قال أليستر بيرت، وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية والكومنولث ووزير الدولة للتنمية الدولية، إن الوحشية في التعامل مع الشعب السوري جزء لا يتجزأ من سياسة نظام الأسد. وأشار إلى أن أمينة الخولاني إحدى السوريات اللواتي خرجن من بلادهن هاربات من بطش نظام الأسد تعمل على توثيق ذلك
وفي مقالة له نشرتها صحيفة Independent البريطانية، قال إن نظام الأسد في محاولة منه لإخفاء جرائمه المروعة، بدأ في يوليو/تموز 2018، إعلام الناس بوفاة أحبّائهم، مشيراً إلى أن الوفاة حدثت نتيجة أزمات قلبية أو غيرها من الأسباب الطبيعية للوفاة. وتُقَدَّم "إشعارات الموت" تلك أمام أمانات السجل المدني، حيث تمتد طوابير الناس، متلهفين إلى معرفة ما أصاب ذويهم، وينتظرون بالساعات.
روايات من التعذيب والإعدام
روى الرجال والنساء الذين أُطلِق سراحهم وهم على قيد الحياة، قصصاً عن التعذيب والإعدام دون محاكمة والعنف الجنسي. وتفيد تقارير موثوقة، صدرت من جماعات المجتمع المدني التي تقدم الدعم للمفرج عنهم، بأنّ أغلبهم -رجالاً ونساء- وقعوا ضحايا للعنف الجنسي، الذي يترك أثراً نفسياً لا يُمحى.
وقال وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية: "تعمل المملكة المتحدة على تسليط الضوء على هذه الفظائع". وأضاف: "شاركنا في استضافة فعالية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، الشهر الماضي (أكتوبر/تشرين الثاني 2018)، لتسليط الضوء على قضية المعتقلين. وقدمنا أكثر من 8 ملايين جنيه إسترليني (ما يقرب من 10 ملايين دولار)، لمساعدة المفرَج عنهم ، ومن خلال العمل مع حلفائنا، تمكنَّا من ضمان فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات صارمة على أكثر من 300 شخص وجهة مسؤولين عن القمع العنيف الذي يتعرض له المدنيون".
وحسب كلامه، قال الوزير البريطاني إنه لا يمكن أن يتحدث أحد بصدق، بالأصالة عن السوريين، سوى سوري مثلهم، فهذه أمينة الخولاني، التي تعيش الآن بالمملكة المتحدة حيث اعتُقلت في السنوات الأولى من الثورة السورية، وقصتها المنشورة هنا في هذا المقال تلزم الجميع بضرورة دفع السوريين لاتخاذ مسار العدالة وإن كان طويلاً.
من هي أمينة الخولاني إذن؟
تحكي أمينة الخولاني، وتقول: "قبل أن تبدأ الحرب الدائرة بسوريا، كنتُ أعيش في مدينة صغيرة تدعى داريا بضواحي دمشق، مع زوجي وأبنائي وبعض أفراد العائلة المقربين. عملت مُعلّمة لمادة التاريخ بمدرسة ثانوية في وسط دمشق".
وأضافت الخولاني: "قبل الانتفاضة التي بدأت عام 2011 بفترة طويلة، كانت حالات الاختفاء والاعتقال القسري هي القاعدة المتبعة منذ أيام حافظ الأسد، الذي حكم قبل أن يتولى ابنه، بشار، السلطة في يوليو/تموز عام 2000".
وتابعت: :"كنتُ عضوة في مجموعة من الشباب والفتيات الذين انخرطوا بالأنشطة السلمية في داريا. كان عبد الأكرم السقا هو الأب الروحي للمجموعة، وفي 2003، نظَّمنا حملات للتصدي للرشوة والفساد، وأطلقنا مبادرات عامة لتنظيف شوارعنا، ونظمنا احتجاجات وأصبحنا معروفين باسم (شباب داريا)".
استدعاء إلى فرع المخابرات
ونتيجة لهذه الأنشطة، استُدعيت امينة الخولاني إلى فرع المخابرات في المدينة للاستجواب، كان النساء يُستجوبن كل يوم مدة شهر كامل، من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساءً. في ذلك الوقت، ورغم أنه كان لديها طفل صغير، فإنها كانت تُرغم على الذهاب إلى هناك ومعها طفلها بين ذراعيها، للاستجواب كل يوم.
أما الرجال الذين كانوا أعضاء في "شباب داريا"، ومن ضمنهم زوجها وأخوها، فقد اعتُقلوا على الفور، وأُحيلوا إلى المحكمة العسكرية. وحُكم عليهم بالسجن 4 سنوات في سجن صيدنايا، المعروف بممارسات قتل السجناء وتعذيبهم. وعندما أُطلق سراح زوجها وعاد إلى المنزل بعد عام، كان مصاباً بالاكتئاب والالتهاب الرئوي.
ولأنها شاركت في الاحتجاجات، عندما بدأت الانتفاضة في 16 مارس/آذار عام 2011، فقد تم استدعاؤها الى فرع المخابرات، لتوقيع ورقة تتعهد فيها بعدم المشاركة في المظاهرات.
احتجاجات سلمية ومنشورات
تقول أمينة الخولاني: "ازدادت مشاركتي أنا وزوجي، وشقيقيَّ مجد وعبد الستار، أكثر فأكثر في المظاهرات، ونظمنا احتجاجات سلمية، ووزعنا منشورات في الشوارع وزرنا قبور المتظاهرين الذين قُتلوا خلال المظاهرات وعائلاتهم، لمواساتهم. وتفتَّق ذهن أخي مجد عن فكرة تقديم الورود وزجاجات المياه إلى جنود النظام الذين يهاجمون المحتجين، مع ورقة صغيرة كُتب فيها: (أنا وأنت سوريان، فلماذا تقتلني؟!)".
وتقص بعض وحشية معتقلات نظام الأسد، فتقول: "اختبرت بنفسي وحشية معتقلات النظام بأقسى صورها. في يوليو/تموز عام 2011، اعتقلت المخابرات الجوية التابعة للنظام أخي عبد الستار. وبعد 15 يوماً، عادوا واعتقلوا مجد. ونُقل الاثنان إلى سجن صيدنايا. وحالفنا الحظ بطريقة ما، إذ أخبرنا أشخاص أُطلِق سراحهم بأنهم رأوهما في السجن".
في ظل حكم النظام، لا يُسمح للمعتقلين في السجون بالزيارات، لكنها حاولت بكل الطرق زيارة ذويها. وفي نهاية المطاف، حصلوا على تصريح زيارة عن طريق الرِّشا. وانتظروا خارج السجن 3 ساعات، قبل أن يُسمح لهم بالدخول. كان البرد قارساً، كما هو الحال دائماً في شهر ديسمبر/كانون الأول بسوريا.
معاملة الحراس في المعتقل مهينة
عندما سمح لهم الحراس أخيراً بالدخول، عاملوهم بطريقة مهينة، من التفتيش الجسدي المهين إلى الإهانة عند استقلال الحافلة إلى مقر الاعتقال. وفي مركز الاعتقال، كانت هناك شبكتان تفصلانهم عن السجناء. وقيل لهم إنَّ بإمكانهم رؤية كل شقيق من شقيقيها 15 دقيقة، ولم يتمكنوا من سؤالهما عن أي شيء إلا عن صحتيهما.
وقالت الخولاني: "عندما دخل عبد الستار، لم أتعرف عليه. اعتقدت أنهم ارتكبوا خطأَ وأرسلوا سجيناً أخر. ثم سمعت صوته وعرفت أنه هو. بعد 15 دقيقة، أخذوه بعيداً. وانتظرنا ساعة أخرى لرؤية مجد. وعندما أُحضر إلينا، كان على القدر نفسه من الثقة والتحدي اللذين عهدناهما فيه. سألته والدتي: (هل رأيت عبد الستار؟)، وضربه الحراس أمامنا، لأنه لم يكن مسموحاً لنا بطرح هذا السؤال. كان مشهداً مؤلماً! لم يُسمح لنا بتهدئتهما ولم يُسمح لأخي بحمل أبنائه".
مذبحة داريا وغلق الطرق بالكامل
ويوم 20 أغسطس/آب عام 2012، بدأت مذبحة داريا. واستمرت 6 أيام. بدأت بعد عطلة العيد مباشرة. أغلق النظام طرق الوصول إلى المدينة وطرق الخروج منها. وبعدها بدأ القصف. استخدموا قذائف الهاون والصواريخ وجميع أنواع القنابل.
وحكت الخولاني كيف كانوا يختبئون من قصف طيران بشار الأسد، وقالت: "كنا نعرف أنه كان علينا أن نجد مكاناً آمناً نأوي إليه حتى يتوقف القصف. فاتخذنا من قبو بيت جارتي ملجأً، وانضم إلينا جميع الأطفال والمسنين في الحي، وتكدَّسنا جميعاً في غرفة صغيرة حارّة، بلا مكيف هواء، وبمرحاض واحد مشترك بيننا. لم يكن لدينا كهرباء أو هواتف. وبدأ المرحاض يفيض. كان صوت القصف عالياً جداً".
وأضافت: "كنا نعيش في أسوأ الظروف التي يمكن تخيُّلها. لن أنسى أبداً كم كان موقفاً مرعباً! فهناك موقفان لا يزالان عالقَين في ذهني منذ ذلك الوقت: أولهما فتاة في العشرينيات من عمرها وهي تضع مولودها دون وجود أي كوادر طبية لمساعدتها. والثاني عندما أُحضر صبي قتيل إلى أمه في القبو، حتى تودعه قبل أن يُدفن. وانتابت والدته حالةٌ من الجزع. ولم أستطع تخيُّل شعوري لو كان هذا الصبي ابني".
ميليشيات الأسد على بُعد شوارع من المنزل
وقالت الخولاني إنهم عندما سمعوا أنَّ ميليشيات النظام على بُعد بضعة شوارع منهم، أدركوا أنَّه لا يمكنهم الانتظار، ما دفعهم للفرار، وأضافت: "جمعنا عائلتنا في سياراتنا الصغيرة وغادرنا داريا. شعرت بالذنب وأنا أغادر تاركةً أولئك الذين لم يكن لديهم سيارات، لكن لم يكن لدينا خيار آخر. لم نتمكن من استخدام الطرق العادية، خوفاً من أن تستوقفنا نقاط التفتيش، لذلك قمنا بالمرور من الحقول حتى وصلنا إلى دمشق".
ومع الوقت، اقتحم النظام تكراراً المنازل عشوائياً؛ بحثاً عن الشباب، لتجنيدهم بالجيش. في أحد الأيام جاءوا إلى منزل أمينة الخولاني، ورأوا بطاقات الهوية الخاصة بشقيقيها الاثنين. عندما أدركوا أنَّهم كانوا جزءاً من عائلة الخولاني التي شاركت في الثورة بداريا، أخذوا شقيقيها الآخرين: بلال ومحمد. اعتقلهما فرع الاستخبارات العسكرية 215 سيئ السمعة.
بعد 7 أشهر، أُفرِج عن بلال يوم 22 أبريل/نيسان 2013. كان يشبه الهيكل العظمي، وبدا كأنَّه رجل يبلغ من العمر 100 عام بانتظار الموت! لكن، لم تستطع الكلمات أن تصف مدى سعادة أمينة الخولاني برؤيته.
لكن سرعان ما أبلغها هي وشقيقتها أنَّ أخاهما محمد قد قُتل أمام عينيه في السجن. وأضافت الخولاني تعليقاً على ذلك: " تمنيت لو أنَّه كان مخطئاً وأنَّ حالته النفسية المضطربة قد شوشت تفكيره، ولكنِّي كنت أعرف في أعماقي أنَّه يقول الحقيقة".
لم تستطع أمينة الخولاني إخبار والديها أو إظهار حزنها أمامهما؛ مخافة أن يقضي هذا الخبر عليهما. تلاشت كل الآمال، فقط عندما قام مصور النظام الذي يحمل لقب "القيصر" بالانشقاق، ونشر صور من ماتوا في الحجز ورأوا صورة لمحمد، وقتها أخبرت أمينة والديها وزوجة محمد، وعندما اعتقلوه، كانت زوجته حاملاً. لم يحمل ابنَه، ولن يعرف ابنَه أبداً، كم كان أبوه شخصاً عظيماً!
المخابرات تقتحم البيت لتبحث عن أمينة الخولاني
وتضيف أمينة: "جعل هذا الحدث عائلتي أكثر قلقاً على سلامة شقيقيَّ الآخرَين: عبد الستار ومجد، اللذين ما زالا رهن الاحتجاز. تحدثنا مع كل شخص قدر المستطاع، لنحصل على أخبار عنهما. لقد أزعجنا الشرطة وسألنا أشخاصاً آخرين كانوا معتقلين. وفي النهاية، قيل لنا إنَّهما قُتِلا في عملية إعدام ميدانية، تماماً مثل جميع الأشخاص الأبرياء الآخرين الذين شاركوا في المظاهرة السلمية ووزعوا الورود. رفضتُ تصديق ذلك مجدداً، كانت بالنسبة لهي (أخباراً مزيفة)".
في أكتوبر/تشرين الأول 2013، اقتحمت المخابرات الجوية التابعة لنظام بشار الأسد منزل أمينة الخولاني مرة أخرى، لكن هذه المرة كانت تبحث عنها في صباح أحد الأيام، في حين كانت بملابس نومها سمعت طرقاً على الباب. فتحت الباب، ثم دخل 8 أشخاص يحملون بنادق على جانبيهم. سألوها عن اسمها، وعندما أخبرتهم، قالوا: "وجدناها".
تضيف أمينة: "كانت ابنتي مرتديةً بيجامتها الوردية وممسكة بساقي وهي تبكي عندما كانوا يحاولون أخذي. رفضتُ الذهاب قبل أن يسمحوا لي بأن أرتدي ملابسي. عندما أخذوني إلى الخارج، رأيت زوجي في إحدى السيارات. لقد اعتقلوه أيضاً".
رحلة أمينة الخولاني مع الاعتقال في سجون نظام الأسد
تقول الخولاني: "وضعوني في الحبس الانفرادي بزنزانة صغيرة، لما أعتقد أنَّه يومٌ واحد. كان طول الزنزانة مترين فقط، وعرضها متر واحد. في اليوم التالي، أتوا بالمزيد من النساء إلى هناك، حتى وصل عددنا إلى 13 امرأة. كان هناك حمَّام واحد مكسور لنا جميعاً، والبق والصراصير تزحف منه!" .
وأضافت: "اضطررنا إلى استخدام الصناديق أو الأكياس البلاستيكية لقضاء حاجتنا. عندما كنا حُيَّض، لم يراعوا ظروفنا، ورفض الحراس السماح لنا بالحصول على الفوط الصحية. كان علينا أن نستخدم قطع قماش وفوطاً ممزقة! كان هذا تعذيباً في حد ذاته. كان الطعام بشعاً؛ كميات قليلة جداً من الأرز أو البرغل أو البطاطس. كان الأرز به حصى صغير، وطعمه مثل الجاز".
وفي أحد الأيام أخذها الحارس للاستجواب، وكان يسبها طول الطريق ويستخدام إيحاءات جنسية مهينة. بدأت في البكاء، لكنَّهم استمروا. عندما سألها المحقق الرئيس عن سبب البكاء، ضحك وبدأ يسُبُّها أيضاً.
كادت أساليب التعذيب المستخدمة تصيب أمينة الخولاني بانهيار عصبي. وفي إحدى المرات، تضيف: "أخذوني أنا وزوجي إلى غرفة، وعصَّبوا أعيننا وجعلونا في مواجهة أحد الجدران. عمَّروا بنادقهم وسحبوا الزناد. كان إعداماً مزيفاً. وكنت في حالة صدمة. استغرقنا بضع دقائق لندرك أننا ما زلنا على قيد الحياة. كان هذا النوع من التعذيب عديم الرحمة".
إطلاق السراح بعد 6 أشهر
وقالت أمينة الخولاني إنه أُطلِق سراحها بعد 6 أشهر. وتقول: "أﻋﺗﻘد، ﻷنَّ عائلتي دفعت الأموال للحراس ليتركوني. غادرت بعدها بفترة قصيرة إلى لبنان. لم أكن أرغب في ترك زوجي بمفرده في السجن، ولكن، لم يكن لدي أي خيار آخر من أجل أطفالي. لقد سمعت شائعات بأنَّ المخابرات كانت ستأتي لإلقاء القبض عليّ مرةً أخرى. أُفرِج عن زوجي في وقتٍ ما لاحقاً والتحق بنا".
وكشفت الخولاني أنها تلقت هذا العام (2018)، إخطاراً بأنَّ مجد وعبد الستار قد قُتلا في المعتقل، ويقول الإخطار إنَّهما تُوفيا في الوقت نفسه وباليوم نفسه، في 15 يناير/كانون الثاني 2013. وقد تمَّ إعدامهما.
وأنهت أمينة الخولاني قصتها بالقول: "سوف أواصل رواية ما فعلوه بعائلتي وبشعب سوريا. المجتمع الدولي وشعب سوريا عليهم ألا يسمحوا أبداً للنظام بأن ينسى ما فعله، أو أن يفلت من دفع ثمن الجرائم التي ارتكبها في حقنا. لا يختلف الأسد عن الحكام المستبدين أو مجرمي الحرب الآخرين، أومن أيضاً بأنَّ الأسد سيواجه العدالة يوماً ما، وحتى يأتي هذا اليوم لن أتوقف عن نضالي".