مع كل 40 دقيقة يتطوّع معلم في تعز لهزّ كأس معدنية تتدلّى من خيط صغير حتى تصدر رنيناً، إيذاناً بانتهاء حصة دراسية، وابتداء أخرى في مدرسة النهضة، التي يدرس فيها نحو 800 طالب بحي السلامي غربي مدينة تعز (جنوب غربي اليمن).
الكأس التي تُستخدم لشرب المياه تحولت إلى جرس، والمنزل الذي ما يزال قيد الإنشاء أصبح مدرسة، ومنذ 3 أعوام أصبح فناء المنزل ساحة للطلاب يؤدون فيه طابور الصباح، ويلهون بألعابهم فيه عند استراحة اليوم الدراسي.
عقب طابور الصباح، يزدحم الأطفال في سلالم المنزل للوصول إلى الغرف، ومع كل درجة يصعدونها تكبر أمانيهم بأن يجدوا تلك الغرف وقد أصبحت فصولاً دراسية واسعة، تحتوي على كراسيّ صغيرة، بدلاً من جلوسهم على الأرضية الصلبة، التي ما تزال غير مستوية ومليئة بالأتربة.
لكن ذلك يبقى ترفاً للطلاب الذين لم يجدوا أي مدرسة في الحي الغربي للمدينة، فمنزل عادل الشريحي، معلم في تعز ، الذي حولّه إلى مدرسة، سيضمن لـ800 طالب، معظمهم من أبناء الفقراء والنازحين، الحصول على حظهم من التعليم، الذي انهار في اليمن.
يجول الأستاذ عادل الشريحي بين غرف منزله التي لم يكتمل بناؤها، وعوضاً عن أن تكون سكناً له وأطفاله، يقرفص فيها العشرات من الأطفال أمام سبورة صغيرة في كل غرفة، وأمامهم يقف أحد المعلمين لإعطاء الدروس.
معلم في تعز ضمن للعشرات من الأطفال حظاً في التعليم
يقول عبدالحكيم عبدالله، وهو أب للطفل مصطفى الذي يدرس في الصف الخامس، إنه لولا مدرسة النهضة لكان طفله باقياً في المنزل؛ بسبب إغلاق المدرسة التي تقع في خط تماس المعارك الدائرة بين مسلحي جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، والقوات الحكومية المدعومة من التحالف العربي بقيادة السعودية.
ويضيف لـ "عربي بوست"، إن أقرب مدرسة آمنة لطفله تبعد نحو 4 كيلومترات، وسيكون لزاماً على طفله أن يقطع مناطق مهدَّدة بقصف الحوثيين، ويعبر نقاط تفتيش ومواقع عسكرية.
وبصوت يحدوه الأمل بتوقف الحرب في مدينة تعز، يقول: "توجد مدارس أهلية في حيّنا، لكن لا يمكنني أن أدرّس أطفالي فيها؛ بسبب الرسوم المرتفعة التي يصل أقلها إلى 70 ألف ريال يمني في العام (100 دولار أميركي)، وهذا المبلغ لا يمكنني توفيره".
ويواصل عبدالحكيم حديثه بلهجة تنم عن الثناء والشكر، ويقول: "ربنا سخّر لنا معلم في تعز هو الأستاذ عادل الشريحي، الذي حوّل بيته وسكنه إلى مدرسة، طفلي اليوم يواصل تعليمه منذ 3 سنوات، بعد أن أدت الحرب إلى إغلاق مدرسته".
في المنزل الذي ما تزال غرفه دون أبواب، يشرف الأستاذ عادل الشريحي على التدريس، محاولاً أن تكون العملية التعليمية -في منزله الذي عانى كثيراً لبنائه قبل أن يقرر تحويله إلى مدرسة- منضبطة، لا تقل التزاماً عن مثيلاتها في المدارس الأهلية الأخرى.
ويقول لـ "عربي بوست"، إنه قرر تحويل منزله إلى مدرسة بعد أن حرمت الحرب أطفال الحي من مدارسهم، فالمدرسة الوحيدة أُغلقت بسبب موقعها القريب من معسكر الدفاع الجوي، وهو موقع عسكري يخضع لسيطرة القوات الحكومية، لكن الحوثيين يشنون هجمات متكررة لاستعادة السيطرة عليه.
ويضيف: "المنزل المكوّن من طابقين ما يزال قيد البناء، ولم يكتمل حتى اللحظة، ويوجد لديه باب واحد، وشبابيك لغرف الدور الأرضي، أما الدور الثاني فمفتوح على مصراعيه، لكن الدراسة فيه مستمرة منذ 3 أعوام".
المدرسون موجودون، لكن لا مدارس
وعن الأسباب التي جعلته يقْدم على هذه الخطوة، يقول الشريحي إن أطفال أسرته كانوا أول المتضررين من إغلاق المدارس بسبب الحرب التي اندلعت مطلع عام 2015، في حين تبعد أقرب مدرسة حكومية عن منزل أسرته 5 كيلومترات.
ولأن التعليم ضرورة، دفع هذا الوضع الشريحي، معلم في تعز ، مع عدد من المعلمين لتدريس أطفالهم في الحي نفسه، لكنهم افتقروا إلى المكان، وبعد تفكير قال معلم الإنكليزية عادل الشريحي "سندرّس في منزلي".
وما لبث أن توافد طلاب الحي إلى المنزل للدراسة، وخلال أيام كان أكثر من 1000 طالب يتقدمون إلى التسجيل، لكن الطاقة الاستيعابية فرضت على الشريحي استبعاد 200 طالب بإمكانهم الدراسة في 13 مدرسة أهلية (غير حكومية) مجاورة.
ويحكي الأستاذ، الذي تخرّج في جامعة تعز، أن العشرات من الطلاب الجامعيين تطوّعوا للتدريس في المنزل (مدرسة النهضة)، وحالياً يعمل 24 متطوعاً في تدريس المنهج الدراسي، بالإضافة إلى 16 معلماً، منتدبين من وزارة التربية والتعليم في الحكومة اليمنية.
ولأن البدايات غالباً ما تكون صعبة، قال الشريحي إن السلطات لم تقدم دعماً للمدرسة التي أنشأها، خصوصاً أن طلاب الصف الأول الدراسي والثاني يدرسون في العراء، بجوار المنزل؛ نظراً إلى عدم قدرة المنزل، الذي يحوي على 11 غرفة، على استيعاب كل الطلاب.
ويضيف أن التدريس وانشاء المدرسة تم وفق جهود ذاتية، خشية على ضياع مستقبل المئات من الأطفال الذين وجدوا أنفسهم بعيدين عن التعليم والمدارس بسبب الظروف الحالية، ووظفناها لأبناء الفقراء والنازحين في الحي.
مليوني طفل بلا تعليم
طريق العودة للمدرسة في اليمن هذا العام، تتخله عقبات كثيرة، إثر الحرب المندلعة في البلاد، وتداعياتها المتمثلة في انهيار الوضع الاقتصادي والمعيشي لأكثر من 22 مليون، بينهم 8 ملايين شخص يعيشون على حافة المجاعة، حسبما أعلن برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة.
وعجز الآباء عن تحمّل تكاليف التحاق أطفالهم بالمدارس، فيما لم توفر السلطات التعليمة كتباً دراسية، لينعكس ذلك على توجه الآلاف من الطلاب إلى العمل، بينما فتحت أطراف الحرب أذرعها لهم تمهيداً لانضمامهم لها كمقاتلين.
وفي وقت سابق، قالت منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة "يونيسف"، إن التعليم في اليمن أحد أكبر ضحايا هذه الحرب، وإن عدد الأطفال خارج المدارس بلغوا قرابة 2 مليون طفل في مختلف المحافظات.
كما قال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن بمناسبة اليوم العالمي للفتاة الذي يصادف 11 أكتوبر من كل عام، اليوم الخميس، إن 31% من فتيات اليمن خارج المدارس، وإنه بسبب النزاع أصبحت فتيات اليمن، أكثر عرضة لخطر فقدان التعليم الابتدائي أو الثانوي.
ورغم مرور شهر على بداية العام الدراسي الحالي، فإن عددا من المدارس لم تفتح حتى اليوم، حسبما يفيد مصدر في الحكومة اليمنية، بعد أن عزف المعلمين عن التدريس واتجهوا للعمل في مهن أخرى، بسبب انقطاع صرف الرواتب منذ عامين.
وانعكس ذلك في ازدياد هائل بالمدارس الأهلية التي تستثمر في التعليم. وهذا ما دفع أحدهم لتقديم عرض لعادل الشريحي، معلم في تعز ، يحثه لتحويل المدرسة العامة إلى أهلية، لكن الأخير رفض الفكرة تماماً، ويقول لـ"عربي بوست"، إن أطفاله ذاقوا حرمان التعليم، "ولذلك لن أحوّل منزلي إلى مدرسة خاصة وأحرم أولاد الفقراء والنازحين".