فتحي بطاينة مقيم في السعودية لمدة تزيد عن الأربعين عاماً، لكنّ كل هذه السنين الأربعين لم تشفع له حتى يبقى في البلاد التي عاش بها أكثر من نصف عمره، وولد ونشأ وترعرع كل أبنائه الأربعة الذين باتوا ينتظرون مصيراً مجهولاً بعد سلسلة من القرارات المتعلقة بحق المقيمين على الأراضي السعودية.
بطاينة الذي يعمل مدرساً للغة العربية في إحدى المدارس الأهلية في العاصمة السعودية الرياض قبل أن يرتقي ليصبح وكيلاً فيها، عاش حياة الغربة هادئة بعيدة عن الصخب وسرعة الإيقاع، هو وأبنائه الأربعة الذين كبروا وكبرت أحلامهم معهم، لكن حياته زادت صعوبة مع تقدم أعمارهم كما يحكي لـ"عربي بوست".
الرجل كان يظن أنّ حياته في الغربة ستبقى جنة الله على أرضه، لكنّه تفاجأ مع مرور الوقت أنها تزيده هماً وغماً، لأنّه يفكر على الدوام كيف يرتقي بحياته وحياة أسرته ويوفر لهم حياة كريمة ومستقبلا مضمونا.
بعد أن تخرجت إحدى بناته من الثانوية العامة بمعدل عال لم يجد أمامه خيار سوى إرسالها إلى الأردن لإكمال دراستها الجامعية في تخصص الطب، حيث كان يمنع آنذاك من تسجيل الطلبة الأجانب في الجامعات السعودية.
المصاريف المرتفعة أثقلت كاهل الأب الذي بات يفكر على الدوام كيف يؤمن أقساط الجامعة السنوية لإبنته، إضافة إلى تكاليف معيشتها الشهرية، الذي كان يضطر إلى تأمينها على حساب مصاريف أسرته.
الوضع زاد صعوبة بعد تخرج أبنائه من المدارس
الوضع بات يزداد صعوبة أكثر فأكثر فقد أخذ أبنائه بالتخرج الواحد تلوا الآخر، الأمر الذي جعل بطانية يحسب لذلك ألف حساب، فالسعودية لم تعد توفره له الخيار الآمن له ولأسرته وأبنائه، خاصة في ظل عدم توفير حق التعليم الجامعي والصحة لأبنائه بعد سن الـ18 بحسب القوانين المحلية.
ولدى فرض الرسوم الشهرية على المقيمين المرافقين للعمالة الوافدة في القطاع الخاص بالسعودية، والتي دخلت حيز التنفيذ بالفعل في الأول من يوليو 2017، حيث تبلغ 100 ريال شهريا عن الفرد بدءا من يوليو 2017، وتتضاعف إلى 200 ريال في نفس الشهر من عام 2018 ، ثمّ 300 ريال عام 2019، و400 ريال عام 2020.
لم يكن أمام بطانية إلا حسم أمره حيال غربته التي دامت الأربعين عاماً واتخاذ قرار حاسم بإنهاء إقامات أبنائه جميعاً والذي كان غالبيتهم بالفعل على وشك الانتقال إلى المرحلة الجامعية.
الأمر الذي جعل بطاينة بالفعل يتخذ هذا القرار الحاسم نظراً لعدم قدرته على الإيفاء بالالتزامات المادية الملقاة على عاتقه، فهناك تكاليف المعيشة وأخرى للتعليم وكذلك للصحة وليس انتهاء برسوم شهرية فرضتها السعودية على أفراد أسرته والتي بلغت في السنة الأولى 6000 لتضاعف في السنة الحالية وتصل إلى 12 ألف ريال، مع أنّ مرتب أبو الرتب لا يتجاوز 7000 ريال.
حالة بطاينة ليس إلا حالة من مئات الآلاف المغتربين الأردنيين والتي تتزايد تأكيدات ومؤشرات عودتهم من السعودية دول الخليج، بعد سلسلة من الإجراءات الماليّة التي فرضتها كلّ من السعودية والإمارات، واستهدفت العمالة الوافدة؛ إذ عاد ما يقرب من 55 ألف عائلة إلى الأردن حتى هذه اللحظة، فيما يتوقع أن تزيد أعداد هؤلاء، خصوصًا أنّ السعودية تحتضن نحو 430 ألف أردني من أصل 945 ألف مغترب، الأمر الذي سيزيد من أعباء وأزمات بالاقتصاد الأردني.
والحياة باتت أصعب بسبب الغلاء وكثرة الالتزامات
المهندس عبدالرحيم الصوص، الذي لا يزال يعمل في مجموعة "بن لادن" السعودية، وهو أب لخمسة أبناء، يؤكد أنّ الحياة بالسعودية لم تعد مثل سابق عهدها، فالمرتبات الشهرية لم تعد تكفي حتى للمعيشة الشهرية عدا عن الالتزامات الأخرى التي يضطر إليها المقيم، خاصة بعد فرض رسوم شهرية على المرافقين.
المرتب الشهري، حسب الصوص، لم يعد يغطي الالتزامات مصاريف أسرته، خاصة بعد الغلاء المعيشي المفاجئ في السعودية، إضافة إلى أنّ ثلاثة من أبنائه أصبحوا في المرحلة الجامعية، وهذا يتطلب منه أقساطاً سنوية تصل إلى 10 الآلاف دينار أردني ما يقارب الـ خمسون ألف ريال.
ويفكر المهندس جديا بالرحيل نهاية السنة القادمة "لم يعد بإمكاني مواصلة الحياة هنا، اضطررت لإنهاء إقامات أبنائي الثلاثة الذين يدرسون في الجامعات بالأردن، ذلك لأنني اضطررت لدفع رسوم شهرية لكل واحد منهم، بالإضافة إلى رسوم تأشيرات الخروج والعودة وهم خارج الأراضي السعودية".
ويبدي الصوص استغرابه بالقول: "أبنائي الثلاثة ليس لديهم حق التعليم في السعودية على الرغم من أنّهم من مواليد السعودية وعاشوا وترعرعوا ونشأوا بها، فهم لا يعرفون بلاد غير هذه التي ولدوا بها حتى وإن كان يحملون الجنسية الأردنية، لكنّهم في حقيقة الأمر ينتمون روحياً ونفسيا إلى السعودية".
ولا يعرف كيف ستكون المرحلة القادمة بالنسبة له، فهو يفكر بالهجرة إلى كندا إذا ما غادر السعودية بالفعل، لكنّ الأمر بالنسبة له لم يعد سهلاً، فأن ينتقل من غربة إلى غربة جديدة يعدّ أمراً صعباً، خاصة وأنّ عمره قد قارب على الستين، منوهاً إلى أنّ أبنائه يمكن أن يقدموا على هذه الخطوة، خاصة وأنهم لا يزالون في سن مبكرة ولم ينهوا تعليمهم حتى هذه اللحظة.
وشبح الأزمة يقترب من الأردن
طبيعة الاقتصاد الأردني تعتمد على المعونات والمساعدات الخليجية والغربية، كما يؤكد المحلل والخبير الاقتصادي الأردني عبد المهدي القطامين، ويحذر في تصريحات خاصة لـ "عربي بوست"، من أزمة اقتصادية جديدة تعود على الأردن، خصوصًا في ظل الأزمات المتلاحقة التي يعاني منها الاقتصاد الأردني، وبعد أن أُنهكت الموازنة العامة للدولة، وتعرضت للعجز المالي لسنوات متتالية، إضافة إلى ثقل الديون الخارجية، وعدم القدرة على استحداث فرص عمل جديدة.
وحول الأبعاد والتأثيرات من جراء عودة المغتربين من السعودية والخليج إلى الأردن، يوضح القطامين، بأنّ البعد الاول يتمثل في الجانب الاقتصادي، حيث ستتوقف الحوالات المالية من الخارج والتي كانت تعود بالنفع على الاقتصاد الأردني من ناحية تحريك عجلة الاقتصاد ومعاجلة مشكلة البطالة، أما البعد الثاني فيتمثل بالجانب الاجتماعي الذي سيؤدي إلى تزايد الضغط على الخدمات العامة للمواطنين كالتعليم والصحة، إضافة إلى ضعف تطوير البنية التحتية للدولة.
توفير أسواق جديدة للمغتربين العائدين
ولمعالجة الأزمة القادمة نحو الأردن، يرى القطامين، بأنّه لابدّ من توفير أسواق جديدة للمغتربين العائدين من دول الخليج والسعودية في المحيط العربي والإقليمي والدولي، خاصة وأنّ العنصر البشري يعدّ من أهم الموارد المهمة في الأردن.
فغالبية المغتربين في الأردن من حملة الشهادات الجامعية والعليا ومن أصحاب الكفاءات العالية، مشدداً على أنّ مثل هذه المهمة ملقاة على عاتق الحكومة التي من الضروري أن تعمل بشكل جدي على توفير أسواق جديدة لأجل إيجاد حل جذري لهذه الأزمة وليس الاكتفاء بالحلول السريعة والمعتمد على الارتجال ردود الفعل.
كما ويؤكدّ القطامين بأنّ الحل يمكن أيضاً في إيجاد المشاريع الصغيرة ومتوسطة الحجم التي تشكلا حلًا مؤقتًا للمشاكلات الاقتصادية التي يعاني منها الأردن، وبعد العبء الجديد المتمثل في عودة مئات الآلاف من المغتربين إلى أراضيه.