قبل عدة أشهر وفي حين كان العالم يصب جام غضبه على المملكة بسبب اغتيال الصحفي السعودي المرموق جمال خاشقجي بقنصلية بلاده في إسطنبول على يد عملاء تابعون لجهاز الاستخبارات- تدخّل الملك سلمان بن عبد العزيز وأصدر عدة أوامر ملكية، منها إعادة هيكلة مجلس الوزراء.
قال البعض حينها إن الملك الثمانيني تدخل حتى لا تنزلق البلاد إلى منعطف خطير يؤدي إلى تدهور علاقاتها الخارجية بشكل كبير مثلما حدث عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وجريمة خاشقجي.
قرارات العاهل السعودي كانت تصب في اتجاه تقليم أظافر الأمير الشاب ولي العهد، من خلال تخليه عن مستشاريه المقربين، لكن دون المساس بمناصب محمد بن سلمان، حتى لا يظهر أن الرياض الرسمية تعترف بتورط ولي العهد في اغتيال خاشقجي.
لكن بعد مرور نحو 3 أشهر على التعديلات التي قام بها الملك سلمان والتي ظن البعض أنها ستحجّم دور الأمير الشاب، عادت الأمور إلى طبيعتها بالشكل الذي كانت تدار به قبل هذه التعديلات، وعادت الشخصيات التي أقيل بعضها من منصبه والبعض الآخر تولى مناصب أقل من التي كان يشغلها إلى المشهد مرة أخرى.
تراجع دور الأمير خالد الفيصل
كان الأمير خالد الفيصل، المستشار الخاص للملك سلمان ونجل شقيقه الراحل الملك فيصل، البطل الأول لصد الهجمة التي كانت موجهة ضد المملكة، فالرجل طاف بالمنطقة شرقاً وغرباً لتهدئة الأجواء، إذ حاول استرضاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي كان غاضباً جداً من وقوع الجريمة على أراضيه، وأيضاً بسبب علاقاته الخاصة بالصحفي الراحل، لكن أردوغان لم يستجب لطلبات الفيصل.
فمنذ الجريمة برز نجم الرجل، أو بالأحرى عاد الضوء يسلَّط عليه مرة أخرى، حتى قال البعض إنه قد يكون خلفاً للأمير محمد بن سلمان في منصب ولي العهد، لكن الأمر لم يكن كذلك، وغاب الضوء مرة أخرى عن الرجل الذي كان يراه الكثيرون الصوت العاقل في أحفاد الملك المؤسس.
فخلال الفترة الأخيرة وبعد انتهاء العاصفة التي رافقت الجريمة، تراجع دور الأمير خالد بشكل كبير، ولم يعد يؤدي أي دور في السياسة الخارجية كما كان يحدث في بداية الأزمة، وهو ما أثار التساؤل حول جدية الملك، أو إن شئت فقل قدرة الملك على إحداث توازن في الديوان الملكي وتغليب رأي ولي العهد على قرارات الملك.
فبالتأكيد لم يكن يوافق محمد بن سلمان على ما يقوم به خالد الفيصل، أو على الاقل يقبل تحركاته على مضض، خاصة أنه يمثل الصوت الهادئ في الأسرة الحاكمة، ويمكن أن يجمع رافضو ولي العهد أو الغاضبون منه عليه، لإحداث توازن ما داخل البيت الداخلي.
ملف الخارجية ما زال بيد الجبير
كان المشهد الأبرز في قرارات الملك سلمان هو إقالة وزير الخارجية عادل الجبير وتنصيب إبراهيم العساف الذي كان معتقلاً في حملة الفساد بدلاً منه، في حين تقلد الجبير منصباً أقل من منصبه السابق وهو وزير الدولة للشؤون الخارجية.
وجرت العادة بأن يكون منصب وزير الدولة مهمشاً إلا في الحالة الإماراتية التي يقوم بها وزير الدولة للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، بمهام الوزير الشيخ عبدا لله بن زايد، لكن الأمر في السعودية كان مختلفاً.
الجبير الذي برز بشكل لامع في أثناء وجوده سفيراً للمملكة في واشنطن قبل أن يتولى الحقيبة منذ رحيل وزير الخارجية المخضرم سعود الفيصل في عام 2015، ارتبط اسمه بعاصفة الحزم كما أنه كان أحد الوجوه الجديدة التي جاءت مع الأمير محمد بن سلمان.
بشكل غير مباشر، ارتبط اسم الجبير بجريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، من خلال حملة التبرير التي كان يقوم بها وينفي تورط المملكة في القضية برمتها، قبل أن تعترف السعودية لاحقاً بقتل خاشقجي بشكل بشع وعلى يد سعوديين أيضاً، فلعل قيام الملك بتغيير الجبير في ديسمبر/كانون الثاني 2018، جاء في هذا السياق، وربما قد يكون السبب أيضاً فشل الخارجية السعودية في وقف الحملة على السلطات السعودية بعد الجريمة.
لكن ومنذ الإعلان عن التعديلات الوزارية، ما زال الجبير هو البطل الأول للخارجية، في حين لا يظهر الوزير العساف في أي من اللقاءات أو المؤتمرات المهمة، ولعل الظهور الأخير للجبير في مؤتمر وارسو الذي استضافته العاصمة البولندية، وقبله مؤتمرات أخرى كشف مدى تمتع الجبير بمنصبه القديم دون أي تغيير يُذكر.
ولعل وزير الخارجية الجديد، إبراهيم العساف، هو بنفسه قال: "لا فرق بيني وبين الجبير في المهام"، في أول تصريح له عقب توليه المنصب رسمياً، وهو ما يشير إلى أن قرار إقالة الجبير كان من باب تسكين الرأي العام العالمي، وأيضاً من أجل مرور عاصفة الانتقاد الكبيرة للرياض.
سعود القحطاني يمارس عمله!
الرجل الأخطر والمتهم الأول في جريمة اغتيال جمال خاشقجي. جاء القرار الملكي بإقالته من منصبه وعدم الزج باسمه في القضية رسمياً، لعل ذلك قد يتسبب في تورط ولي العهد محمد بن سلمان في الجريمة، لكون القحطاني لا يقدح بشيء من رأسه، بل هو منفذ لأوامر ولي العهد، هكذا قال القحطاني نفسه في تغريدة وهو يرد على أحد المنتقدين له.
لكن القرار الملكي جاء بإقالة القحطاني من منصبه، إلا أن الرجل ما زال يمارس عمله مستشاراً لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بحسب ما ذكره مسؤولون أمريكيون وسعوديون قالوا لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية، إن الرجل ما زال يتردد على الأمير محمد بن سلمان ويقوم بعلمه كما هو.
هذه الأخبار الواردة من البلاط الملكي بشأن القحطاني تشير إلى أن قرار الملك لم ينفَّذ فعلياً، بل كان حبراً على ورق، لأنه على ما يبدو فإن الرجل لا يمكن أن يستغني عنه الأمير محمد بن سلمان، لنفوذه الكبير وقدرته على تنفيذ الأوامر.
كما أن القحطاني أيضاً كان حلقة الوصل المهمة بين قائد عملية الاغتيال ماهر المطرب والآمر الأول بالجريمة الأمير محمد بن سلمان كما تقول التقارير الاستخباراتية التي سربتها تركيا وصدّقت عليها جينا هاسبل مدير الاستخبارات الأمريكية، وهو ما يعني أنه في حال تهميش القحطاني أو اعتقاله قد يسرب الرجل المعلومات المهمة التي في حوزته والتي قد تدين ولي العهد بشكل مباشر، أو أن كله برغبة وإرادة من ولي العهد نفسه.
وهذا يعني أن قرار الملك إقالة القحطاني لم ينفَّذ بالشكل الذي كان يُنتظر منه، بل بالعكس القرار جاء بهدف الانحناء للعاصفة الدولية التي تستهدف الأمير محمد بن سلمان نفسه وفي الوقت نفسه يمارس الرجل مهامه في الخفاء، ولعل أهم الأدوار التي يقوم بها قيادة والإشراف على ما يعرف بـ "الذباب الإلكتروني".
تركي آل الشيخ في منصبه الجديد
ظل أبو ناصر، كما يحلو له أن يلقب، يشغل منصب مستشار الديوان الملكي بمرتبة وزير، لكن تم تغيير منصبه من رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للرياضة إلى منصب رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه السعودية.
يقول البعض إن تركي آل الشيخ لا يقل دوره عن دور سعود القحطاني، ولكن هذا الرجل يقوم بالمهام الأقل خطورة، ويقول آخرون إن ولي العهد لم يوافق على إقالة آل الشيخ من جميع مناصبه، ولعل ذلك بسبب تورط آل الشيخ في جريمة اغتيال خاشقجي، لكنه كان يثير الكثير من الأزمات والمشاكل الرياضية في السعودية بحكم منصبه، وكان ذلك يسبب الكثير من السخط عليه داخلياً، ولعل هذا كان سبب إقالته.
لكن منصبه الجديد قد يكون أكثر خطورة من ذي قبل، فالرجل له دور مهم في تشكيل وعي السعوديين الآن عبر هيئة الترفيه التي يُنظر إليها على أنها بوابة المملكة للتمدن والتخلص من "الفكر المتطرف"، هكذا يروج لها في الأوساط الخارجية.
لكن، كان البعض ينظر إلى إقالته من المنصب السابق باعتبارها ضرورة لتتغير المشهد الحالي للسياسة السعودية، بكون ارتباط سياسات الأمير الأخيرة داخلياً بنفوذ آل الشيخ والقحطاني، لكن مع تقلد المنصب الجديد بات دوراً أكثر وقدرته على التأثير على قرارات الأمير محمد بن سلمان أكبر، وهو ما يعني أن الهدف من تغيير منصبه لم يكن إلا من باب إرضاء الغاضبين منه داخلياً وخارجياً، وليس شيئاً آخر.
المتهمون الغامضون
التدخل الملكي لإعادة بوصلة السياسة السعودية جاء في وقت قال البعض فيه إنه مناسب، والبعض الآخر قال إن الوقت متأخر، لكنه كان أمراً ينتظره الكثيرون، سواء في المملكة من أبناء الأمراء الغاضبين من قرار الأمير محمد بن سلمان، أو خارجياً بسبب جريمة خاشقجي لتسكين حالة الغضب الداخلية والخارجية عبر هذه القرارات، لكن يبدو أن الأمر لم يتحقق كما يريد البعض.
فمثلاً، الأشخاص الذين وجهت إليهم السعودية اتهامات رسمية بقتل الصحفي جمال خاشقجي، والذين قالت إنهم 18 شخصاً، وطالبت النيابة العامة بإعدام 5 منهم، لم يتم الإعلان عن أسمائهم ولا عن أماكن احتجازهم، على الرغم من تسريب معلومات عن المتهمين بالإعدام بسبب الجريمة.
لكنَّ اثنين من المسؤولين السعوديين قالا لصحيفة The Wall Streer Journal الأمريكية، إنَّ المتهمين الخمسة الذين يواجهون عقوبة الإعدام هم أحمد عسيري نائب رئيس المخابرات السابق، وماهر المطرب العضو السابق في الحرس الملكي السعودي، وصلاح الطبيقي، ومصطفى مدني، وثائر غالب الحربي.
وكانت السلطات التركية قد اتَّهمت عسيري بالتخطيط للعملية، وتعرَّفت على هوية مدني حين غادر القنصلية السعودية مرتدياً ملابس خاشقجي، في محاولة لخداع الكاميرات الأمنية. وقالت السلطات التركية إنَّ المتهمين الثلاثة الآخرين كانوا ضِمن الفريق السعودي الذي أُرسِل إلى إسطنبول.
في الوقت نفسه، يرى البعض أن هذه الأسماء ليست إلا من باب تهدئة الرأي العام العالمي بسبب الجريمة، وأن بعضهم ستتم التضحية به، حتى يكون هناك من يتحمل عقوبة اغتيال خاشقجي في حين يرى آخرون أن المتهم الرئيس لن يتعرض لأي أذى، لأنه باختصار هو "الأمير محمد بن سلمان".
ورغم كل ذلك، يظل الكثير من المعلومات المهمة في قضية خاشقجي لم يطلع عليها أحد ولا تريد المملكة أن تقولها لأحد، وهو ما يثير الشكوك في جدية السعودية في معاقبة القتلة الرئيسين رغم التصريحات المتكررة من المسؤولين بالمملكة، وكان آخرهم الجبير، بأن العدالة ستتحقق في النهاية.