تتضارب الأنباء والمعلومات حول الأسباب الحقيقية لاستدعاء جيش النظام السوري لجنود الاحتياط مؤخراً بشكل كبير ومفاجئ، إذ أكدت صحيفة The Times البريطانية، أن مئات الرجال في سوريا قد اعتقلوا وأجبروا على الانضمام للجيش النظامي، في حملة ضد كل من تجنبوا التجنيد الإلزامي أو الخدمة ضمن قوات الاحتياط.
ولم تقدم أية تفسيرات لهذا التصرف المفاجئ من قبل النظام السوري، في حين لم لم يرد أي تعليق حول سبب رفع سن الإنضمام لجنود الاحتياط من 40 إلى 43 عاماً.
وبين التجهز لـ"معركة كبيرة مع إسرائيل" كما تقول بعض المصادر في دمشق، وبين التحضير لشن حرب "تطهير" على مدينة إدلب، آخر مناطق المعارضة خارج سيطرة النظام السوري، يستمر الغموض حول خلفيات هذا القرار الذي يأتي بالرغم من إصدار بشار الأسد، في أكتوبر/تشرين الأول 2018 الماضي، مرسوم عفو عن المتخلفين عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية، وإلغاء دعاوى الاحتياط للسوريين في الداخل والخارج.
الاحتمال الأول: هجوم كبير على إدلب
كان الجيش النظامي يعزز قدراته منذ صيف العام الماضي واضعاً نصب عينيه ما يمكن أن يكون أكبر مواجهة خلال سنوات الحرب الثماني، في محاولة لاستعادة محافظة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة.
فبعد سنوات طوال، يوشِك الأسد على تحقيق "النصر" في سوريا. ولا توجد إلا محافظة واحدة خارج سيطرته هي إدلب، ولكنّ انسحاب حليفيه الروسي والإيراني من مراحل الحرب السورية الأخيرة يترك الجيش السوري أضعف من أن يضطلع بالمهمة بمفرده.
وفق تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، فإن الخسائر في الأرواح والفرار من الجيش والتهرب من الخدمة العسكرية تسببت بحالة ضعف فادح لجيش النظام طول السنوات الأخيرة.
ومع اقتراب "المعركة الحاسمة" في إدلب التي باتت الإشارات تدلل عليها بقوة خصيصاً بعد سيطرة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) على المحافظة وما حولها، يحتاج النظام بشدة إلى مجندين جُدد، لدرجة أن الدولة قد غيرت هذا الصيف قواعد اجتياز اختبارات الجامعة دون إخبار الطلاب مُسبقاً، في محاولة لسحب الطلاب الذكور إلى القوات المسلحة ولو بالقوة، بحسب الصحيفة البريطانية.
ولكن حتى مع تدفق الطلاب الذين انتُشلوا من حرم الجامعات، فإن فرص أن يصبح جيش الأسد الضعيف قادراً على استعادة إدلب بسرعة دون مساعدة طهران وموسكو، ضئيلة.
إذ لم تخضع القدرات العسكرية للطلاب السابقين والمُجنَّدين الذين قاتلوا سابقاً في قوات المعارضة، للاختبار، وقد استُنفِدت جهود الجنود الأكثر خبرة. وقد جُنِّد بعضهم عندما بدأت الحرب عام 2011 وقاتلوا دون توقف منذ ذلك الحين.
وباستعادة النظام السيطرة على سوريا تدريجياً، تنتشر قواته الآن في الأراضي التي سيطرت عليها المعارضة وتنظيم "الدولة الإسلامية" في الماضي. وتُشير التقديرات إلى أنَّ أي قوات قد تهاجم إدلب لن يزيد عددها على ما بين 20 و25 ألف جندي فحسب، في الوقت الذي يوجد فيها ما لا يقل عن 70 ألف مقاتل في قوات المعارضة.
وهنا، تقول تقارير واردة من نشطاء أرقاماً كبيرة جداً حول أعداد السوريين الذين تم استدعاؤهم للخدمة الإجبارية في الجيش، إذ يقول بعضهم إنَّ أكثر من 300 ألف اسم قد جرى تحديدهم ممن يتعين عليهم "إكمال خدمتهم الوطنية أو واجب الاحتياط".
وبحسب صحيفة التايمز، فقد أفاد سكان دمشق وحلب ومدينة دير الزور الشرقية أنَّ قوات الأمن التي تحرس نقاط التفتيش قد بدأت في التدقيق في أوراق الهوية مقابل كشوف بأسماء الرجال المطلوبين.
ومن بين المناطق التي شهدت أعداداً كبيرة من الاعتقالات والتجنيد الإلزامي، ضواحي دمشق مثل الغوطة الشرقية، التي استسلمت في شهر أبريل/نيسان. وقال أحد الموظفين الحكوميين في دمشق للصحيفة إنه ليس ثمة تأكيد رسمي، لكنَّ الحشود الواصلة إلى مراكز التجنيد تظهر أنَّ ثمة حملة قيد التنفيذ.
وقال الموظف الحكومي: "عندما تمشي في دمشق، لا سيما خارج الأحياء المركزية، فإنَّ جميع الرجال الذين يمكنك رؤيتهم عمرهم أكبر من 40 عاماً لأنَّ الآخرين إما جندوا إلزامياً أو هربوا. معظم المجندين إلزامياً في العاصمة أخذوا عند مرورهم عبر نقاط التفتيش. إذ يُحتفظ ببطاقات هوياتهم، ثم يفترض لهم الذهاب إلى مكاتب التجنيد".
إلى ذلك، لا تزال تركيا وروسيا والنظام في خلاف حول مستقبل إدلب. إذ تتحكم هيئة تحرير الشام الجهادية، التي تعتبر امتداداً لتنظيم القاعدة، في 70٪ من هذا الجيب، الذي يضم ثلاثة ملايين شخص على الأقل. وقد جفت المساعدات الغربية إلى المنطقة بشكل كبير بسبب استيلاء الجهاديين على المنطقة، مما أدى لفقد الأمن وغرق المنطقة بالمزيد من الفقر.
وبموجب اتفاق أبرم في شهر سبتمبر/أيلول، وعدت روسيا والنظام بتأجيل الهجوم على إدلب. وقد أوضح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنَّ أولويته القصوى تتمثل في الهجوم على ميليشيا وحدات حماية الشعب الكردية شرقي سوريا. ومع ذلك، فقد قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافاروف، الأسبوع الجاري، إنَّ "معقل الإرهابيين" في إدلب، لا يزال هدفاً للنظام السوري.
وبحسب وكالة سبوتنك الروسية، فإن مصدراً عسكرياً في دمشق أكد أن الجيش النظامي استقدم تعزيزات كبيرة إلى ريف إدلب خلال الساعات القليلة الماضية.
وأشار المصدر إلى أن التعزيزات التي وصلت إلى الجبهات وبدأت بالانتشار على الفور، تهدف إلى تمكين الجبهات حيث تم نقل عدد من الآليات والدبابات والمدافع المتوسطة والبعيدة المدى، مؤكداً أن القوات القادمة ستدعم الجاهزية التامة في حال طرأ أي تغيير على جبهات ريفي حماة وإدلب خلال الأيام القليلة القادمة.
الاحتمال الثاني: التجهز لحرب مع إسرائيل
"نحن على أبواب حرب مع إسرائيل"، هذا ما قاله مصدر مقرب من أحد ضباط فرع المخابرات العسكرية في مدينة حلب ومقره منطقة "السريان القديمة"، لـعربي بوست، حول أسباب الاستدعاء المفاجئ للسوريين للخدمة في الجيش.
وأضاف المصدر في تقرير نشر سابقاً على "عربي بوست"، إنَّ "سوريا على أبواب حرب كبيرة مع إسرائيل، ولهذا السبب تقوم شُعب التجنيد بطلب هذا العدد الكبير من مكلفي الخدمة الاحتياطية".
في حين، أشار المصدر أن التخوف من الحرب القادمة كان سبباً لرفع سقف الأعمار المطلوبة للخدمة، ليصل إلى حدّ موليد عام 1970، وأنه من المرجح أن يتم الإعلان عن "نفير عام" قريباً. والنفير العام، هو عملية استنفار وتعبئة عامة لعامة الناس من أجل القيام بقتال العدو أينما وجد. ولا تقتصر هذه العملية على فئة معينة من السوريين بل تشمل عامة الشعب للتأهب لحرب كبيرة.
وبحسب وكالة "سبوتنيك" الروسية، التي نقلت عن الخبير أليكسي ليونكوف، أن إسرائيل فعّلت "الأمر رقم 8" الذي يتم بموجبه استدعاء جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي لدرء الأخطار الممكنة.
وأشار إلى أن ما فعلته تل أبيب بموجب "الأمر رقم 8" يدل على أن إسرائيل تخشى أن ترد سوريا على أفعالها "العدوانية". في حين قال الجنرال الإسرائيلي غرشون هاكوهين لصحيفة "إسرائيل اليوم"، إنّ "الهجمات الإسرائيلية المستمرة على سوريا تحتم على دوائر صنع القرار في تل أبيب اعتبارها معركة حاسمة".
وأضاف هاكوهين أن الضربات الإسرائيلية على سوريا في السنوات الأخيرة بين 2015 و2019، تذكرنا بالضربات ذاتها التي سبقت اندلاع حرب عام 1967. فقد بدأت تل أبيب هجمات مركزة على دمشق منذ عام 1964، وهدفت إلى: إحباط خطة تحويل مصادر نهر الأردن، وفرض السيادة الإسرائيلية على المناطق المنزوعة السلاح على الحدود مع سوريا، والعمليات ضد المنظمات الفلسطينية، خاصة إقامة حركة "فتح" قواعد عسكرية داخل معسكراتها التنظيمية في سوريا.
ما بين الهرب من التجنيد الإجباري أو التسليم له
وبين ترجيحات السيناريو الأول والثاني، تعيش المدن السورية، خاصة مدينة حلب، حالة غليان بعد وصول الآلاف من تبليغات الاحتياط. وقال أحد الأشخاص الذين ورد اسمه في قائمة الاحتياط المطلوبين لـ"عربي بوست" (رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية): "لا أحد يأتيه بلاغ رسمي من شعبة التجنيد من أجل تسليم نفسه للخدمة العسكرية، كثيرون تم إيقافهم على الحواجز العسكرية المنتشرة في مدينة حلب، وتم سحبهم للخدمة".
وأضاف الشاب، البالغ من العمر 39 عاماً، أنه بتاريخ 23 يناير/كانون الثاني 2019، سمع من أحد أصدقائه أن هناك قائمة جديدة لخدمة الاحتياط ستشمل تواريخ المواليد القديمة. ليقوم في اليوم التالي بدفع رشوة مالية بلغت 25 ألف ليرة سورية (50 دولاراً) لأحد الموظفين في شعبة تجنيد "ثكنة هنانو"، للبحث عن اسمه، ويتأكد بالفعل من وجوده.
وفي تقرير سابق، قالت طالبة في دمشق إن 70% من الطلاب بدفعتها، المكونة من 300 طالب وطالبة، رسبوا في اختبارات هذا الصيف، وقد تعمَّد الكثير منهم ذلك لتأجيل الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية. غير أن فترة العفو المعتادة لإعادة السنة قد أُلغيت دون سابق إنذار، وأصبح أصدقاؤها الطلاب الآن مُعرَّضين لخطر التجنيد.
في حين، يقول شاب سوري آخر يدعى إيلي (23 عاماً)، إنه غادر دمشق متوجهاً إلى بيروت عبر الحدود اللبنانية بعد رسوبه في عامه الثاني بالجامعة واستدعائه للخدمة العسكرية الشهر الماضي (سبتمبر/أيلول 2018). وكان سيتمكن من الفرار منها بدفع غرامة قدرها 8000 دولار، لولا أنَّ عائلته، مثل معظم السوريين في هذه الفترة، لا تملك المال.
يقول إيلي: "الوضع ليس أسهل كثيراً هنا في بيروت، لكنه أفضل من إضاعة سنوات من حياتي غارقاً في الدم والقتل، كان أحد أقربائي في الخدمة العسكرية على مدى السنوات الخمس الماضية، ولا يبدو أنه سيعود قريباً، أُصيب بجروح بالغة 3 مرات وخسر أكثر من 50 من أصدقائه، لا يمكنني أن أفعل مثله؛ لذا لا يمكنني العودة".
وتبلغ مدة الخدمة العسكرية الإلزامية في سوريا سنتين، تقل بالنسبة للطلاب الجامعيين الذين أدّوا المعسكرات الجامعية خلال فترة دراستهم. ولكن بعد اندلاع الثورة السورية في 2011، تم التحفظ على جميع الجنود، ومنهم من صار له أكثر من 7 سنوات في الخدمة. وتجدر الإشارة إلى أن الأسد، أصدر في أكتوبر/تشرين الأول 2018، مرسوم عفو عن المتخلفين عن الالتحاق بالخدمة الإلزامية، وإلغاء دعاوى الاحتياط للسوريين في الداخل والخارج. إلا أن شُعَب التجنيد أرسلت بعده دعاوى لقرابة 350 ألف اسم، أغلبهم في مناطق المصالحات والتسويات.