بقرار كان متوقَّعاً، أمر القضاء التركي، الجمعة 12 أكتوبر/تشرين الأول 2018، بإطلاق سراح القس الأميركي الخاضع للإقامة الجبرية أندرو برانسون، والسماح له بالسفر إلى بلاده.
القس، الذي كان سبباً في توتر كبير بالعلاقات بين أنقرة وواشنطن على مدار عدة أشهر، بحسب القضاء التركي، قضى محكوميته، ويمكنه السفر إلى بلاده في أي وقت.
لكن بعيداً عن الجوانب القضائية للواقعة، فإن أموراً أخرى كثيرة، سياسية واقتصادية أيضاً، كانت سبباً في إيجاد مَخرج قانوني لإطلاق سراح القس.
الأزمة الاقتصادية
ومنذ قرابة شهرين، تسببت هذه القضية وبعض التفاصيل الاقتصادية الأخرى في تدهور الليرة التركية ووصولها إلى مستوى قياسي لم تصل إليه منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم قبل 15 عاماً.
وعقب رفض تركيا إطلاق سراح برانسون؛ بسبب الاتهامات التي وُجهت إليه، فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية على وزير المالية ووزير الداخلية التركيَّين، كما فرضت الولايات المتحدة ضرائب على الصلب والألومنيوم التركيَّين، قبل أن تردَّ أنقرة بالمثل.
هذه العقوبات والتوترات تسببت في زيادة الضغط على الاقتصاد التركي بشكل كبير، خاصة في هذه الفترة التي يعاني فيها ارتفاع نسبة التضخم، وكذلك العمليات العسكرية التي تشارك فيها أنقرة بسوريا.
قضية جمال خاشقجي
حتى الآن، لم تزل قضية الإعلامي السعودي البارز جمال خاشقجي، الذي قُتل بمقر قنصلية بلاده في إسطنبول، تُلقي بظلالها على الوضع في تركيا، فأنقرة تسعى بشكل قوي إلى تهييج الرأي العام العالمي ضد المملكة العربية السعودية عقب هذه الفعلة.
ولعل ما أسهم في دخول الولايات المتحدة على خط القضية، أن خاشقجي كان يعمل صحافياً في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، التي تقاتل من أجل إظهار الحقيقة في قضيته، خاصة أن المملكة العربية السعودية ما زالت متمسكةً بروايتها التي تقول إن خاشقجي خرج من مقر القنصلية عقب إجراء معاملته.
ويبدو أن تركيا حاولت ضم الولايات المتحدة إلى صفها بهذه القضية، خاصة في ظل رغبة كثيرين بالإدارة الأميركية في معاقبة الرياض في حالة ثبوت تورطُّها بهذه القضية.
وبالتأكيد، قد يؤثر إطلاق سراح القس الأميركي على مستقبل قضية الإعلامي السعودي، ففي حال نجحت أنقرة في ضم واشنطن إلى صفها، فإن ذلك قد يمثل ضربة قوية لطموحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يعتبره البعض "المتهم" الأول في قضية جمال خاشقجي.
هل توافَق الطرفان على القرار قبل أسابيع؟
يبدو أن هذا القرار، قبل أن يكون قضائياً، كانت وراءه رغبة سياسية من الطرفين، فبحسب صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، فإن الطرفين التركي والأميركي مهَّدا لهذا الأمر قبل فترة ليس بعيدة، وبالتحديد في أثناء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي (سبتمبر/أيلول 2018).
وقال مسؤولون أميركيون، الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول 2018، إنه تم التفاوض على اتفاق بين الجانبين لإطلاق سراح القس برانسون، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضى (سبتمبر/أيلول 2018).
وقالوا المسؤولون إن الصفقة ستشمل رفع العقوبات الأميركية مقابل رسوم مخفضة، ما يعيد العلاقات الدافئة مرة أخرى بين الحليفين الهامين في حلف شمال الأطلسي الناتو؛ تركيا وأميركا.
هل انتهت الخلافات بين البلدين بشكل تام؟
رغم أن هذا القرار سيكون لها انعكاس إيجابي على العلاقات بين واشنطن وأنقرة، فإن هناك العديد من الملفات الشائكة التي لم تُحَل، مثل صفقة التسلح الخاصة بطائرات الشبح الأميركي "إف-35″، التي ترغب تركيا في الحصول عليها، في حين يرفض الكونغرس حتى الآن.
أيضاً، صفقة الأنظمة الدفاعية الجوية الروسية "إس-400″، التي بدأت تركيا بالفعل تزعج بها الولايات المتحدة، وترغب الأخيرة في أن وقفها، بالوقت الذي تصر فيه أنقرة على موقفها ورغبتها في اقتناء هذه التقنية الحديثة.
من الملفات الشائكة أيضاً بين البلدين، النزاع في سوريا، فتركيا دوماً تتهم الولايات المتحدة بتسليح عناصر كردية تصنفها أنقرة بأنها "إرهابية"، في حين تصر أميركا على المضي في هذا الأمر، مسوِّقة رواية أن هذه الفصائل تقاتل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، ولا يوجد تهديد للأمن التركي من قِبل هذه الفصائل.
في كل الأحوال، قد تشهد العلاقات بين أميركا وتركيا في الفترة القادمة هدواً نسبياً، والعودة تدريجياً للوضع السابق، مع تآكل التصادم في الملفات الشائكة بينهما، فكلا الطرفين يريد الإبقاء على الطرف الآخر دون أن يتغلب أحدهما على الآخر.