مقال على صحيفة The Times يدعو أميركا وبريطانيا إلى استهداف نقاط الضعف السعودية، مثل بيع الأسلحة، واعتبارها حليفاً ضد الإرهاب، وأخيراً فرض عقوبات مالية على شخصيات سعودية بارزة وكبار المسؤولين.
ردود الفعل العالمية على قضية اختفاء جمال خاشقجي تتعاظم، بينما يدوّي صمت السعودية أنحاء العالم.
يقول الكاتب الصحافي البريطاني ديفيد آرونوفيتش: "لا يزال هناك احتمال وارد بأنَّ هذه الجريمة لم تقع من الأساس، فلا توجد جثة ولا دليل، ولكن لو فرضنا أن الناقد والصحافي جمال خاشقجي لا يزال حياً في مكان ما، فمن هم إذاً هؤلاء السعوديون الذين غادروا إسطنبول؟".
دخولهم وخروجهم السريع وعلى متن طائرتين خاصتين كان أشبه بمهمات تسليم المرغوبين لدولهم التي تنفذها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.
هل من الممكن أنهم سافروا إلى هناك فحسب لإجراء جولة سريعة في قصر توب كابي الرائع في إسطنبول؟
الحادثة إعادة لسيناريو تسميم العميل الروسي السابق سكريبال
وسائل الإعلام التركية نشرت أنَّ هؤلاء السعوديين هم أفراد جيش وأمن وخدمات طبية.
بدأ الأمر يشبه إعادة لسيناريو حادثة تسميم العميل الروسي السابق سيرغي سكريبال، باستثناء أنهم إذا كانوا قد أنجزوا المهمة بالفعل.
فهذه المرة القتلة ينتمون لدولة حليفة وليست معادية، والهدف كان رجلاً، كل جريمته أنه تجرَّأ وعبَّر عن رأيه.
فآراء خاشقجي كانت "بالغة الحقيقة والعقلانية"
يكمل آرونوفيتش مقاله قائلاً: "كان خاشقجي يكتب أعمدة لصحيفة The Washington Post الأميركية، وتحدث حول الشرق الأوسط غالباً خلال مؤتمرات عُقِدت في لندن، حيث يقطن الكثير من أصدقائه".
وقال إنه عاش في منفى بعيداً عن السعودية، لكن الكثير من متابعيه على تويتر، وعددهم 1.69 مليون كانوا سعوديين.
اتسمت انتقاداته لحكومة ولي العهد محمد بن سلمان (33 عاماً) بأنها حقيقية ومعقولة جداً. ربما أيضاً بالغة الحقيقة والعقلانية.
والسعودية باتت حساسة ضد أي نقد
ما يعرفه متابعو الشأن السعودي يمثل حقيقتين:
أولاً، السعودية عالقة فيما يتضح أنها حرب بلا نهاية في اليمن.
وثانياً، يعتبر ولي العهد شخصية إصلاحية تتصدى لرجال الدين المحافظين، وسمح للنساء بالقيادة.
ولكن ما لا يعرفه الكثيرون هو إلى أي درجة لا تتقبل هذه الحكومة الإصلاحية النقد.
ففي شهر أغسطس/آب الماضي، أعربت وزيرة الخارجية الكندية في تغريدة عن قلقها إزاء سجن شقيقة المعارض السعودي رائف بدوي، الذي يقبع كذلك في السجن على خلفية اتهامه بـ "إهانة الإسلام عبر قنوات إلكترونية".
واستجاب السعوديون لتلك التغريدة، كما لو أنَّ الكنديين أسقطوا طائرة لهم، برأي الكاتب.
إذ أعربوا عن غضبهم من "مطالب أوتاوا"، ثم أعلنت الرياض وقف العلاقات الدبلوماسية وطرد السفير الكندي، وتجميد مشروع استثماري جديد بين البلدين، وسحب الطلبة السعوديين من كندا.
أميركا التزمت الحياد تجاه الخلاف الأخير مع كندا وروسيا قدمت نصيحة
ولم يصدر عن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب أي رد فعل، سوى التنويه إلى أنَّ البلدين "شريكان مقربان" للولايات المتحدة.
أما الرئاسة الروسية فانحازت إلى الجانب السعودي، إذ قالت متحدثة رسمية روسية: "ما يحتاجه المرء على الأرجح في هذا الموقف هو نصيحة بناءة ومساعدة، بدلاً من الانتقاد من جهة ترى في نفسها أنها متفوقة أخلاقياً".
ويتساءل الكاتب ما هو نوع "النصيحة البناءة" التي كان الروس يقدِّمونها للسعوديين.
هل يُحتمَل أنها محاضرات عن "سحب فرق الموت من الدول الأعضاء بحلف شمال الأطلسي (الناتو)؟".
سعوديون يشبِّهون تصفية خاشقجي بأسلوب الموساد
يظن بعض السعوديين أنَّ اختفاء خاشقجي يعكس لجوء النظام الحاكم السعودي إلى استخدام أحد أساليب جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد).
ولكن إذا تبيَّنت صحة ذلك، فلا بد من القول إنَّ قتل معارض يختلف عن قتل قيادي في الجناح العسكري لحركة حماس الفلسطينية.
وفي وقتنا الحالي، يعتبر الكاتب البريطاني أنَّ الحكومات التي تقتل المعارضين أثناء وجودهم على أرض دول صديقة لن تكون صديقة لبريطانيا، بل ستكون بطبيعة الحال عدوة.
والعلاقات الغربية مع السعودية سيف ذو حدين
يتسم بعض الأصدقاء بأنهم مثيرون للمشاكل.
فعلى سبيل المثال، لم يكن من الممتع قط مشاهدة العائلة البريطانية الملكية تدعي أنها سعيدة بالتعاون مع ملوك الخليج الديكتاتوريين، كما وصفهم آرونوفيتش.
ولكن حتى قبل وصول محمد بن سلمان للحكم، كانت هناك أسباب قوية لتحملهم.
بيد أنَّ السعودية تظل في المقام الأول شديدة الأهمية. ففي منطقة لا تزال هي الموفر الأساسي للنفط في العالم، تمثل السعودية الاستقرار بمواجهتها للتوسع الإيراني.
فهي توفر كذلك معلومات استخباراتية حول التطرف الإسلامي.
ويقول الكاتب: "قد نستنكر الطريقة التي تخوض بها الحرب في اليمن، لكن هذا لا يعني أننا نفضل الحوثيين. يا له من أمر مؤسف".
إضافة إلى ذلك، تبتاع السعودية من بريطانيا أكثر بكثير مما تبتاعه من غيرها.
وتستثمر كذلك الكثير في بريطانيا، ومن ثَمَّ تخلق الكثير من فرص العمل البريطانية التي تعتمد على نواياها الطيبة.
فكما حدث في 1980 عقب فيلم "موت أميرة"، يمكن حتى لفيلم وثائقي درامي حول القوانين والأعراف السعودية أن يهدد التجارة الحيوية بين البلدين. فالفيلم كان يتحدث عن إعدام للأميرة السعودية مشاعل بنت فهد بن محمد آل سعود، لاعترافها بارتكاب الزنا.
ومن هنا نصح آرونوفيتش بضرورة التحلي بالواقعية.
كانت السعودية متجهة نحو الانفتاح والإصلاح تدريجياً
والأهم من ذلك كله هو أنَّه منذ نهاية الحرب الباردة، بدت المملكة العربية السعودية منفتحةً نحو الإصلاح.
ويشير الكاتب: "حتى في الوقت الذي كانت تضخ فيه أموالاً لدعم المشاريع الوهابية المتطرفة حول العالم، كان الخيار الأفضل هو الرهان على تغييرها تدريجياً نحو النمط الغربي. دعونا إذاً لا نقم بشيء يُفسِد الوضع تماماً".
ومنذ العام الماضي، يجري ولي العهد السعودي إصلاحات في المملكة. ويقترح برنامجه الإصلاحي "رؤية 2030" خلق فرص عمل للسعوديين، ومنح السيدات حقوقهن وتقويض الامتيازات الممنوحة لرجال الدين المحافظين.
لكن غير مسموح لأية جهة باستثناء الحكومة أن تستحدث هذه الإصلاحات
فلا يمكن تنفيذ تلك الإصلاحات واتخاذ القرارات بشأنها والتفكير بها إلا بطريقة واحدة.
ومن ثم، تُكمَم أفواه الإصلاحيين ويُسجنون على نطاق غير مسبوق من قبل.
كتب خاشقجي ليشجع الإصلاح وينتقد غياب الحرية السياسية.
هل كان خاشقجي يعلم الكثير ففضَّلوا إسكاته؟
ويتساءل آرونوفيتش: "هل كان ولي العهد يعتبر ذلك كافياً ليستوجب اختطاف خاشقجي، أو قتله؟ أم هل كان خاشقجي يمثل تهديداً لأنه كان يعرف الكثير حول الروابط السعودية مع أسامة بن لادن؟".
وحتى وقتنا هذا، يمكن أن تُحدِث تفاصيل تلك الصلة ضرراً غير قابل للإصلاح في العلاقات السعودية الأميركية، ولكن في كلتا الحالتين، ما الذي يتعيَّن فعله؟
ينقل الكاتب عن مصادر مطلعة أنَّ ولي العهد أصبح مع الوقت يسكن داخل "فقاعة من الارتياب"، تدفعه إليها حاشيته، وإصداره أوامر سيئة في الساعات الأولى من الصباح الباكر التي كان مزاجه فيها سيئاً.
وإذا صحَّ ذلك، فنحن بصددِ طريقٍ لا رجعة فيه. ففي مقابل كل قائد يماثل الإمبراطور الروماني سولا، يمسك بزمام السلطة لفترة من الزمن، ثم حين تنتهي المهمة ويُفلِت هذا الزمام، سنجد حكاماً ديكتاتوريين يرفضون التخلي عن السلطة.
فهناك 10 من أمثال روبرت موغابي، الذي ترأس زيمبابوي لـ30 عاماً، والمئات مثل دانييل أورتيغا الذي حكم نيكاراغوا لـ11 عاماً. وبالتأكيد، سيزداد ولي العهد سوءاً، على حد تعبيره.
سياسة "ربما يكون قاتلاً لعيناً لكنه قاتِلُنا اللعين" لا تنفع بعد اليوم
ويعتبر الكاتب أنه لم يعد بالإمكان تحمل تكلفة السياسة الواقعية للحرب الباردة، التي تقول "ربما يكون قاتلاً لعيناً لكنه قاتِلُنا اللعين".
إذ إنَّ هذا الشعور، الذي أعرب عنه الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت نحو ديكتاتور نيكاراغوا أناستاسيو سوموزا، خلَّف إرثاً من عدم الثقة تجاه النفاق الغربي في كثير من الدول.
ومن ثم، فإذا قتل نظام الأمير محمد بن سلمان أحد معارضيه في دولة أخرى، فلا يمكن تجاهل ذلك.
وما حدث داخل القنصلية يجب أن تظهر حقيقته
ويختم الكاتب مقاله قائلاً: تعد بريطانيا والولايات المتحدة أهم شريكتين للسعودية. وكان جمال خاشقجي صديقاً لكلا البلدين".
ويضيف: "إذا كنَّا نحلم بعالم لا "يختفي" فيه المعارضون أو يُقتلون بسبب آرائهم، فعلينا أن نتخذ خطوات من شأنها منع مثل هذه الجرائم".
ويعتبر أنه لا يكفي مجرد إجراء تحقيق حول الواقعة. ولا يكفي كذلك فرض عقوبات على صغار المستهلكين السعوديين ومنعهم من شراء منزل في منطقة هايد بارك في العاصمة البريطانية.
إذ يتعيَّن على السعوديين، وفق تقديره، الكشف صراحةً عمَّا حدث لخاشقجي بينما كان داخل قنصليتهم، ولماذا لم يُر من وقتها.
وإذا فشلوا في الخروج بتفسير بريء مقنع -ومن الصعب تخيل كيف سيتمكنون من الخروج بمثل هذا التفسير برأيه- فعلى الغرب إذاً أن يحملهم المسؤولية.
وإلا فلا مفر من فرض عقوبات مالية على شخصيات سعودية بارزة
ودعا إلى توقف أميركا وبريطانيا عن بيع الأسلحة والتعاون مع الرياض، وفرض عقوبات مالية على كبار المسؤولين السعوديين.
منذ عام مضى، كتب خاشقجي في مقال في The Washington Post: "تركت منزلي، وعائلتي، ووظيفتي، وأرفع صوتي، بإمكاني التعبير عن رأيي في حين يعجز عن ذلك الكثيرون".
أما اليوم فيقول آرونوفيتش: "ليس بإمكانه التعبير عن رأيه، ولكن نحن بإمكاننا ذلك".