تكشف ثلاثة تطورات أخيرة عن هشاشة تحالفات الشرق الأوسط وتغيُّر أولوياتها، ألا وهي: التسوية الروسية التركية بشأن الهجوم على منطقة إدلب السورية التي تسيطر عليها المعارضة، ومصير شركة الطيران الوطنية الإماراتية (الاتحاد) المتعثرة، ومعارك إعادة إعمار سوريا.
تُسلط هذه التطورات الضوءَ على حقيقة أنَّ التنافس بين الخصوم في الشرق الأوسط، والصراع على السلطة المطلقة بين التحالفات المختلفة في المنطقة يتزايد في النواحي الاقتصادية والتجارية، بقدر زيادة التنافس في النواحي العسكرية والجيوسياسية. وتُخاض المعارك على الجبهات الجيوسياسية بنفس حدة المعارك الضارية في الساحات الاقتصادية والثقافية، مثل كرة القدم، حسبما قال موقع The Daily Star.
ونتيجةً لذلك، تَبرُز خطوط الصدع في مختلف التحالفات عبر الشرق الأوسط الكبير، الذي يمتد من شمال إفريقيا إلى شمال غربي الصين.
هناك تصدُّعات في التحالف الروسي التركي الإيراني ومثلها في التحالف الخليجي مع إسرائيل المواجه لإيران
قد تكون مثل هذه التصدعات أكثر وضوحاً في التحالف الروسي التركي الإيراني، لكنَّها توجد أيضاً في خلفية التعاون الخليجي مع إسرائيل في مواجهة إيران، والجبهة الموحدة التي تشكلها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
منعت روسيا، على الأقل حتى الآن، أي خلافٍ مع تركيا بإرجاء شنّ هجوم شامل على إدلب، على الرغم من تأييد إيران لشنّ الهجوم. وتخشى تركيا، التي تؤوي 3 ملايين سوري بالفعل، من أن يؤدي الهجوم السوري الروسي إلى دفع مئات الآلاف من اللاجئين عبر حدودها، إن لم يكن الملايين.
إذا كانت إيران هي الحلقة الأضعف في المباحثات الدائرة حول إدلب، فإنَّها ستكون أقوى في منافستها القادمة مع روسيا على غنائم إعادة إعمار سوريا التي دمرتها الحرب.
وبالمثل، يبدو أنَّ روسيا متردِّدة تجاه استمرار الوجود العسكري الإيراني في سوريا ما بعد الحرب، وهو الوجود الذي قد يمثل نقطة صراع بالنظر إلى المعارضة الإسرائيلية والهجمات الإسرائيلية التي أدت في وقتٍ سابق من هذا الشهر إلى إسقاط طائرة روسية.
وعلى نفس المنوال، فإنَّ تركيا ربما تُشكل أكبر تحدٍّ للجهود القطرية الرامية إلى صقل صورة البلاد على مستوى العالم، من خلال تشغيل واحدة من أفضل شركات الطيران في العالم، والترويج لنفسها كمركزٍ رئيسي للرياضة، على الرغم من دعمها لقطر، في نزاعها المستمر منذ 15 شهراً مع التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات، والذي يقاطع قطر دبلوماسياً واقتصادياً.
وعلى الرغم من فشلها هذا الأسبوع في الفوز بحق استضافة بطولة الأمم الأوروبية لعام 2024، وافتقارها إلى القوة المالية على شاكلة الخليج، تُنافس تركيا بقوة على كل جبهة أخرى مع قطر، وكذلك تُنافس الإمارات التي تسعى للترويج لنفسها من خلال القوة العسكرية والناعمة، وتُعارض أردوغان بسبب ميوله الإسلامية وعلاقاته مع إيران ودعمه لقطر. وتتفوق تركيا بكل سهولة على دول الخليج الصغيرة، عندما يتعلق الأمر بحجم الدولة وعدد السكان والموقع والقاعدة الصناعية والقوة العسكرية والأداء الرياضي.
وهذا، إلى جانب العزم على تقويض قطر، من الممكن أن يكون أحد الأسباب التي جعلت شركات الطيران الإماراتية الكبرى، مثل طيران الإمارات والاتحاد للطيران التي تعاني من نموذج أعمال فاشل، تناقش بهدوء عملية دمج محتملة، من شأنها أن تخلق أكبر شركة طيران في العالم، على الرغم من نفي المسؤولين.
وقد يكون من الأسباب الأخرى أيضاً المنافسة المتمثلة في الخطوط الجوية التركية، التي تتفوق على شركتي الطيران الإماراتيتين بـ309 طائرات ركاب، تخدم 302 وجهة في 120 دولة. وتملك شركة طيران الإمارات، وهي أكبر الناقلتين الإماراتيتين أسطولاً من 256 طائرة، تطير إلى 150 وجهة في 80 دولة.
حيث تثبت الأحداث أن التحالفات غير عميقة، بل هشّة وإجرائية فقط
تشير هذه التطورات الأخيرة إلى أنَّ التحالفات، وخاصةً ذلك الذي يضم روسيا وتركيا وإيران، هشة وإجرائية فقط، ومُوَجهة نحو الاستفادة من المصالح المشتركة المباشرة، بدلاً من الأهداف المشتركة طويلة الأجل، ناهيك عن القيم.
وهذه حقيقة، حتى إذا وجدت روسيا وتركيا أرضيةً مشتركة في المفاهيم الأورآسيوية بشكلٍ متزايد. وينطبق الأمر على تركيا وقطر اللتين تدعمان الجماعات الإسلامية، وكذلك على السعودية والإمارات اللتين تنسقان السياسات عن قرب، رغم أهدافهما المختلفة المكشوفة في اليمن.
وتُعزز من هشاشة التحالفات التطلعات التركية والروسية والإيرانية لإعادة إحياء إمبراطورياتهم في قالبٍ يتناسب مع القرن الحادي والعشرين، فضلاً عن سعي السعودية للهيمنة الإقليمية.
غذَّت أفكار الإمبراطورية السياسات منذ فترةٍ طويلة قبل إعادة ترتيب الصفوف عبر أوراسيا، كنتيجةٍ لتركيز الولايات المتحدة على التحول من الشرق الأوسط إلى آسيا، وصعود الصين، والعلاقات المتوترة بشكلٍ متزايد بين الغرب وروسيا، وزيادة رسوخ الدول الشرق أوسطية مثل السعودية والإمارات وإيران.
أخبر الرئيس التركي سليمان ديميريل الكاتب جايمس دورسي في التسعينات، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور جمهوريات آسيا الوسطى المستقلة ذات الأغلبية العرقية التركية، أنَّ "العالم التركي يمتد من البحر الأدرياتيكي إلى سور الصين العظيم".
وفي عالم تتشكل فيه العولمة بمناطق جيوسياسية، وليس بدولٍ مستقلة، تتطلع روسيا إلى أن تكون منطقة مُعرَّفة كقوة آسيوية وليست أوروبية على قدم المساواة مع الصين، والاتحاد الأوروبي، ومنطقة نفوذ الولايات المتحدة.
ويقول برونو ماكايس، الوزير البرتغالي السابق لشؤون أوروبا، في كتابٍ صدر مؤخراً بعنوان "The Dawn of Eurasia": "بوتين لا يفكر على طول الخطوط القومية. إنَّه يفكر في إطار التكتلات الأكبر، وفي النهاية في إطار النظام العالمي".
وبقيامها بذلك، تدير روسيا فعلياً ظهرها لأوروبا، لأنَّها تعيد تقديم نفسها كقوة آسيوية على أساس مفهوم الأوروآسيوية، وهي أيديولوجية عمرها قرن من الزمان تُعَرِّف روسيا باعتبارها قوة أوروبية آسيوية وليست قوة أوروبية.
والاتحاد الاقتصادي الأوروآسيوي الذي يضم روسيا وكازاخستان وقرغيزستان وروسيا البيضاء وأرمينيا هو وسيلة تسمح لروسيا بتنصيب نفسها كتكتل في المنطقة الحدودية بين أوروبا وآسيا.
وعلى نحوٍ مماثل، وجد التوجه الأوروآسيوي موطئ قدم في تركيا تحت حكم أردوغان، الذي استطاع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وعودة العالم التركي أن يُصَوِّر بلاده على أنَّها ملتقى طرق بين أوروبا وإفريقيا وآسيا، أكثر من كونها جسراً أوروبياً إلى آسيا.
هذه الهشاشة تواجه خطر التفاقم في ظل الأهمية المتزايدة للاقتصاد كعامل مؤثر
من هذا المنطلق، يرى الكاتب التركي سينان بايكنت، أنَّ زيارة أردوغان لألمانيا هذا الأسبوع لتحسين العلاقات بين البلدين، واقتراحه بعقد قمة حول سوريا بين زعماء تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا، هي بمثابة نهج أوروآسيوي لحل القضايا الشائكة.
وقال بايكنت، إنَّ اللقاء بين أردوغان والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كان يهدف إلى تمهيد الطريق أمام حلٍّ أوروآسيوي للمنطقة… هناك محور جديد يتشكل اليوم بين برلين وموسكو وأنقرة وطهران وربما باريس، ضاقت كل هذه الدول ذرعاً بالأحادية الأميركية والسياسات المتهورة لإدارة ترمب".
إذا كانت رؤية تركيا وروسيا لمكانتيهما في العالم تتحدد إلى حدٍّ كبير على أساس الجغرافيا، فإنَّ اعتبارات إيران المكانية تفرض رؤيةً أكثر توجهاً نحو الداخل، على الرغم من الاتهامات التي تواجهها بأنَّها تسعى إلى ترسيخ نفسها كقوة مهيمنة في الشرق الأوسط.
وذكرت منصة ستراتفور المتخصصة في الاستخبارات الجيوسياسية، أنَّ "إيران قلعة حصينة. تحيط بها الجبال من ثلاثة جوانب، ويحيطها المحيط على الجانب الرابع، وتتسع البراري في وسطها". لا تتجذر مخاوف الخليج فقط في انعدام الثقة في النظام الإسلامي الإيراني، بل أيضاً في حقيقة أنَّ أساس الإمبراطورية الفارسية القديمة اعتمد على السيطرة على الأراضي، فيما أصبح يُعرف اليوم بالعراق.
ونتيجةً لذلك، فإنَّ مناورات دول الخليج، على النقيض من تركيا وروسيا، ليست مدفوعةً بشكلٍ كبير بالتأطير المفاهيمي لمكانها في العالم، بل يدفعها أكثر التنافس الإقليمي والحفاظ على استمرار أنظمتها. وتوازن دول مثل قطر والسعودية والإمارات خطواتها، وهي تعتمد جيوسياسياً على الولايات المتحدة، التي لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها بشكلٍ كبير، واقتصادياً على الصين وبقية دول آسيا، بما فيها روسيا وكوريا واليابان.
معضلة إدلب، والتغير المحتمل في الملاحة الجوية، والمنافسة على عقود إعادة الإعمار، كل هذه الأمور تؤكد هشاشة التحالفات في الشرق الأوسط، وهذه الهشاشة تواجه خطر التفاقم، في ظل الأهمية المتزايدة للاقتصاد كعامل مؤثر بجانب الجغرافيا السياسية.
وقالت الكاتبة التركية نوراي ميرت، في معرض تعليقها على الوضع في إدلب: "بدأت مصالح جميع الأطراف تختلف في سوريا، وأصبحت آفاق التعاون مع روسيا وإيران أكثر تحدياً". ويبدو أنَّ تعليقها يناسب مستقبل تحالفات الشرق الأوسط أيضاً.