قالت وكالة Bloomberg الأمريكية إن الإجراءات التي شرعت فيها الحكومة المصرية بناءً على مطالب صندوق النقد الدولي لن تحل المشكلة الاقتصادية المتأزمة في البلاد، ولن يكون هذا القرض هو الأخير مثلما قال وزير المالية المصري.
وبحسب مقال للأكاديمي المصري عمرو عدلي في المجلة الأمريكية، فإن الحكومة المصرية حين وقَّعت اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، التزمت بإجراءات التقشف المألوفة جداً من قطعٍ للدعم ورفعٍ للضرائب، بالإضافة إلى تعويم الجنيه المصري، الذي خسر 50% من قيمته بين عشيةٍ وضحاها. وفي المقابل، حصلت الحكومة المصرية على قرض من الصندوق بقيمة 12 مليار دولار على 3 سنوات، وهو جزء من حزمة بقيمة 21 مليار دولار لتعزيز احتياطي النقد الأجنبي بالبلاد وإصلاح ميزان المدفوعات.
وأضاف المقال وبعد أكثر من عامين، يشيد الصندوق والحكومة بالاتفاق ويعتبرانه نجاحاً. وتمسَّكت الحكومة بالتزامها بخفض الدعم ورفع الضرائب. وتراجع التضخُّم إلى 11% بعد أن كان وصل لأكثر من 30% ف 2017. وزادت احتياطيات النقد الأجنبي إلى 44 مليار دولار بعدما كانت أقل من 15 مليار دولار في أواخر 2016. وتحسَّن تصنيف مصر الائتماني على نحوٍ ينسجم مع مؤشراتها الاقتصادية الكلية. وأخيراً، يُظهِر الاقتصاد إشاراتٍ على طفرة بعد أكثر من ست سنوات من معدلات النمو المنخفضة.
لن يكون القرض الأخير
وأعرب وزير المالية المصري محمد معيط عن رضاه، وصرَّح لوكالة Bloomberg الأمريكية بأنَّه لن يسعى للحصول على مزيدٍ من التمويل من الصندوق العام المقبل، حين ينتهي برنامج القرض بقيمة 12 مليار دولار.
وبحسب المقال، لكنَّ التاريخ ينبئنا بأنَّ هذه لن تكون آخر مرة تلجأ فيها مصر لمساعدة الصندوق. فمنذ منتصف السبعينيات لجأت مراراً إلى الصندوق سعياً لإصلاحاتٍ لنفس المشكلات. وهذا لأنَّ الحِزَم التي يقدمها الصندوق لا تساعد إلا في التغلب على المصاعب المالية الوقتية، لكن لا تعالج الأسباب الجذرية. وهذا يؤدي إلى أزمات مالية متكررة، تبدأ عادةً بنقص النقد الأجنبي، فيتصاعد الضغط على العملة الوطنية، ثُمَّ يحدث التضخُّم المرتفع نتيجة العجز الضخم في الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
تُعَد مصر مستورداً صافياً للغذاء والوقود. وتفتقر البلاد إلى قطاعٍ صناعي متأصِّل، وتعتمد بشدة على الواردات من مدخلات الإنتاج الأساسية، ليس فقط من المواد الخام، بل كذلك من السلع الرأسمالية والوسيطة. ووفق بعض التقديرات، شكَّلت مدخلات الإنتاج أكثر من 50% من فاتورة الواردات في عام 2017. وكانت الصادرات، تاريخياً، أقل من نصف الواردات؛ لذا تلجأ مصر لتحويلات العمال، والسياحة، وبدرجةٍ أقل للاستثمار الأجنبي المباشر، من أجل جمع العملة الصعبة الضرورية لتلبية التزاماتها الخارجية.
أسباب بقاء الأوضاع كما هي؟
وبحسب المقال فإن هذه القيود الهيكلية مستمرة، وتفرض نفسها على المشهد من جديد، ما قد يُقوِّض تعافي الاقتصاد.
ونظراً للاعتماد الكبير من جانب المنتجين المصريين على الواردات، كان لاتفاق صندوق النقد الدولي تأثير سلبي على قطاعاتهم في عامي 2016 و2017. فكان الانخفاض الحاد للجنيه المصري يعني تكاليف إنتاج أعلى. وتسبَّب كذلك في التضخُّم الذي أدَّى، بالإضافة إلى الإجراءات التقشفية الأخرى، إلى إضعاف القوة الشرائية للمستهلكين المصريين بقوة. وأدّى اتساع الدين العام وارتفاع أسعار الفائدة إلى مزاحمة القطاع الخاص.
صحيح أنَّ القطاعات الإنتاجية في التصنيع والزراعة تظهر إشارات على الانتعاش، وبدأت المؤشرات الاقتصادية الكلية تستقر بدءاً من أواخر 2017، لكنَّ تلك الإشارات تكشف التناقضات الداخلية في الاقتصاد المصري. إذ لا يمكن للقطاعات الإنتاجية، الضرورية لتوفير فرص العمل وتوليد النمو الحقيقي، أن تنمو دون زيادة الواردات بصورة كبيرة. لذا فإنَّ التعافي في القطاعات الإنتاجية قاد إلى زيادة في العجز التجاري، الذي ارتفع بنسبة 30% في أكتوبر/تشرين الأول 2018 مقارنةً بأكتوبر/تشرين الأول 2017. وتراجع الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي بواقع 1.9 مليار دولار في يناير/كانون الثاني 2019، وهو أول انخفاض له منذ عامين.
ما الحل إذاً؟
وتمثَّل رد الحكومة في خفض الواردات، وهو ما يشير إلى مشكلةٍ هيكلية أخرى: الصادرات المصرية لا تتمتع بمرونة عالية، ولم تتمكن من الاستفادة الكاملة من تراجع قيمة الجنيه. وهذا يعني أنَّه كلما نما الاقتصاد، زاد الضغط على الاحتياطيات الدولارية. وما يجعل الأمر أسوأ هو أنَّ تلك الاحتياطيات بُنيَت بكاملها تقريباً عن طريق الاستعارة الأجنبية، ما رفع الدين الأجنبي لمصر من 55 مليار دولار في 2016 إلى 92 مليار دولار في أواخر 2018. ولن يمر وقتٌ طويل قبل أن تشهد ماليات البلاد أزمة من جديد، بحسب المقال.
إنَّ الطريقة الأكثر موثوقية لكسر هذه الدائرة هي تطوير قطاعٍ صناعي أكثر تجذُّراً وأقل اعتماداً على الواردات. وأظهرت مصر قدرتها في عدد من المجالات على إنتاج السلع الوسيطة –مثل البلاستيك، والحديد والصلب، والمواد الكيميائية– لاسيما في ضوء اكتشافات النفط والغاز الأخيرة التي توفر بعض المواد الخام المطلوبة. ولتطوير تلك الصناعات، على الحكومة توفير ضمانات ائتمانية للمُصنِّعين، وتقديم الدعم لعمليات نقل التكنولوجيا. ويجب على المُصنِّعين أنفسهم أن يكونوا قادرين على استغلال انخفاض قيمة الجنيه، الذي يجعلهم أكثر تنافسية في مواجهة الواردات.
وقد يستغرق الأمر سنوات قبل أن تتمكَّن مصر من إنشاء العمق الصناعي الذي تريده لتقليص عبء الواردات. لكن إن لم تبدأ هذا الطريق قريباً، سيستمر وزراء المالية المصريين في طرق أبواب صندوق الدولي لفترة طويلة قادمة.