قالت صحيفة الفاينانيشيال تايمز البريطانية إن الصحافي السعودي جمال خاشقجي كان يشعر بالقلق صبيحة اختفائه. فقد أصبح ناقداً للمملكة الخليجية، ووجه اللوم إلى محمد بن سلمان، ولي العهد، بسبب حرب اليمن و الحملة القمعية العنيفة على المعارضين في السعودية وذلك بعد أن كان شخصاً قريباً من الحكومة السعودية، وقرر أن يعيش في منفاه الاختياري في الولايات المتحدة الأميركية لأكثر من عام.
كان الصحافي الذي يبلغ من العمر 59 عاماً يمضي بعض الوقت في تركيا بعد أن وقع في حب خديجة جنكيز، وهي طالبة دكتوراه تركية. وكان يزور القنصلية السعودية في إسطنبول لجمع الأوراق الرسمية لإتمام زواجهما الذي كان معلقاً على تلك الأوراق، وفق تقرير نشرته صحيفة The Financial Times البريطانية.
خاشقجي كان يشعر بالقلق ولا يريد الذهاب إلى القنصلية السعودية
أثناء تناول الإفطار، قال خاشقجي إنَّه لا يعتقد أنَّ السلطات السعودية سوف تجرؤ على أن تمسه بسوء وهو على الأراضي التركية. إلا أنَّ الخطيبين ناقشا أيضاً إمكانية أن يُصعّب المسؤولون الأمور عليهما. وقالت خديجة: "لم يكن يُريد الذهاب. كان يشعر بالقلق من أن يحدث شيء ما".
وحدث شيءٌ ما بالفعل. ولكن بعد أسبوعين تقريباً من دخول كاتب عمود في صحيفة واشنطن بوست إلى مبنى القنصلية الذي يخلو شكله من أي شيء مُميز والمكون من ستة طوابق في شارع خلفي في أحد الأحياء المالية في إسطنبول، لا يعرف حقيقة ما حدث له بالداخل إلا قلة معدودة.
انتظرت خديجة خطيبها على درج متجرٍ قريب، ولكن خاشقجي لم يعد أبداً. وكان قد أعطى لها هاتفيه المحمولين وتعليمات حول الأشخاص الذين عليها الاتصال بهم إذا وقعت مشكلة.
وتُصِّر السعودية على أنَّ خاشقجي غادر من الباب الخلفي ولكن كاميرات المراقبة الأمنية لم تسجّل اللقطات لإثبات أنَّه خرج وهو على قيد الحياة.
وقد انتشرت تسريبات من مسؤولين أتراك لم يُكشف عن هويتهم، ونشرت الوسائل الإعلامية مزاعم بشعة ومتناقضة في كثيرٍ من الأحيان عن التعذيب، والاختطاف، وتقطيع الأوصال، والقتل.
إنَّ اختفاء أحد أبرز المُعلقين في العالم العربي لا يُهدد فقط بتفاقم العلاقات المتوترة بالفعل بين تركيا والسعودية، وهما دولتان ثقيلتان وتتخذان مواقف مُتعارضة في بعض صراعات القوى في المنطقة؛ بل سيكون له أيضاً تداعيات على الأمير محمد، الذي يُسيّر شؤون البلاد في السعودية، ويمكن أن يكون نقطة تحول في صعوده إلى السلطة.
تسبب مقتل خاشقجي في خوف المستثمرين الغربيين من السوق السعودي
تودد ولي العهد الذي يبلغ من العمر 33 عاماً إلى قادة الغرب والمُستثمرين الدوليين بوعود بإصلاح بلاده. ومن المقرر أن يستضيف مؤتمراً في الرياض في وقتٍ لاحق من هذا الشهر وأُطلق عليه اسم "دافوس في الصحراء".
وقد مرت الاعتقالات التي جرت للأمراء، ورجال الدين، والنُقَّاد، ورجال الأعمال، والناشطات الإناث خلال العام الماضي مرور الكرام.
غير أنّ الصدمة التي سببتها جريمة القتل المزعومة بلورت مخاوف المستثمرين بشأن الاتجاه الحقيقي لبرنامج ولي العهد، في الوقت الذي أخرت فيه المملكة طرح شركة أرامكو السعودية للاكتتاب العام، واقترضت 11 مليار دولار من البنوك العالمية.
ويقول مسؤول بارز في صندوق مالي من المقرر أن يحضر المؤتمر: "هذه أيضاً مُشكلة أخرى تخلقها السعودية لنفسها. ستتم إضافتها إلى التشكك في جدوى الاستثمار في السعودية".
أينما ذهب الأمير محمد للترويج لمُبادرة مستقبل الاستثمار في الرياض العام الماضي، كانت الحشود تتجمهر حوله لالتقاط صور سيلفي معه. وبدا مفهوماً أنّ المؤتمر يمثل ثروة اليقين والثقة في عملية الإصلاح في السعودية.
إنَّ حدث هذا العام يُهدد بأنَ يكون مختلفاً تماماً، مع انسحاب شخصيات تجارية كبيرة إلى أن تظهر مزيد من المعلومات حول اختفاء خاشقجي. وقد انسحبت صحيفة Financial Times البريطانية من الشراكة في الفعالية يوم الجمعة، 12 أكتوبر/تشرين الأول.
وقد ألغى السير ريتشارد برانسون، مؤسس مجموعة شركات Virgin، مُشاركته في مجلسين استشاريين لولي العهد من أجل تنمية السياحة الداخلية، كما أوقف المفاوضات حول استثمار سعودي بقيمة مليار دولار في شركات Virgin الفضائية.
وقال دارا خسروشاهي، الرئيس التنفيذي لشركة أوبر، إنَّه لن يحضر المؤتمر "ما لم تظهر مجموعة مُختلفة تماماً من الحقائق". وتلقت الشركة استثماراً سعودياً بقيمة 3.5 مليار دولار في عام 2016.
وقال أحد مدير أحد الشركات الذي من المقرر أن يحضر المؤتمر: "يبدو أنَّ هناك زخماً يدفع الآخرين إلى الانسحاب. ما فعله السعوديون أمرٌ مروع".
وقد تعرضت ثقة المُستثمرين إلى ضربة إثر حملة مكافحة الفساد التي وقعت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في فندق ريتز كارلتون، حيث جرى احتجاز مئات من الأمراء، ورجال الأعمال قبل أن يُفرج عنهم من خلال تحويل مليارات الدولارات نقداً وأصولاً.
لذلك فهناك الكثير من أثرياء السعودية يدفعون بأموالهم خارج البلاد
وقد أدت الحرب التي قادتها السعودية في اليمن، والحصار الذي تفرضه على جارتها قطر، والخلاف العلني مع كندا بشأن حقوق الإنسان إلى ترسيخ صورة الرياض في الأذهان بأنَّها لاعبٌ غير مستقر على المسرح العالمي. وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في المملكة السعودية بالفعل بنسبة 81% العام الماضي إلى 1.4 مليار دولار.
إلا أنَّ العديد من المديرين التنفيذيين الإقليميين يقولون إنَّهم على الأرجح سيذهبون إلى الرياض، نظراً للتكلفة المُحتملة للتعامل مع صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وهو الجهة مُنظمة للمؤتمر، بازدراء.
وقد حقق الصندوق، الذي يعد المحرك الأساسي للأمير محمد فيما يتعلق بالاستثمارات، تميزاً من خلال الاستثمار في شركات التكنولوجيا العالمية، كما يقود جهود تنويع الاقتصاد على الصعيد المحلي.
يقول المصرفيون في القطاع الخاص إنَّ أثرياء السعودية الذين يشعرون بالقلق بشأن سلامتهم الشخصية وثرواتهم العائلية، يقومون بإخراج مليارات الدولارات من البلاد في السنوات الأخيرة على الرغم من محاولات الحكومة للحد من التحويلات الخارجية.
ويقول أحد المصرفيين في لندن: "لا شيء من هذا يصب في صالح الاستثمار الخاص في مستقبل البلاد. هناك الكثير من الخوف".
لكن يبقى استهداف خاشقجي لغزاً محيراً بسبب أنه لم يكن معارضاً بالمعنى الحقيقي
لعقود وأصابع الاتهام توجه إلى الحُكَّام السعوديين باختطاف الأمراء الخارجين عن سطوتهم، بما في ذلك اختطاف أمير في فترة لم تتجاوز العامين. ويقول مصدر بارز على اطلاع بخبايا قضية خاشقجي: "لقد حدث هذا من قبل، ولكنها كانت مسألة عائلية، ولم يُلاحق أشخاص من خارج العائلة الملكية. هذا جنون".
بالنسبة للكثيرين، لا يكمن اللغز الأكبر في ما حدث لخاشقجي، وإنما في سبب استهدافه. ويقول دبلوماسي أوروبي كان يعرف الصحفي خاشقجي منذ سنوات: "لا أفهم لماذا يفعل السعوديون ذلك. فلم يكن نقد خاشقجي لاذعاً إلى هذا الحد".
في الأيام التي تلت اختفاءه مباشرةً، وكان الافتراض بين الأصدقاء والمؤيدين أنَّه مُحتجز، وربما أُعيد إلى الرياض. وهي خطوة قاسية، وإن كانت غير مستبعدة في ضوء اتهام السعودية العام الماضي باحتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري كرهينة.
وأفادت وكالة أنباء تركية حكومية يوم السبت 6 أكتوبر/تشرين الأول بأنَّ 15 مواطناً سعودياً وصلوا إلى إسطنبول على متن طائرتين خاصتين في يوم اختفاء الصحفي. وقد ذهب خاشقجي إلى القنصلية وفقاً لموعد مُحدد مُسبقاً، والأرجح أنَّ فريقاً كان ينتظره حتى يُعيده إلى الخليج.
ولكن في تلك الليلة، أخذت القصة منعطفاً أكثر قتامة. أطلع مسؤول حكومي وسائل الإعلام الدولية على أنَّ السلطات التركية تعتقد أنَّ خاشقجي قد قُتل في هجوم "مع سبق الإصرار"، مضيفاً أنَّ الشرطة تعتقد أنَّ جثته قد جرى تشويهها وإخراجها من المبنى في حقائب دبلوماسية. وفي وقتٍ لاحق، أظهرت صور كاميرات المراقبة المُسربة نشاطاً غريباً خارج القنصلية، مع مرور سيارات وشاحنات صغيرة ذهاباً وإياباً، في يوم زيارة خاشقجي.
وليس من الواضح كيف تمكن المسؤولون من معرفة ما حدث داخل مبنى لم تتمكن الشرطة من دخوله. واقترح أصدقاء خاشقجي أن يكون لدى السلطات التركية مُخبرون أو جواسيس بداخلها. كما ادعى كمال أوزتورك، وهو كاتب عمود في صحيفة مؤيدة للحكومة، أنَّ هناك شريط فيديو لوفاة خاشقجي.
وأخبر مسؤول تركي لم يُكشف عن هويته يوم أمس صحيفة The Washington Post الأميركية أنَّ السلطات لديها تسجيل صوتي لخاشقجي وهو يتعرض للتعذيب.
وازدادت القصة تعقيداً بسبب تعقب تسجيلات الكاميرات، والتقارير المتضاربة، وتحفظ السلطات التركية عن الإفراج عن الأدلة، حتى أقدمت على نشر لقطات كاميرات المراقبة يوم الأربعاء، 10 أكتوبر/تشرين الأول، والتي تُظهر خاشقجي يدخل القنصلية. ولم تؤكد الحكومة أياً من التفاصيل المُروعة التي نشرها مسؤولون لم يُكشف عن أسمائهم.