"يبدو مسجد كيبيك الكبير أشبه بفرع بنك أكثر مما يبدو مكاناً يصلي فيه المسلمون"
وبالفعل كان هذا المسجد، في الأساس فرعاً من فروع بنك Desjardins الكندي، ولا يزال يبدو كما لو كان بنكاً، بصفوفه من الألواح الزجاجية المستطيلة والممر المسدود بمتراس، حسب وصف تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
فحتى الهلال والمنارة الوحيدان للمسجد فهما على شكل صورة مرسومة على لافتة بلاستيكية صغيرة، تحجبها أشجار عن الطريق.
لابد أنَّ المظهر الاعتيادي للغاية لهذا المسجد قد أدهش أولئك الذين سمعوا عنه فحسب في "إذاعة القمامة"، وهو الاسم الذي يطلق في كيبيك على البرامج الإذاعية المُحافِظة.
وتحول المسجد إلى حديث الناس في كندا بعد أن فتح ألكسندر بيسونيت، اليميني المتطرف البالغ من العمر 27 عاماً في عام 2017، النار على الرجال والأطفال داخل الجامع، فقتل 6 أشخاص وأُصيبَ 19 شخصاً وأصاب الكثير من رواد الجامع الأسبوعيين الذين يبلغ عددهم 500 مصل بالصدمة.
ورغم بشاعة المذبحة فإنَّ مضيفي هذه البرامج الإذاعية استمروا في تشويه سمعة المسجد، زاعمين كذباً أنَّ النساء يُجبَرن على دخوله من بين صناديق القمامة "مثل الماشية".
تحول دراماتيكي منتظر سيجعل المسجد يليق باسمه
بالنسبة لمكان مُثقَل بالكثير من المآسي، فإنَّ هذا المسجد بعد عامين من المذبحة يظل عصياً على الوصف بشكل ملحوظ، حسب الصحيفة البريطانية.
ومما يزيد من أثر بساطة هذا المسجد، الكاتدرائية الفرنسية، التي بنيت في الحقبة الاستعمارية، القائمة أمامه مباشرة في الجانب الآخر من الشارع.
وهذه الكنيسة هي الأخرى مكان عبادة مكروب، إذ أدى عدد من الحرائق منذ القرن الثامن عشر إلى تقليص موقعها التاريخي إلى محض واجهة حجرية مزخرفة.
لكن بعد وقت قريب، سوف يمكن لهذه الكاتدرائية أن تحظى بتوأم. فبانتظار موافقة الحكومة الكندية، سوف يمر مسجد كيبيك الكبير بتحويل دراماتيكي ليكون أكثر ملاءمة لاسمه.
لقد قرروا استعارة معمار الكنيسة المجاورة، ولكن هذا لايكفي
يعيد هذا التجديد تشكيل هذا المبنى الأحمر المستطيل ليكون صرحاً معاصراً ذا سمات إسلامية كلاسيكية: أقواس وتصاميم أرابيسك ومنارة مستوحاة من برج الجرس الجزئي للكاتدرائية.
لكنَّ هذا التصميم لا يحظى بإعجاب جميع مسلمي مدينة كيبيك.
إذ تشعر إحدى المجموعات بأنَّ عليهم فعل شيء جميل لعرض المسجد بوصفه جزءاً من الثقافة الكيبيكية، مثل كنيسة قديمة، ليكون علامة على أنهم ليس لديهم ما يخفونه، وذلك وفقاً لما قاله زيد خليل، الذي يرأس اللجنة الاستراتيجية للمركز الثقافي الإسلامي في كيبيك.
ويخشى جزء آخر من الجالية، بما فيهم خليل، من أنَّ هذا الأسلوب المعماري -لاسيما المنارة- من شأنه استفزاز المزيد من الهجمات وتقويض الإجراءات الأمنية الأخيرة.
والبعض يعترض على الإجراءات الأمنية
وتعترض مجموعة ثالثة على هذه التدابير الأمنية نفسها، لا سيما غلق الأبواب أوتوماتيكياً، مفضلين أن يكون المسجد مفتوحاً 24 ساعة في اليوم، كما هو الحال مع معظم مساجد العالم الإسلامي.
لكن بخلاف هذه المساجد، فإنَّ المسجد الكبير مركزي بالنسبة للجالية المسلمة المهاجرة.
إذ يدير المركز الثقافي الإسلامي في مدينة كيبيك مدرسة يوم الأحد، وفصلاً لتدريس العربية، وحضانة وأنشطة عائلية داخله.
وقالت أميرة بولمرقة، مديرة مدرسة كيبيك الإسلامية: "إدارة هذه الأنشطة كانت أمراً صعباً لأنَّ العائلات خائفة من الذهاب إلى هناك".
إذ توقفت عدد من العائلات عن الذهاب إلى المسجد، بينما غادرت عائلات أخرى مدينة كيبيك بالكامل.
وقالت أميرة: "ينبغي أن يكون المسجد متاحاً 24 ساعة، لكن في ضوء الاضطرابات والمشكلات الكبرى في العالم، فإنني لا أعتقد أنَّ المساجد ينبغي أن تكون مفتوحة بشكل دائم، ولا ينبغي أن تظل مفتوحة دون مراقبة".
ولكن المشكلة أن المساجد في أمريكا الشمالية كلها لم تعد آمنة
تكافح المساجد في جميع أنحاء أمريكا الشمالية للموازنة بين الأمن والانفتاح.
وقال قاسم علي، المدير التنفيذي للمركز الإسلامي الأمريكي في مدينة ديربورن بولاية ميشيغان: "من الناحية النفسية، عندما يضطر الناس إلى المرور بعدد كبير من العراقيل لحضور الصلاة، فإنهم يبدأون بالشعور بالقلق حيال المكان نفسه".
ولما كان هذا مسجد هذا المركز واحداً من أكبر مساجد الولايات المتحدة وأكثرها شهرة، فهو هدف متكرر للتهديدات والمضايقات والمظاهرات المعادية للمسلمين.
وبعد أن تعهد القسيس الذي اشتهر بحرق القرآن بأن يفعل الشيء ذاته أمام مسجد ميشيغان عام 2011، بدأوا في توظيف حراس مقيمين في الموقع.
ومع تطور عناوين الأخبار، تتغير الحراسة على المسجد.
فقد يحرس المسجد عدد يصل إلى ثلاثة خفراء. وقال علي: "يمكننا أن نضع سلكاً شائكاً، وجهازاً للكشف عن المعادن، وأجهزة للأشعة السينية، لكنَّ النتيجة أنَّ أحداً لن يود المجيء".
فبعضها يغلق بعد صلاة العشاء
لم تغلق الجمعية الإسلامية في هيوستن الكبرى قط أبواب مساجدها العشرين، حتى اندلاع موجة أخيرة من الإحراق المتعمد والتخريب في مساجد تكساس.
أما الآن، فإنَّ هذا المساجد تغلق أبوابها بعد صلاة العشاء. واستخدمت الجمعية أيضاً أحد أقسام الشرطة وشركة أمنية للمراقبة والمساعدة على تنفيذ التوصيات الخاصة بكل مسجد.
وأبلغت مساجد أخرى في أنحاء البلاد عن تنصيبها لمخارج طوارئ وأنظمة كاميرات متطورة، وزجاج مضاد للرصاص ولوحات مفاتيح مشفرة.
تصل التكاليف إلى 200 ألف دولار في المتوسط للمسجد الواحد.
وأصبح المسلمون أكثر حاجة من اليهود لحماية دور عبادتهم
في كندا، تغطي الحكومة الفيدرالية نصف هذه التكلفة. وقد كان هذا البرنامج موجوداً رسمياً منذ عام 2012، لكنَّ معظم المستفيدين منه في السابق كانوا مجموعات يهودية.
وبعد الهجوم المسلح على المسجد الكبير، تقدم عدد غير مسبوق من المنظمات للحصول على هذا التمويل.
والآن، فإنَّ ما يصل إلى ثلثي المستفيدين منه مجموعات مسلمة.
وكاميرات المسجد هي التي أدانت المجرم
ولطالما استثمر المركز الإسلامي في كيبيك في التحسينات الأمنية قبل المذبحة التي ارتكبها بيسونيت في مسجد كيبيك الكبير.
في الواقع، كانت اللقطات المتعددة للكاميرا دليلاً أساسياً أثناء محاكمة بيسونيت.
وشرح أيمن دربالي، الذي أصيب خلال مذبحة المسجد: "كان السماح بدخول المسجد مبرمجاً حسب أوقات اليوم -10 دقائق قبل الصلاة، و10 دقائق بعدها".
كانت صلاة العشاء قد انتهت لتوها عندما دخل المهاجم من الباب وبدأ في إطلاق النار. لو كان بيسونيت قد جاء بعد ذلك ببضع دقائق، ربما كان دربالي ليكون قادراً على المشي اليوم.
وأصبح هاجس الأمن يسيطر على الناجين من الحادث
والآن، يطلب المركز من المصلين التقدم للحصول على بطاقات دخول شخصية، ويحظر على الأطفال فتح الأبواب من الداخل.
ويراقب أحد الناجين من هذه المأساة البث المباشر للكاميرا من شقته على بعد حي.
ومن المتوقع تطبيق المزيد من التحسينات مع إعادة البناء، لكنَّ الأمان مجرد جزء من الهدف.
إذ كان الغرض الرئيسي هو التوسع.
ومع أنَّ التصاميم عرضت على المصلين العام الماضي فحسب، فقد رسمها مهندس معماري مسلم من المسجد وشركة محلية قبل عامين من المذبحة.
Yesterday, representatives of communities from Coast to Coast to Coast and from all parties gathered around to mark 2 years since the attack on the #Quebec City mosque. As Canadians, we are strongther together and we will push back against hate #PushBackTheDarkness pic.twitter.com/Tg2AUmbFJ2
— Sonia Sidhu MP (@SoniaLiberal) January 30, 2019
ولم يتوقعوا قط الحصول على الأموال لتنفيذ هذا المشروع الذي تبلغ تكلفته ملايين الدولارات في مثل هذا الوقت القريب، لكنَّ تدفق التبرعات الخيرية جعل هذا الأمر ممكناً العام الجاري.
وقال خليل: "من المؤسف قول هذا، لكننا مشهورون الآن بفضل ما حدث. ليست المشكلة في المال، وإنما في التخطيط".
في التسعينيات، استغرق جمع الأموال اللازمة للتجديد الأول للمسجد ثلاثة أعوام ليصل إلى المبلغ المستهدف: 120 ألف دولار.
كانت الجالية حينها بضع مئات من المسلمين، معظمهم من المهاجرين من شمال إفريقيا الذين جاؤوا للدراسة.
ولما حصل أولئك المهاجرون على وظائف من وظائف الطبقة الوسطى وزادت الجالية عن استيعاب المساحة الكائنة، استغرق الأمر ثلاث سنوات أخرى لجمع الدفعة الأولى للبنك السابق عام 2008. لكنَّ مسجد كيبيك الكبير كافح لمواكبة زيادة عدد السكان المسلمين في المدينة، بما في ذلك الكثير من اللاجئين، الذين يقدر عددهم الآن بـ15 ألفاً.
لا نريد الاختباء بل نرغب في مسجد حقيقي
وقالت زوجة خليل، التي طلبت مناداتها باسم "ياسمين" خوفاً من تعرضها للمضايقات: "يمتلئ المسجد تماماً، ولا أحب حقيقة أنَّ النساء يكنَّ في الطابق العلوي يتابعن الإمام على شاشة تلفاز. أتمنى أن نستطيع أن يكون لنا مسجد حقيقي في الداخل، حتى يتسنى لنا ونحن في طريقنا للصلاة أن نشعر أننا فعلاً ذاهبات للصلاة".
ومع ذلك، فلياسمين بعض التحفظات حول الخطط الجديدة المثيرة للإعجاب هذه، إذ تقول: "لا أريد الاختباء، لكنني لا أريد جذب الانتباه أيضاً".
وقال رئيس المركز الثقافي الإسلامي بكيبيك، بوفلجة بن عبد الله إنهم يأملون "تزيين صورة الإسلام في كيبيك وأن نسجل حضورنا بشكل مؤكد بمسجد كبير حقيقي لكيبيك من شأنه أن يدخل التاريخ الإسلامي (المحلي)".
والمئذنة ترمز إلى العلاقة المتناغمة بين الأديان
وقد جرى تصميم المنارة ( المئذنة) ذات القمم المستدقة الفولاذية على غرار برج الكاتدرائية المجاورة ليكون بمثابة لافتة إلى العلاقة المتناغمة بين الأديان.
بالنسبة لمؤيدي إعادة التصميم الجمالي هذا، فإنَّ هذا التصميم قد أصبح أهم منذ المأساة.
إذ قال دربالي: "ربما سوف يكون أكثر جمالاً وجاذبية للأشخاص الذين يريدون أن يعرفوا عن الإسلام. إنَّ الرسالة الأولى التي ينبغي لنا إعطاؤها للسكان أننا لسنا خائفين".
ولكن المشكلة أن كيبيك بيئة معادية للمسلمين
ربما كان الأمر كذلك، لكنًّ كيبيك بيئة معادية على وجه الخصوص للمسلمين.
إذ تضاعفت جرائم الكراهية المعادية للمسلمين في العام الذي تلى الهجوم. تضمنت الحالات الـ42 التي جرى الإبلاغ عنها حالتين ألقي فيهما براز على المسجد وإحراق سيارة الرئيس السابق للمسجد.
وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول 2017، أصدرت حكومة كيبيك الليبرالية مشروع قانون يحظر على النساء المنتقبات تلقي خدمات عامة أساسية مثل النقل، في الوقت الذي يخطط فيه حزب يميني منتخب حديثاً لتوسيع نطاق هذه القوانين لمنع الموظفين المدنيين من ارتداء أي رمز ديني في العمل.
وبالنظر إلى هذه البيئة، فإنَّ بعض المصلين يفضلون نقل المسجد بالكامل.
لكن بالنسبة لدربالي، فإنَّ الصلاة في المسجد ذاته، حتى وإن كان يصلي الآن من على كرسي متحرك، كانت أمراً علاجياً.
والبعض يرفض استبدال السجاد الملطخ بالدماء
وعندما عاد إلى صلوات الجمعة مرة أخرى، بعد 7 شهور من الحادث، كافح للسيطرة على نفسه.
قال دربالي: "دمعت عيوني لأنَّ ومضات مما حدث انتابتني، وتذكرت مقتل جميع الإخوة، ومن أصيبوا. لكن من أجل تجاوز هذه المأساة، ينبغي لي مواجهتها مرة أخرى".
ومن أجل التخفيف من الأمور التي من شأنها تحفيز كرب ما بعد الصدمة، أعيد طلاء قاعة الصلاة بتوصيات من المتخصصين في معالجة الصدمات، الذين أوصوا أيضاً باستبدال السجاد.
ومع ذلك، فقد آثر مجلس الإدارة استبدال الأجزاء التالفة فحسب.
والآن، عندما يرى خليل الرقع الملفوفة من البساط الأخضر والوردي مستقرة في قبو المسجد، فإنَّ شعوراً ينتابه بعدم الارتياح.
ليس ذلك لأنَّ هذا السجاد يحتوي على علامات من ثقوب الرصاص ودماء أصدقائه، وإنما لأنه يخشى أنه سوف يجري التخلص من هذا السجاد قريباً.
فهو يشعر أنَّ البلاد قد نسيت بالفعل وتجاوزت.
لذا، كما حوفظ على الكاتدرائية المجوفة لتكون تذكيراً بجذورها اليسوعية ودورها في حرب السنوات السبع (حرب في القرن الثامن عشر بين إنجلترا وفرنسا، انتهت بالسيطرة البريطانية على كيبيك).
فإنَّ زيداً يريد لهذه القطع الأثرية المأساوية أن تكون بمثابة تذكير بأسوأ قتل جماعي في مكان عبادة كندي.
ولا تزال ثقوب الرصاص في السقف فوق منطقة التخزين، حيث اختباً المصلون، وفي باب إحدى الحمامات، حيث نجا شخص آخر من الموت بالكاد.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة، فلا يزال هناك ثقبان على الأقل باقيين في السجادة. وقال خليل: "لا يمكننا أن نمحو كل شيء هكذا ونقلب الصفحة. ينبغي أن يكون لديك شيء رمزي. ينبغي أن يتذكر الناس".