للمستثمرين من خلال رفع معدل العائد على الأرصدة الدولارية. وكذا، فقد تدفق مزيد من الأموال على أمريكا.
وقال نيكولا كاساريني، الزميل الأقدم بمعهد الشؤون الدولية في روما: "حتى مع وجود ترامب بالبيت الأبيض، وكل ما فعله حتى الآن لتقويض القيادة الأمريكية للعالم، فما يزال الدولار هو العملة العالمية المهيمنة، ولا يبدو أنها في طور التراجع".
وقد كان هذا التحمل المؤكد للدولار هو الحقيقة البدهية التأسيسية في الشؤون العالمية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ولعل هذا المفهوم قد ازداد قوة بفعل الأزمة العالمية التي بدأت عام 2008، وذلك عكس التوقعات.
وقد تركَّز القلق الهائل في الاحتمالية المروعة التي تفيد بأنَّ البنوك العالمية لن تكون قادرة على إيجاد ما يكفي من الدولارات لتجنب أن تضع في حسبانها التعامل مع الديون القائمة على الدولار. فأصدر مجلس الاحتياط الفيدرالي -البنك المركزي الأمريكي، الذي هو بالأساس البنك المركزي للعالم- كمية ضخمة من الدولارات. وكذا، فقد نجا النظام.
وبين بداية عام 2008 وآخر عام 2018، ظلت حصة احتياطات البنوك المركزية في العالم بالدولار ثابتة تقريباً، إذ انخفضت إلى 62% من الإجمالي بعد أن كانت 63%، وذلك بحسب صندوق النقد الدولي. وقد جرى هذا، في الوقت الذي زاد فيه إجمالي الاحتياطيات -وهي الأموال التي تحتفظ بها البنوك المركزية في ميزانياتها- بأكثر من النصف.
ثبات الدولار
وخلال الوقت ذاته، انخفضت الاحتياطات باليورو إلى 20% بعد أن كانت نسبتها 27%. ويعكس معظم هذا التحول خسارة اليورو قيمته مقابل الدولار. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإنَّ عملة الصين تشكل ما يصل إلى 2% فحسب من إجمالي الاحتياطيات.
وقد عززت هيمنة الدولار قدرة ترامب على إملاء أهداف سياسة خارجية أساسية.
وقد أدى قراره إلغاء المشاركة الأمريكية في الاتفاق النووي مع إيران واستئناف العقوبات، إلى إثارة ذعر حلفاء أساسيين لأمريكا في أوروبا. إذ كانت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا تنظر إلى إيران باعتبارها مصدراً لتجارة جديدة، في حين كانت تعتمد الاتفاق بوصفه وسيلة لمنع وصول إيران للسلاح النووي.
ومع ذلك، فقد انصاعت أوروبا للعقوبات، لسبب بسيط هو أنَّ بنوكها لا تستطيع البقاء مع احتمالية قطع وصولها إلى النظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار.
وقال براد ستسر، المسؤول السابق بوزارة المالية الأمريكية والذي يشغل حالياً منصب زميل أقدم للاقتصاد الدولي بمجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، إنه بالنسبة لبنك عالمي فإنَّ "عدم القدرة على العمل بالدولار هو في واقع الأمر حكم بالإعدام. وقد كانت الولايات المتحدة قادرة على الاستفادة من ذلك".
وقد طبقت قوة مماثلة على فنزويلا، إذ يحاول ترامب الإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو. وقد كانت العقوبات فعالة فشلَّت صادرات النفط والنظام البنكي في غضون أيام.
أداة ضغط على الدول والحكومات
وزادت هيمنة الدولار الضغط على روسيا. فمن بين البواعث القوية للتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016، رغبة الرئيس فلاديمير بوتين في التخفف من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة، خصوصاً تلك المفروضة على أصدقائه. إذ أدت سنوات من العقوبات إلى تقييد حركة أموالهم في النظام المصرفي العالمي، وسهلت هيمنة الدولار تنفيذ هذه التقييدات.
لا شيء أبدياً في الاقتصاد العالمي، وهو ما يجعل هذا العصر، في ديمومته، مثل أي عصر آخر. ويرى البعض في استخدام إدارة ترامب الدولار أمراً سوف يترتب عليه رد فعل عكسي.
إذ شكلت فرنسا وألمانيا وبريطانيا، مؤخراً، شركة تجارية سمحت للشركات الأوروبية والإيرانية بتبادل الطعام والدواء، اعتماداً على نظام مقايضة، للالتفاف حول العقوبات.
واتهم بينوا كوريه، أحد أعضاء مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، في خطاب ألقاه الأسبوع الماضي، الولايات المتحدة باستخدام الدولار لفرض سياساتها على الآخرين.
وقال كوريه: "كونك مَصدر العملة الاحتياطية العالمية يمنحك سلطة نقدية دولية، لا سيما القدرة على استخدام الوصول إلى الأنظمة المالية وأنظمة الدفع بوصفها سلاحاً". وفي مواجهة "قوة الإكراه" هذه، فإنَّ أوروبا ملزمةٌ رفع "المكانة العالمية" لليورو، من خلال استخدام العملة "أداة لإظهار النفوذ العالمي".
وللصين هي الأخرى أفكارها الخاصة بشأن المسار الصحيح للتاريخ
فهذه الشبكة من مشروعات السكك الحديدية والطرق السريعة والمشروعات البحرية التي تمولها من آسيا إلى أوروبا متعلقة، جزئياً، بتمكين نقل البضائع الصينية دون الاعتماد على ممرات الشحن الخاضعة لرقابة الولايات المتحدة. ويأتي دعم الصين البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية بغرض خلق مصدر بديل لرأس المال.
لكن في حين قد يكون هذا هو المستقبل، فإن الدولار بالوقت الراهن يشغل المكانة نفسها التي شغلها منذ فترة طويلة، فهو أقرب شيء إلى اليقين في اقتصاد عالمي متقلب.