تحتشد قوات النظام السوري في شمال غربي سوريا؛ لشن ما يمكن أن يكون هجوماً واسع النطاق على محافظة إدلب، آخر معقل لقوات المعارضة في البلاد. وحذَّرت الأمم المتحدة من وقوع "أسوأ كارثة إنسانية" تشهدها سوريا في حال نُفِّذَ الهجوم على إدلب ؛ إذ لم تعد هناك مناطق تحت سيطرة المعارضة يمكن إجلاء المدنيين الفارِّين من إدلب إليها.
لماذا تُعد معركة إدلب مهمة؟
تعد إدلب محوريةً في نتيجة الحرب الدائرة بسوريا ومصير المنطقة على نطاقٍ أوسع، يقول تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية. ومع قرب انتهاء الحرب الدائرة منذ 7 سنوات، تسعى جميع الأطراف المشاركة فيها من السوريين وغير السوريين إلى تأمين مصالحها، التي تمر العديد منها من خلال إدلب. لكنَّ التعارض في مصالح تلك الأطراف هو سيد الموقف.
روسيا وإيران وتركيا هي القوى الخارجية التي تسعى إلى تثبيت نفوذها في شمال سوريا. ويدين الرئيس السوري بشار الأسد لروسيا وإيران بما حققه من نجاحاتٍ حتى الآن، في حين تعلق المعارضة آمالها على تركيا. وهناك أيضاً ما تبقى من قوات المعارضة المنقسمة على نفسها، والجماعات الجهادية، ونظامٌ يستميت لإعلان النصر.
والأهم من ذلك كله، هناك 3 ملايين مدني على الأقل تقطعت بهم السبل في شمال غربي سوريا. يعيش العديد منهم بملاجئ بائسة في قرى وبلدات مزدحمة، في حين فرَّ بعضهم إلى المزارع والحقول؛ خوفاً من القصف الروسي المنتشر في أرجاء أخرى بسوريا.
وتتوقع المنظمات غير الحكومية فرار 700 ألف شخص من منازلهم أو من الملاجئ في حال وقوع الهجوم على إدلب . ومن المتوقع ألا تكون لدى الأغلبية العظمى منهم رغبةٌ أو استعداد للعودة إلى المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام السوري ؛ خوفاً من انتقام الحكومة التي فروا منها من الأساس.
إدلب تجمع كل من لم يتفق مع النظام السوري
يُعتقد أنَّ نصف المدنيين المقيمين في إدلب (1.5 مليون من بين 3 ملايين) فارّون من مناطق أخرى في سوريا، لا سيما المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام السوري والقوات الروسية والإيرانية، مثل الغوطة وداريا قرب دمشق وحمص وشرق حلب ودرعا. ويوضح تقرير لوكالة The Associated Press الأميركية، أنه بعد كل انتصار حققه النظام في أي معركة، مُنح المواطنون الذين لم يتفقوا مع المسؤولين السوريين ممراً آمناً إلى إدلب.
ومع ارتفاع عدد قاطني إدلب، زادت المخاوف من أن يكون النظام يُعدها لتكون مكاناً للإجهاز على خصومه جميعاً؛ إذ يختلط الجهاديون بالمدنيين في المحافظة على نحوٍ يؤكد رواية النظام السوري أنَّ الثورة التي قامت عام 2011 لم تكن إلا "جهاداً" إسلامياً. نعت المسؤولون في نظام الأسد كل من وقف في وجههم بالإرهابيين، ونجحوا بعد سنواتٍ من الاتهامات والادعاءات ضد سكان إدلب في التشويش على حقيقتهم وحقيقة الأطراف التي يصطفون معها.
وغالبيتهم من العرب المدنيين
تعد الأغلبية العظمى من سكان المحافظة من المواطنين السوريين، معظمهم من العرب وإن كان بينهم عددٌ لا يُستهان به من الأكراد. ويفوق عدد المدنيين في المحافظة عدد المقاتلين فيها بنسبة 100 إلى 1، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
ومن بين المقاتلين الموجودين في المحافظة آخر ما تبقى من الجماعات المناهضة للأسد التي بدأت الثورة، معزَّزين بوجود مسلحين وصلوا من مناطق أخرى في سوريا. وتدعم تركيا تلك الجماعات، ويوجد تنافس على النفوذ بينها وبين "هيئة تحرير الشام" المتشددة، التي لا تزال أقوى جماعة في المنطقة.
في حين أن نصف المقاتلين من الأجانب
ويعد ما يقرب من نصف المقاتلين، البالغ عددهم 10 آلاف مقاتل، في صفوف الجماعات الإسلامية، من الأجانب، ويشمل هذا العدد جماعة "حراس الدين"، التي كانت مواليةً لـ"القاعدة" فيما سبق. ومن بين المطالب الرئيسية لروسيا حل جماعتي "هيئة تحرير الشام" و"حراس الدين"، علماً أنَّ روسيا هي التي تملك إصدار القرارات في أي عملية عسكرية. وقالت تركيا إنَّها بحاجة إلى المزيد من الوقت لترغم المسلحين على الرحيل. وما يزال من غير الواضح إلى أين سيذهبون، فضلاً عن أنَّ موسكو رفضت خلال قمة ثلاثية في طهران مطالب أنقرة بإعلان هدنة.
من يحارب من في "محطة المواجهة الأخيرة"؟
ما تزال "هيئة تحرير الشام" أقوى مجموعة على الجانب المناهض للأسد، بالإضافة إلى الجبهة الشمالية للمعارضة المدعومة من تركيا. كلتا المجموعتين مسلحة بشكلٍ جيد، لكنَّهما لا تضاهيان السلاح الجوي الروسي أو قِطع المدفعية السورية الفعَّالة رغم قدمها.
ومن المرجح أن تكون إدلب محطة المواجهة الأخيرة لأولئك الذين قاتلوا ضد الأسد وغيرهم ممن انضموا إلى المعركة. فالانتفاضة الأصلية، التي بدأت مع الربيع العربي عام 2011، كانت مدفوعةً جزئياً بنضالٍ طبقي أدى إلى ظهور حركة احتجاجية، وانضم إليها القوميون والمحافظون والإسلاميون والجهاديون، الذين استخدموا سوريا كمنبر لطموحاتٍ أوسع، بالإضافة إلى الانتهازيين الساعين لتولي السلطة بأي ثمن.
في الجانب المؤيد للأسد، هناك ما تبقى من الجيش السوري، ومن بينهم قوميون تعهدوا بإنقاذ البلاد وآخرون موالون لنظام الأسد. وهناك أيضاً الميليشيات التي حُشِدَت للدفاع عن الدولة، واضطلعت بأدوارٍ بارزة متزايدة لحماية الدولة ومؤسساتها مع استمرار الصراع.
أهم داعم هي القوات الروسية، بقيادة القوات الجوية، التي أنقذت الأسد من الهزيمة في سبتمبر/أيلول 2015، وتمكنت من بسط سيطرتها على الحرب منذ ذلك الحين. وفي حين سيطر الروس على الفضاء الجوي، سيطرت الميليشيات المدعومة من إيران على الحرب البرية؛ إذ كانوا أول من وصلوا إلى شرق حلب ونشطوا في معظم ساحات القتال. وفقد حزب الله اللبناني، أهم وكيل لإيران، أكثر من 1700 مقاتل في سوريا. وتوفي عدد كبير من المقاتلين الأفغان والعراقيين واليمنيين، بالإضافة إلى الإيرانيين.
يتوقف قرار شن الهجوم على إدلب ومدة العملية العسكرية على انضمام القوات المدعومة من إيران إلى المعركة. وتعتقد الكتلة السياسية للمعارضة السورية أنَّ إيران مترددة في المشاركة بعدد المقاتلين نفسه الذي نشرته في وقتٍ سابق من الحرب. وفي الوقت نفسه، يناضل الجيش السوري من أجل حشد قوة مقاتلة واسعة النطاق يمكن أن تدعم أسلحته الثقيلة وطائراته المروحية.
ماذا سيحدث إذا بدأ الهجوم على إدلب؟
تعتقد الأمم المتحدة أنَّ 700 ألف نازح جدد سيتوجهون إلى الحدود التركية أو المناطق شرق إدلب في غضون 48 ساعة. وفي حين تظل إمدادات الغذاء والماء بإدلب مستقرةً حتى الآن، فإنَّ نزوحاً جماعياً بهذا الحجم سيضع مسألة وصول المساعدات إليهم تحت اختبارٍ صعب. وقالت تركيا إنَّها لن تسمح لأعدادٍ كبيرة من اللاجئين الجدد بعبور حدودها التي باتت محصنةً. ويترك ذلك منطقةً في شمال سوريا تُعرَف باسم منطقة درع الفرات تتحكم فيها تركيا. ومن المرجح أن تكون هذه المنطقة وجهةً للمعارضة، التي تبحث عن ملاذٍ أخير على الأراضي السورية.
وتخطط أنقرة لاستخدام منطقة درع الفرات كورقة ضغط بسوريا في مرحلة ما بعد إدلب، لكنَّها قد تتعرض لضغوطٍ شديدة للسماح باستخدامها كملاذٍ أخير في حالة شن هجوم. وفي غضون ذلك، قالت إنَّها لن تسمح بتحويل محافظة إدلب إلى "بحيرة من الدماء".
والكل يتحدث عن كارثة إنسانية قادمة
التسبب في كارثة إنسانية على نطاق يفوق أي شيء آخر بسوريا سيكون ثمناً باهظاً تدفعه روسيا. ومن المرجح أيضاً أن يُنظر إلى سوريا على أنَّها مسؤولة عن هجومٍ سيؤدي إلى خسائر في الأرواح على نطاقٍ أوسع من الهجمات السابقة. في حين أنَّ الرأي الدولي لم يكن له أهمية تُذكر بالنسبة لطرفي النزاع، إلا أنَّ حجم إراقة الدماء المحتمل مثير للغضب.
قد لا يكون هذا كافياً لوقف الحرب، لكن من المرجح أن يعني ذلك أنَّ المخاوف من شن هجومٍ وشيك على نطاقٍ واسع قد تكون في غير محلها. وبدلاً من ذلك، فإنَّ القيام بعدد من الهجمات المتزايدة رويداً رويداً لدفع الناس للرحيل بشكلٍ منتظم، بدلاً من الفرار في حالة من الذعر، يمكن أن يكون إحدى الخطط.
لكن، ماذا سيحدث إذا استُخدمت قوات النظام السوري الأسلحة الكيماوية؟
إذ عزا محققو الأمم المتحدة في السابق عدة هجمات كيماوية بسوريا إلى القوات الحكومية، وضمن ذلك هجومٌ باستخدام غاز الأعصاب "السارين" على بلدة إدلب بخان شيخون في أبريل/نيسان 2017.
ومؤخراً، زعمت الحكومة السورية وروسيا أنَّ الثوار في إدلب يخططون لاستخدام الأسلحة الكيماوية لتلفيق التهمة إلى قوات النظام السوري وحثّ الغرب على شن ضرباتٍ جوية عقابية.
عارضت ذلك الولايات المتحدة؛ إذ قال وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، هذا الأسبوع: "في الوقت الحالي، لا نرى أي دليل على أنَّ المعارضة لديها أي قدرات كيماوية، بغض النظر عما تبثه روسيا بشكلٍ متكرر".
وتقول الولايات المتحدة إنَّها ستردُّ بقسوة على أي هجومٍ بالأسلحة الكيماوية من جانب قوات الرئيس بشار الأسد، ولمحت إلى أنَّ مثل هذه الأسلحة المحظورة دولياً يجري تجهيزها لساحة المعركة.
وجديرٌ بالذكر أنَّ الولايات المتحدة لجأت مرتين قبل ذلك إلى شن ضرباتٍ صاروخية رداً على هجمات الأسلحة الكيماوية، إلا أنَّ ذلك لم يمنع النظام السوري من استخدامها.
وهل ما زلنا نستطيع أن نأمل في تجنب لإراقة الدماء؟
اجتمع رؤساء روسيا وإيران وتركيا، الأسبوع الماضي، بطهران؛ للنظر في البدائل، لكنَّهم فشلوا في التوصل إلى توافقٍ بالآراء. يؤيد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الإيراني حسن روحاني العمل العسكري، على الرغم من دعوة نظيرهم التركي، رجب طيب أردوغان، إلى وقف إطلاق النار.
وأبلغ مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا مجلس الأمن الدولى وجود مؤشراتٍ على أنَّ القادة الثلاثة يعتزمون مواصلة الحوار.
ستكون تركيا الخاسر الأكبر من أي معركةٍ تجري على حدودها؛ إذ من المؤكد أن يكون لها تأثير مزعزع للاستقرار بالبلاد وفي المناطق التي تسيطر عليها داخل سوريا.
وفي مقالٍ نُشر بصحيفة Wall Street Journal هذا الأسبوع، حذَّر أردوغان من أنَّ الهجوم على إدلب "سيخلق مخاطر إنسانية وأمنية خطيرة بالنسبة لتركيا وباقي أوروبا وخارجها". وقال إنَّ الأمر قد يرقى إلى "هجماتٍ عشوائية للقضاء على المعارضة وليست حملةً حقيقية أو فعَّالة ضد الإرهاب".
بالنسبة لروسيا وإيران، فإنَّ استعادة إدلب من شأنها أن تُلحق بالمعارضة هزيمة ساحقة، وتقضي على آخر بقايا الثورة التي بدأت ضد الأسد في عام 2011.
وهل تنجح آخر فرص المحادثات في تجنيب المنطقة "كارثة إنسانية"؟
وفي حين يبدو الهجوم على إدلب أمراً لا مفر منه، هناك محادثات جارية حول سبل فصل المسلحين عن المدنيين.
وتشمل المقترحات حث "هيئة تحرير الشام" على حل نفسها أو الانضمام إلى الثوار المدعومين من تركيا. هذا من المفترض أن يجعل المجموعة تحت السيطرة التركية بشكلٍ أكبر ويُسهِّل التعامل معها. لكن، هناك الآلاف من الجهاديين الأجانب بين مقاتلي إدلب، ومن ضمنهم شيشانيون وصينيون.
وهناك اقتراح آخر؛ وهو فتح ممرات إنسانية يمكن من خلالها للمدنيين المغادرة إلى المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، رغم أنَّ هذا الاقتراح لم يلقَ أي قبولٍ حتى الآن.
ما هو دور الولايات المتحدة؟
على الرغم من التحذيرات الوخيمة للولايات المتحدة ومخاوفها من وقوع كارثة إنسانية، لا تملك إدارة ترمب نفوذاً كبيراً لمنع روسيا وإيران وسوريا من المضي قدماً في الهجوم على إدلب .
وكانت واشنطن قد هددت بالقيام بعمل عسكري في حالة استخدام الأسلحة الكيماوية في الهجوم على إدلب ، لكنَّ رسائلها المتباينة حول الاحتفاظ بوجودٍ أميركي في سوريا وقطع المساعدات قلَّصت من تأثيرها المحدود بالفعل على أطراف الصراع.
ولم يكن للضربات الجوية الأميركية التي شُنَّت على أصول حكومة الأسد سوى تأثير محدود في الماضي. والضغط الاقتصادي هو إحدى الأدوات الأخرى في جعبة الولايات المتحدة، لكنَّ العقوبات أثبتت عدم فاعليتها منذ أن بدأ تطبيقها في عهد إدارة أوباما.