تعد تجارة الأعضاء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تجارةً رائجة، فوفقاً لتقرير صدر عام 2018، جمع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة بيانات عن 700 حالة من حالات الاتجار في الأعضاء، في تلك المناطق. ومع ذلك تعدّ هذه الأرقام متحفظة في أحسن الأحوال، ويصعب تقييم الحجم الحقيقي لهذه التجارة، إذ إن غالبية الحالات لا يُبلغ عنها، لأن الضحايا يشعرون بالتردد إزاء التقدم بشكوى، خوفاً من الترحيل أو الاعتقال أو الفضيحة.
ويبدو أن هذه التجارة مزدهرة في مصر على وجه الخصوص، باتت تدعمها القيود الصارمة التي تفرضها القوات الأمنية على اللاجئين، التي يمولها الاتحاد الأوروبي. إذ تخلق البيئة المعادية هناك، التي أوجدها الاعتقال التعسفي للمهاجرين، وارتفاع أجور المهربين، فرصةً مثالية لسماسرة الأعضاء معدومي الضمير، الذين يتربصون بأولئك اليائسين الذين يتوقون لجمع الأموال بأي وسيلة لعبور البحر المتوسط.
"اعتقدت أنها أسرع وسيلة للحصول على المال"
يقول الدكتور شون كولومب، المحاضر في القانون في جامعة ليفربول بالمملكة المتحدة، بمقالة كتبها بصحيفة The Guardian البريطانية: "أخبرني داويت، الذي كان يرتدي قبعة بيسبول ويدخن الشيشة في أحد مقاهي القاهرة، أنه يبلغ من العمر 19 عاماً، لكنه يبدو أصغر سناً. ويوضح قائلاً إنه فرَّ من إريتريا في سن الثالثة عشرة، لتجنب الخدمة العسكرية الإلزامية لأجل غير محدد.
ساعدته عائلته في دفع الأموال للمهربين للسفر إلى مصر عبر السودان، وقد بحث عن وظيفة منتظمة، لأنه كان يرزح تحت وطأة الديون ويسعى جاهداً لعبور البحر إلى أوروبا، ولكن بلا جدوى. وحدث بعدها أن التقى برجل سوداني اقترح "طريقة آمنة وسهلة" لجمع الأموال، وهي بيع كلية".
يقول داويت: "اعتقدت أنها ستكون وسيلة جيدة للحصول على المال بسرعة والسفر إلى أوروبا، كنت قلقاً، لكنه أقنعني أنها عملية شديدة السهولة، وأنه بإمكاني أن أحيا حياة طبيعية بكلية واحدة. كان مبلغاً كبيراً من المال، كيف كان لي أن أرفض 5000 دولار، في وقت لم أكن أملك فيه شيئاً، وعائلتي بحاجة إلى المساعدة؟".
أجرى داويت تحاليل الدم والبول، ثم اقتادوه إلى الجراحة. يواصل الحديث: "استغرقنا الليل بأكمله حتى نصل إلى المستشفى بالسيارة، أتذكر أنني سرت في الطابق السفلي، وانتظرت كي أتحدث مع الطبيب، ثم دخلت إحدى الغرف، حيث طلبوا مني تغيير ملابسي والاستلقاء على السرير. وجلّ ما أتذكره بعد ذلك هو أنني استيقظت وشعرت بآلام مبرحة في جانبي. بدأت في الصراخ والسباب حتى جاء السمسار ليعيدني إلى الشقة".
استغلال المهاجرين والاحتيال عليهم
بعد الجراحة، أخذ السمسار، الذي يُدعى علي، داويت إلى شقة في حي المهندسين بالجيزة ليأخذ فترة نقاهة. وهناك تعرَّف على إريتريّ يُدعى إسحاق، الذي وعده بنقله إلى دمياط، حيث سيأخذه قارب صيد من هناك إلى صقلية. وشجَّع السمسار داويت على قبول عرضه، وادَّعى أنه سيستخدم الأموال التي كان يدين بها داويت لتأمين سفره إلى صقلية.
يقول داويت: "انتابني شعور بارتياح غامر تجاه إسحاق بعد حديثي معه، كان إريتريّاً، ولم يبدُ مثل اللصوص. أخبرني أنه يُهرِّب مئات الأشخاص كلَّ شهر، وأنه لا يحتاج إلى المال. لقد جعلني أشعر وكأنه هو الذي يسدي لي معروفاً، أعطاني رقم هاتفه وأخبرني أن أتصل به عندما أكون مستعداً".
يقول داويت إنه أمضى أسبوعين آخرين في الشقة للتعافي من آثار الجراحة، ولدى شعوره باسترداده عافيته اتصل بإسحاق لتأكيد ترتيبات السفر، لكن خط الهاتف كان متوقفاً، ولم يكن لعلي مقر معروف يمكن العثور عليه فيه، وداويت مقتنع أن علي استخدم المال ليشقَّ طريقه هو إلى أوروبا، وعندما أبلغ الشرطة بالحادث هدَّدوه بالترحيل.
تشير الأدلة المتواترة إلى أن سماسرة الأعضاء يقتربون بشكل متزايد من المهاجرين بعرض المرور إلى أوروبا مقابل التبرع بأحد أعضائهم. والمفارقة أن هذه التجارة مدفوعة بسياسة الاتحاد الأوروبي الواسعة، الرامية إلى "نقل إدارة الحدود" من خلال زيادة قدرة بعض الدول الإفريقية مثل ليبيا ومصر والسودان على إدارة الهجرة، وبدعم من صندوق الاتحاد الأوروبي لحالات الطوارئ في إفريقيا.
الشبكات الإجرامية تسيطر
تشير الأرقام الصادرة عن المفوضية الأوروبية عام 2018، إلى أن عدداً أقل من الناس أصبحوا يفرّون إلى أوروبا عبر الساحل الشمالي المصري. ومع ذلك في حين أن أعداد المهاجرين وطالبي اللجوء واللاجئين الذين يستخدمون المنطقة الوسطى المصرية من البحر المتوسط للعبور تناقصت، فإن الإغلاق الفعلي للحدود قد دفع الناس إلى المزيد من التطرف، مما زاد من سيطرة الشبكات الإجرامية، ولأن المهاجرين يعتزمون الخروج من مصر بأي وسيلة، فهم يُستَهدفون لبيع أعضائهم.
وفي شارع قريب من ميدان التحرير، ينتظر إبراهيم خارج أحد المقاهي. وأشار يدعوني إلى الجلوس على أحد الكراسي، ويقول إن دوره هو إيجاد المهاجرين كجزء من شبكة تهريب تعمل على طول الساحل الشمالي المصري.
يقول: "يأتي الناس إليَّ لتنظيم إجراءات السفر والدفع، وأُبلغ رئيسي أنني تسلمت الأموال، ومن ثم أحضر هؤلاء الأشخاص من القاهرة إلى الإسكندرية، وهم يقيمون في مستودعات في مزارع الدجاج، وينتظرون هناك حتى يحين الوقت المناسب للسفر عبر البحر".
وبسبب المداهمات الحكومية، رفع المهرّبون الذين يعملون خارج مصر وليبيا الرسوم من 1500 دولار إلى 3500 دولار، للحفاظ على الأرباح. وبسبب عدم قدرتهم على دفع تكاليف السفر يحيل المهربون المهاجرين إلى سماسرة أعضاء في القاهرة لجمع المبلغ المطلوب.
وينصح إبراهيم قائلاً: "يمكن أن يدفع الناس أقل من السعر المطلوب (3500 دولار)، ولكن إذا فعلت ذلك فستكون مثل راكب من الدرجة الثالثة، إذ يمكن أن ينتهي المطاف بهؤلاء في مراكز الاعتقال، حيث لن يُطلق سراحهم إلا إذا وافقوا على العمل، أو بيع أجسادهم لممارسة الجنس".
يميل إبراهيم في جلسته بحركة معقدة لتناول سيجارة، وينفث دخانها ببطء، فيما يفكر ملياً فيما يريد أن يقوله بعد ذلك.
يقول: "هناك بعض الناس الذين لا يعنيهم شيء سوى الحصول على المال. ولا يبالون إذا وصلت إلى وجهتك أو انتهى بك الأمر ميتاً في البحر، ولهذا السبب أنصح الناس بالدفع مقدماً، حتى لو كان ذلك يعني بيع كلية".
قصص مأساوية.. والسلطات لا تبالي كثيراً
يضيف د. كولومب، الذي يؤلف كتاباً عن تجارة الأعضاء، سينشر عام 2020: يريني إبراهيم الثقوب التي أحدثتها الرصاصات في إطار باب المقهى، وهي من آثار الثورة، عندما كان المتظاهرون يتعرضون لإطلاق النار أثناء المظاهرات، في 25 يناير/كانون الثاني 2011. وهو يعلم أن ما يفعله غير قانوني، لكنه يرى أن الحكومة على خطأ: "لا أعتقد أن عملي سيئ، لأنني أساعد الناس على تغيير حياتهم إلى الأفضل".
صدر قانون حظر بيع الأعضاء عام 2010، ولكنه دفع التجارة إلى مزيد من السرية. تروي آشا السودانية كيف جُنِّدت في الخرطوم ونُقلت إلى القاهرة. قالت: "قالوا إنهم سيجدون لي عملاً ثم سيأخذونني إلى إيطاليا، لم أشعر بالثقة في هؤلاء الرجال، لكن كان من المستحيل بالنسبة لي البقاء في الخرطوم، إذ مرض أطفالي من الجوع، لذا وافقتهم".
عندما وصلت إلى القاهرة قالوا لآشا إنها لن تذهب إلى أوروبا، ولكن كان عليها أن "تتبرع" بكليتها، ووعدوها بالحصول على مبلغ 2000 دولار إذا امتثلت. وقال الرجال إنها إذا لم تفعل فإنهم سيأخذون كليتها عنوة، نُقلت آشا في سيارة أجرة إلى شقة غير محددة المعالم في الإسكندرية.
قالت: "أدركت أنني في الإسكندرية، لأنه كان بإمكاني رؤية البحر من سيارة الأجرة، ثم وجدت نفسي في غرفة مزوّدة بمعدات طبية، ولكن هذا كل ما يمكنني إخبارك به، حبسوني في الغرفة، وأخبروني أن عليَّ التفكير في أبنائي".
بعد خضوعها للعملية الجراحية أبلغت آشا الشرطة عن أحد السماسرة. وقد أُلقي القبض عليه واعتُقل لمدة 30 يوماً، ثم أُطلق سراحه دون اتهامه بشيء. في يوليو/تموز عام 2018، أعلن بيان صادر عن وزارة الصحة المصرية، أن محكمة مصرية أدانت 37 شخصاً بتهم تتعلق بالاتجار غير المشروع في الأعضاء البشرية، ولم يأتوا على ذكر الضحايا.
وقال متحدث باسم وزارة الخارجية المصرية: "تواصل السلطات المصرية بنشاط متابعة جرائم الاتجار بالأعضاء والتحقيق فيها وتقديمها للعدالة، وفقاً لأحكام القانون الجنائي الصارمة. وعلاوة على ذلك لم تتغاضَ الحكومة المصرية وسلطات إنفاذ القانون عن هذه التجارة البشعة غير المشروعة. سنستمر في مكافحة مثل هذه الجرائم، وتقديم المتورطين في تجارة الأعضاء إلى العدالة، فيما نعمل على حماية المواطنين المصريين، وكذلك ضيوفنا من اللاجئين والمهاجرين".
تعيش آشا في خوف على حياتها، وهي عرضة لتهديد وترهيب السمسار وشركائه. وتقول إنهم أخبروها أنها إذا لم تسحب بلاغها فإن أبناءها سوف يتحملون العواقب. تقول آشا: "إنني أشعر بالقلق إزاء ما يمكن أن يصيب أبنائي، أخشى ما أخشاه أن يأخذوا أعضاءهم أيضاً".