يبدو أن العملة لم تعد بمنأى عن الصراع الدائر بين روسيا والولايات المتحدة، حيث أكدت موسكو إطلاقها مشروعاً تعتمد فيه على استبدال الدولار باليورو في جميع المعاملات التجارية مع الشركات الأوروبية، وضمن ذلك النفط والغاز.
ستكون روسيا، حسب تقرير موقع Atlantico الفرنسي، مستعدة للتخلي عن الدولار من أجل اعتماد اليورو. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، يمكن أن تكون هذه الخطوة بمثابة نصر عظيم، خاصة أنه يسعى إلى فرض اليورو كعملة دفع على نطاق عالمي. لكن، لن يكون هذا القرار خالياً من الشروط أو المخاطر، خاصة أنه من المؤكد أن الأميركيين سيحاولون الوقوف في وجه هذا المشروع.
نتيجة لذلك، توشك الحرب التجارية والسياسية بين أميركا وبقية دول العالم على اتخاذ منحى نقدي.
وفي الوقت الذي أعلن فيه الصينيون عن قدرتهم على استخدام احتياطاتهم الهائلة من الدولار من أجل تضييق الخناق على الاقتصاد الأميركي، وذلك من خلال التوقف عن "شراء الديون" بالدولار، يقترح الروس على الأوروبيين تحويل اليورو إلى عملة دفع في جميع المعاملات التجارية التي تجمع بين روسيا والاتحاد الأوروبي.
قبول الشيكات باليورو
تُعتبر أوروبا الزبون الرئيسي لروسيا. وبحلول فصل الشتاء، تعتمد أوروبا بشكل تام على الغاز الروسي. وبدلاً من الاستمرار في دفع ثمن هذا الغاز بالدولار، يؤكد فلاديمير بوتين نيته قبول الشيكات باليورو.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتناول فيها موسكو ملف وسائل الدفع. ففي المنتدى الاقتصادي الدولي الأخير، الذي تم تنظيمه بمدينة سان بطرسبورغ في يونيو/حزيران 2018، بحضور معظم رؤساء دول وحكومات البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، اقترح وزير المالية الروسي، أنطون سيلوانوف، تخلي روسيا فعلاً عن الدولار كعملة رئيسية معتمدة في مدفوعاتها الدولية واستبداله باليورو. وخلال هذا المنتدى أيضاً، أعلن فلاديمير بوتين وإيمانويل ماكرون تبنِّيهما هذه الفكرة علناً. كما تم التطرق مع أنجيلا ميركل إلى الموضوع ذاته.
في البداية، لم يحرز هذا المشروع التقدم المطلوب. لكنَّ تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة وبقية العالم حول المسائل الاقتصادية دفع العديد من البلدان إلى التفكير في اتخاذ تدابير مضادة لمواجهة قرارات دونالد ترمب.
إلى جانب الصين، التي تُعتبر أولى الدول المتضررة من السياسات الاقتصادية الأميركية (علاوة على معاناتها تباطُؤ نسق نمو نشاطها التجاري)، تُعاني أوروبا هي الأخرى خسائر اقتصادية بسبب قرارات الولايات المتحدة. ففي حال لم تخضع الشركات الأوروبية للقيود التي تفرضها واشنطن على بقية دول العالم، ستتضرر القارة العجوز من تبعات العقوبات الأميركية.
المبادرة الروسية ليست محض صدفة، وبوتين له هدفان اثنان
يبدو من الواضح أن فلاديمير بوتين يهدف من خلال اقتراح استبدال الدولار باليورو في المعاملات التجارية، وضمنها الغاز، إلى تحقيق هدفين اثنين في الوقت ذاته، حسب موقع Atlantico الفرنسي.
يسعى بوتين، أولاً، إلى ضرب هيمنة الدولار كعملة عالمية، فضلاً عن مصداقيته واستقراره، الأمر الذي لن يستطيع دونالد ترمب تقبُّله ببساطة.
أما الهدف الثاني، فيتمثل في منح بوتين صفة "العملة العالمية" لليورو، التي لم يسبق أن حظي بها. وقد تزامن ذلك مع انطلاق البنك المركزي الروسي في شراء اليورو بشكل مكثف وبيع الدولار، منذ بضعة أشهر. ومما لا شك فيه أنه بالنسبة للأوروبيين، تُعتبر إمكانية الاستغناء عن الدولار في عمليات شراء الغاز والنفط خبراً ساراً على الصعيد العملي. كما يُعد ذلك مؤشراً إيجابياً في نظر أوروبا؛ لأنه سيزيد من قوة عملتها الموحدة.
وعلى الصعيد السياسي، سيدعم هذا المشروع الأطراف المؤيدة لأوروبا ولليورو، في الوقت الذي يتعرض فيه الاتحاد الأوروبي لهجوم من الحركات الشعبوية. وتَعتبر الكثير من هذه الحركات اليورو السبب الرئيسي للصعوبات التي تمر بها بلدانهم؛ ومن ثم، تُطالب بالخروج من منطقة اليورو، على غرار البريطانيين. وهكذا، يمكن اعتبار المشروع الروسي بمثابة دعم للأوروبيين المتمسكين بمبدأ العملة الموحدة.
إحراج شديد لأوروبا
من جهة أخرى، يمكن أن يمثل هذا الدعم مصدر إحراج شديد لأوروبا. فمقابل اقتراح الروس اعتماد اليورو، سيُطالب هؤلاء شركاء الاتحاد الأوروبي برفع العقوبات المفروضة على روسيا. وقد أفادت بروكسل بأن "هذا الأمر منطقي جداً".
وعلى الصعيد الاقتصادي، طالبت الشركات الأوروبية، خاصة الفرنسية والألمانية، منذ سنوات، برفع هذه العقوبات؛ حتى تتمكن من تعزيز تدفق المبادلات التجارية مع روسيا، دون الحاجة إلى التفاوض على ضمانات معقدة.
إذا ثبت ذلك، فسيكون رفع العقوبات بمثابة تعرُّض أوروبا لخطر مواجهة الإدارة الأميركية التي تفرض هذه العقوبات. ومن ثم، يمكن أن تضطر البلدان الأوروبية إلى دفع غرامات ثقيلة للغاية، فضلاً عن إمكانية إغلاق السوق الأميركية فيها، التي تعتبر أوروبا في حاجة شديدة لها.
تبدو هذه المسألة معقدة للغاية بالنسبة للأوروبيين الذين لم يتبنّوا إلى حد الآن موقفاً موحداً ومتضامناً تجاه قرارات دونالد ترمب. وبسبب غياب الشجاعة أو المصالح المالية، ما زالت أبرز بلدان الاتحاد الأوروبي تسعى إلى مسايرة الولايات المتحدة.
قد يكون الاقتراح الروسي بمثابة هدية للاتحاد الأوروبي؛ لأنه يدعم عملة اليورو. لكن على الصعيد السياسي، من المتوقع أن تكون لهذا الاقتراح تبعات سلبية على بلدان القارة العجوز.