حذّر وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت، الخميس 11 أكتوبر/تشرين الأول 2018، السعودية بأنها ستواجه "عواقب خطيرة" في حال تأكَّدت شكوك المسؤولين الأتراك في وقوف الرياض خلف اغتيال جمال خاشقجي بعد دخوله القنصلية السعودية في إسطنبول ، وهو ما يهدد العلاقات السعودية البريطانية .
وذكرت صحيفة The Guardian البريطانية، أن المزاعم التي تتضاعف يوماً بعد يوم، حول تورُّطٍ سعوديٍّ أمني رفيع المستوى في إخفاء الصحافي جمال خاشقجي وربما قتله، تتسبب في وضع عبء غير مسبوق على كاهل العلاقات الأمنية والتجارية الوثيقة بين المملكة المتحدة والسعودية، والتي تشكل ركيزة من ركائز السياسة الخارجية البريطانية.
هكذا احتفى وزير الخارجية البريطاني بولي العهد السعودي
دافع وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت، في وقت سابق، بحماسة، عن العلاقات السعودية-البريطانية، قائلاً إنها منعت انفجار قنابل بشوارع لندن، وساعدت في ملء خزائن الدولة.
واستند الاستقبال الحافل الذي حظي به محمد بن سلمان في زيارته لندن، في مارس/آذار 2018، والتي استمرت 3 أيام، إلى تلك العلاقات السعودية البريطانية الممتدة؛ بل ما عززها أكثر، الآمال المعلَّقة على ولي العهد، باعتباره شخصية إصلاحية يهمّش دور الشرطة الدينية المحافظة في بلاده.
وأثمرت الزيارة 13 مذكرة تفاهم، وتعهداً باستثماراتٍ قدرها 65 مليار جنيه إسترليني بالمملكة المتحدة في غضون العقد القادم.
في الدوائر الخاصة، لم تساور الدبلوماسيين البريطانيين أيُّ شكوك على الإطلاق، في أن الإصلاحات الاجتماعية التي يروّج لها بن سلمان، مثل السماح للمرأة بالقيادة، تبشر بِحُرية سياسية أكبر.
ولكن في ظل سعي ولي العهد لتنويع الاقتصاد السعودي، عبر خطته المعلنة التي تحمل اسم "رؤية 2030″، منح على الأقل بريطانيا ما بعد البريكست فرصةً لتوسيع نطاق العلاقة بين البلدين إلى ما هو أبعد من المعدات العسكرية، لتمتد إلى قطاعات التشييد والبناء، والنقل والمواصلات، والتعليم.
لكن، يبدو أن الوضع سيختلف مع اغتيال جمال خاشقجي
يقول تقرير الصحيفة البريطانية إنَّ واقعة اغتيال جمال خاشقجي بعد اختفاءه منذ دخلوه القنصلية السعودية في إسطنبول، تُهدِّد بتقليل جاذبية تلك الفكرة، فضلاً عن أنَّها ستجعل الملايين التي أنفقها السعوديون على عملاء العلاقات العامة الغربيين تضيع هباءً.
وصرّح وزير الخارجية البريطاني لوكالة الأنباء الفرنسية، قائلاً: "الأشخاص الذين يعدّون أنفسهم منذ فترة طويلة، أصدقاء للسعودية، يقولون إن هذه مسألة في غاية الخطورة". وأضاف: "وفي حال ثبتت صحة هذه المزاعم، فستكون هناك عواقب وخيمة؛ لأن صداقاتنا وشراكاتنا تقوم على القيم المشتركة".
وأكد المسؤول البريطاني: "نحن في غاية القلق"، مشيراً إلى أنه تحدث مع نظيره السعودي عادل الجبير، وأبلغه "مدى قلق بريطانيا البالغ".
فهذه المرة السعودية تجاوزت الحدود!
ومع أنَّه يكاد لا يخفى على أحد أن السعودية تسجن الصحافيين، فإنَّ ارتكاب مثل هذا التصرف الوقح اغتيال جمال خاشقجي -الذي تؤيده الدولة- في دولةٍ أجنبية ربما يتجاوز الحدود. ففي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بدا بعض الساسة والدبلوماسيبن الذين يُصنَّفون بأنهم أصدقاء لممالك الخليج -مثل بوب كوركر عضو لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ- مصدومين من الحادث.
ويمكن أن يبدو غضُّ الطرف عن تقارير تزعم ارتكاب مثل هذا التصرف الدموي، نفاقاً شديداً من جانب المملكة المتحدة؛ وهي التي تواصل مساعيها في مواجهة محاولات القتل خارج نطاق القضاء، التي حاولت روسيا ارتكابها في منطقة سالسبوري البريطانية بحق عميلٍ روسي سابق وابنته.
حتى إن المعضلة أشد وطأة؛ نظراً إلى أن بريطانيا اختارت دعم الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا عام 2016. ربما لا تكون تركيا البطل المنافح عن حرية الصحافة، لكنها ستتوقع من البلاد الأجنبية الأخرى أن يدينوا أي انتهاك لسيادتها.
فهل تعيد لندن التفكير في تقييم العلاقات السعودية البريطانية ؟
يكمن السؤال المهم فيما إذا كانت واقعة اغتيال جمال خاشقجي ستثير إعادة تفكير أكبر في قيمة العلاقات السعودية البريطانية . صحيحٌ أنَّ المملكة المتحدة تتعلَّل سياستها بأنَّ التقارب يضمن النفوذ والتأثير، وهي وجهة نظر تُكررها في الدفاع عن دعمها حملة القصف التي تقودها السعودية في اليمن، لكنَّها تأبى خوض نقاشٍ أوسع حول التحالف.
فأحد المسؤولين البريطانيين، الذي كان منتظَراً منه الدفاع عن العلاقات بندوة نظَّمها معهد تشاتام هاوس في الشهر الماضي (سبتمبر/أيلول 2018)، انسحب في الدقيقة الأخيرة.
واستحثت دراستان خارجيتان، صادرتان مؤخراً، المملكةَ المتحدةَ لتعيد التفكير في قيمة العلاقات السعودية البريطانية . ويقبل معهد السياسة في كلية كينغز بالعاصمة البريطانية لندن حقيقة أنَّ الخليج ما زال شريان الحياة لصادرات صناعة الأسلحة البريطانية، لكنَّه يقول إنَّ القيمة الإجمالية للعلاقات مع السعودية مبالَغ فيها مبالغة كبيرة.
إذ قال المعهد: "تبلغ القيمة الإجمالية للصادرات التجارية من السلع والخدمات من المملكة المتحدة إلى السعودية 6.2 مليار جنيه إسترليني (8.2 مليار دولار)، لكنَّ هذا يمثل 1% فقط من إجمالي صادرات المملكة المتحدة في عام 2016، التي تصل إلى 547 مليار جنيه إسترليني (722.5 مليار دولار).
وتُشكِّل الواردات من السعودية 0.3% من إجمالي واردات المملكة المتحدة، أو ملياري جنيه إسترليني (2.64 مليار دولار) من أصل 590 مليار جنيه إسترليني (779.3 مليار دولار) في عام 2016. وتشكل مبيعات الأسلحة 0.004% من إجمالي إيرادات الخزانة في العام نفسه".
في حين نُشرت الدراسة الأخرى بعنوان Anglo-Arabia، في سبتمبر/أيلول 2018، لمؤلفها الدكتور ديفيد ويرينغ، وذكرت أنَّ العلاقات قائمة بدرجة كبيرة على دور بريطانيا باعتبارها واحدة من قادة العالم في الخدمات المالية، في ظل التمويلات التي تقدمها دولارات النفط وصناديق الثروة السيادية بالخليج لعجز الحساب في المملكة المتحدة. وأشارت الدراسة إلى أنَّ مثل هذه الصفقة غير مستقرة بطبيعتها.
ويبقى الأمل الوحيد للبريطانيين في غياب أدلة "دامغة"
غير أنَّ بريطانيا يمكنها تجنُّب إعادة التفكير في العلاقات السعودية البريطانية إذا ثبت أنَّ أدلة تورُّط الرياض في اغتيال جمال خاشقجي لا ترقى إلى أن تكون دامغة. ويمكن أن يزرع تحقيقٌ، تقترحه الولايات المتحدة ويقوده مكتب التحقيقات الفيدرالي، ما يكفي من الشكوك حول ذلك التورط.
بيد أن المهمة التي أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي التزامها بها من أجل "بريطانيا عالمية"، وضعت لنفسها سقفاً عالياً يتمثل في "الدفاع عن النظام العالمي المستند إلى القواعد في مواجهة الدول غير المسؤولة التي تسعى إلى تقويضه". لذا، يبدو أن "بريطانيا العالمية" تواجه أول اختبار، وهو اختبار شاق حقاً.