شقت الحشود الغاضبة، التي كانت تلوح بالأعلام الألمانية وتؤدي التحية النازية طريقها في الشوارع لمطاردة المارة ذوي البشرة الداكنة في ألمانيا ، في حين تخوف رجال الشرطة، الذين كانت أعدادهم تقل كثيراً عن تلك الحشود من النازيون الجدد ، من التدخل لمنع تلك المطاردات.
وكان أنس النحلاوي، وهو لاجئ سوري ووالد لطفلين، يراقب هذا المشهد في ذعر، من خلال شرفة أحد أصدقائه بالطابق الرابع. وقال لصحيفة The New York Times الأميركية، إنهم كانوا يبحثون عن المهاجرين من أمثاله كـ"الذئاب".
"الغوغاء" يسيطرون على شوارع مدينة شمينتز
وعلى مدار ساعات محفوفة بالمخاطر خلال يومين من هذا الأسبوع، كان "الغوغاء" يسيطرون على شوارع مدينة شيمنتز، حيث اندلع الغضب، بعد انتشار شائعة حول الاشتباه في قيام لاجئين، أحدهما عراقي والآخر سوري، بالاعتداء على مواطن ألماني وقتله في وقت مبكر من يوم الأحد 26 أغسطس/آب 2018.
وتحظى مدينة شيمنتز، البالغ تعدادها 250 ألف نسمة والواقعة شرق ألمانيا، بتاريخ طويل من الاحتجاجات التي يقوم بها النازيون الجدد . ويذكر مسؤولو المدينة أنهم عادة ما يجتذبون بضع مئات من هوامش المجتمع. وبلغت أعداد الحشود في هذه المرة 8000 شخص. ويبدو أن آلافاً من المواطنين العاديين قد انضموا إلى تلك الحشود بقيادة بضع مئات من النازيين الجدد. ومن المزمع تنظيم المزيد من المسيرات يوم السبت الأول من سبتمبر/أيلول 2018.
في مشهد لم تشهده ألمانيا من قبل
لم تشهد المدينة شيئاً كهذا من قبلُ، كما لم تشهده ألمانيا بالكامل في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فقد تزايدت أعمال العنف جراء كراهية المهاجرين، التي تفاقمت حدتها بينما تسعى ألمانيا وراء استيعاب نحو مليون لاجئ وصلوا إلى البلاد بعد قرار المستشارة أنجيلا ميركل فتح الحدود عام 2015.
وقد أدى ذلك القرار بالفعل إلى تقسيم ألمانيا، حيث رأى المنتقدون خاصة النازيون الجدد أن إدارة ميركل قد فقدت السيطرة على الموقف. وبعد انقضاء 3 سنوات، فإن ما تحاول الحكومة السيطرة عليه هو ردود الفعل المناهضة للمهاجرين.
ويذكر المسؤولون وخبراء علم الاجتماع أن النازيين الجدد قد أصبحوا أكثر جرأة وقوة وأفضل تنظيماً. وتزايَد نفوذ حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني في البرلمان -بما يعد صدمة أخرى للنظام- وبدأ في غرس المشاعر الغاضبة تجاه المهاجرين والتي لم تكن معلنة من قبل.
وفي مواجهة هذا اليمين المتطرف، أصبحت مدينة شيمنتز اختباراً لسلطة الدولة. ويرى البعض أنها أصبحت تمثل اختباراً للديمقراطية في مرحلة ما بعد الحرب بألمانيا.
وذكرت بربارا لودويج، عمدة مدينة شيمنتز من الحزب الديمقراطي الاجتماعي، في أثناء وجودها بمكتبها في الطابق الثاني بمجلس المدينة: "إنهم يهاجمون دولتنا الديمقراطية بأسلوب لم يفعلوه من قبل. لا بد أن نجتاز هذا الاختبار".
نقطة تحوُّل لتغيير اتجاه ألمانيا
وهذا تماماً ما تراه تلك المجموعات المسؤولة عن اضطرابات هذا الأسبوع: إنها لحظة محورية يريدون استغلالها لتغيير اتجاه ألمانيا.
ووصف بنجامين جان تشوك، البالغ من العمر 32 عاماً، وأحد أعضاء حركة المواطنين القومية برو شيمنتز التي أقامت مسيرة يوم الإثنين، أحداث هذا الأسبوع باعتبارها نقطة تحوُّل، وتحدَّث عن سابقتين تاريخيتين مماثلتين.
وتنبأ بأنه على غرار أحداث الشغب التي أثارتها وفاة طالب متظاهر عام 1967 والتي أدت إلى ثورة طلابية شهدت بداية العصر التقدمي الليبرالي في ألمانيا الغربية- فإن جريمة القتل في شيمنتز تشهد بداية عصر مقاومة اليمين المتطرف.
وإسقاط "النظام الفاشل"
وقال إن ذلك يأتي على غرار ما حدث عام 1989، حينما خرج الآلاف -ومن بينهم والداه- إلى الشوارع؛ للمطالبة بإنهاء الشيوعية، فإن مسيرات هذا الأسبوع تستهدف إسقاط "النظام الفاشل". وأضاف: "سئم الناس النظام الحاكم حينذاك ويشعرون حالياً بالسئم من النظام الحاكم مرة أخرى"، مضيفاً أنه لم يصوت لصالح الديمقراطية البرلمانية ولم يؤمن بها يوماً.
وتذكر العمدة لودويج أن المقارنة مؤلمة، حيث شاركت هي أيضاً في مسيرات 1989. واستدركت: "ولكننا نظمنا المسيرات من أجل القانون والنظام والديمقراطية وحرية التعبير. هم يريدون تقويض كل تلك المؤسسات ويستغلون أحزان الناس بسبب جريمة قتل أحد الشباب".
كانت مدينة شيمنتز مركزاً صناعياً مزدهراً خلال القرن التاسع عشر، ولكنها تعرضت للكثير من الدمار خلال الحرب العالمية الثانية، ثم أُعيد بناؤها لتكون نموذجاً للمدن الاشتراكية في ظل الحكم الشيوعي بألمانيا الشرقية، وأعيدت تسميتها مؤقتاً باسم مدينة كارل ماركس.
مع العلم أن المدينة تعوَّدت على احتشاد النازيون الجدد
كان رأس ماركس البرونزيُّ، الذي يبلغ ارتفاعه 7 أمتار، بوسط المدينة، منطقة تجتذب المظاهرات التي تنشب كل إثنين للمطالبة بإنهاء الشيوعية. وفي هذا الأسبوع، كانت بمثابة نقطة احتشاد لليمين المتطرف.
وذكرت العمدة أن النازيين الجدد لديهم تاريخ طويل من إقامة المظاهرات في شيمنتز. فعلى مدار سنوات، كانوا يخرجون إلى الشوارع في الخامس من مارس/آذار للحداد في ذكرى اليوم الذي قصفت خلاله قوات الحلفاء المدينة عام 1945. واستدركت لودويج: "ولكن أعدادهم كانت لا تتجاوز المئات دائماً، وكانت المظاهرات المضادة تضم أعداداً أكبر دائماً".
لكن الأمر كان مختلفاً هذا الأسبوع
وقال هاجو فانك، الخبير السياسي بجامعة برلين الحرة والخبير المُحنك في شؤون اليمين المتطرف: "كان هذا المزيج بين متطرفي اليمين وناخبي حزب البديل من أجل ألمانيا جديداً".
وذكر فانك أن حزب البديل من أجل ألمانيا قد حصل على 27% في ولاية ساكسونيا الشرقية، حيث تقع مدينة شيمنتز خلال الانتخابات الوطنية في العام الماضي (2017). وبمقتضى ذلك النجاح، تمكن نشطاء اليمين المتطرف من توجيه مخاوف وغضب الناخبين باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في أغلب الأحيان وتعبئة الحشود.
ويرى المحللون أن أحداث شيمنتز توضح العلاقة التكافلية بين النازيين الجدد وحزب البديل من أجل ألمانيا، الذي ينأى بنفسه على المستوى الرسمى بعيداً عن تلك الجماعات.
لقد بذل الحزب الكثير لتهدئة لهجة اليمين المتطرف. وإذا فقدت الشعارات التي يتم سماعها بشوارع شيمنتز هذا الأسبوع -بدءاً بـ"الصحافة الكاذبة" إلى "ألمانيا من أجل الألمان"- قيمتها الصادمة، فإن السبب يرجع إلى أن بدائل تلك الشعارات يتم سماعها بصورة منتظمة حالياً داخل البرلمان.
وقال ماتياس كوينت، الذي يدير معهداً للدراسات الديمقراطية والمجتمع المدني بولاية ثورينجيا الشرقية: "لدينا مشهد قوي للنازيين الجدد شرق ألمانيا، ولكن لدينا أيضاً تيار للتطرف اليميني في كل أنحاء ألمانيا، وليس بالبرلمان فقط؛ بل بالمجتمع ككل".
وقال إن هذا هو السبب الذي يجعل اليمين المتطرف يحظى بكل تلك الثقة، "يعتقدون أن هذا هو يومهم".
ولعبت شبكات التواصل الاجتماعي دوراً هاماً في تعبئة الجماهير وحشدهم
وخلال ساعات قليلة من جريمة القتل التي وقعت يوم الأحد 26 أغسطس/آب 2018، نشر مشجعو كرة القدم ذوو العلاقة بالنازيين الجدد مناشدة عبر شبكة الإنترنت، فحواها: "فلنبيِّن معاً من هو صاحب الرأي في هذه المدينة".
وسرعان ما انتشرت الشائعات. كان الضحية يدافع عن امرأة تحرش بها القاتل. ولقيت الضحية الأخرى مصرعها بالمستشفى. ولم تكن تلك الشائعات حقيقية. ومع ذلك، احتشد نحو 800 متظاهر بالشارع خلال ساعات قليلة، وهو عدد يفوق قوات الشرطة بنحو عشرة أضعاف.
وسرعان ما تدخَّل حزب البديل من أجل ألمانيا. وذكر ماركوس فرونماير، أحد أعضاء البرلمان من الحزب، في تغريدة له على موقع تويتر: "حينما لا تستطيع الدولة حماية مواطنيها، يخرج المواطنون إلى الشوارع لحماية أنفسهم. ويتعين على المواطن اليوم وقف الهجرة القاتلة!".
وبدا الشعور بانعدام الأمن واضحاً في المدينة
وتضاعف عدد المتظاهرين يوم الإثنين 27 أغسطس/آب 2018، إلى 10 أضعاف، وفاجأوا الشرطة التي لم تكن مستعدة، وتصدرت أخبارهم عناوين الصحف، واندلعت معارك الشوارع. وكانت مسيرة الثلاثاء 28 أغسطس/آب 2018 أصغر حجماً وأكثر هدوءاً، بعد أن تم تعزيز قوات الشرطة المحلية بوحدات فيدرالية.
كان الشعور بانعدام الأمان واضحاً للغاية هذا الأسبوع في شيمنتز في مختلف الأحياء والمجتمعات.
وعند مسرح جريمة القتل التي وقعت يوم الأحد، والذي يقع على مقربة من مجلس المدينة، قام وولفغانغ جروسر البالغ من العمر 61 عاماً، وزوجته سابين بإشعال شمعة. كانا يعرفان الضحية، فقد كان صديق ابنهما وساعدهما ذات يوم في الانتقال من منزل إلى آخر.
وقال جروسر: "لم يكن يستحق ذلك. كان أكثر الناس لطفاً". وأضاف: "لم نعد نشعر بالأمان في مدينتنا". وأوضح جروسر: "لم يعد أحد يهتم بالاتصال بالشرطة. إنهم مشغولون تماماً ولا يأتون على أي حال. فما الهدف من الاتصال بهم؟!"
ويشعر اللاجئون في شيمنتز بذلك الشعور نفسه
وذكر محمود، وهو مواطن سوري يبلغ من العمر 19 عاماً ويرفض ذكر لقبه؛ خشية أن يستهدفه النازيون الجدد ، أن المطاردات التي شهدتها شوارع شيمنتز خلال الأيام الأخيرة "ليست أمراً غريباً". وقال: "تمت مطاردتي ومطاردة أصدقائي من قبلُ. وذات مرة اتصلنا بالشرطة، ولكن لم يحدث شيء؛ ولذلك لم نتصل بهم في المرة التالية".
اتهم البعض السلطات بتسريب معلومات حساسة عن المتهمين إلى اليمين المتطرف. وفي ليلة الثلاثاء 28 أغسطس/آب 2018، نشرت 3 جماعات يمينية أمر اعتقال أحد المتهمين بجريمة القتل عبر شبكة الإنترنت. وذكرت الجماعات اسم المتهمين بالكامل والضحية والشهور والقاضي المسؤول.
واعترف أحد الضباط يوم الخميس 30 أغسطس/آب 2018، بإرسال أمر الاعتقال إلى حركة برو شيمنتز، وتم وقفه عن العمل، بحسب ما أوردته وسائل الإعلام الألمانية.
وبعد جولة أحداث العنف الأولى يوم الأحد 26 أغسطس/آب 2018، حذرت منظمات اللاجئين هؤلاء المهاجرين بالبقاء بالمنازل وعدم الخروج.
وذكر النحلاوي أنه استجاب للدعوة. ومع ذلك، لم يستجب أحد جيرانه من البلغاريين. وقال إنه كان يجلس بمقهى مع أسرته مساء الأحد حينما وجد مُدية موجَّهة إلى مؤخرة عنقه على نحو مفاجئ. وتدخلت الشرطة على الفور.
ويقول النحلاوي إنه لا يزال يشعر بالقلق. فحينما فرَّ من ويلات الحرب في سوريا عام 2015، صحب زوجته وأطفاله إلى ألمانيا، وإلى الأمن والسلامة. أو هكذا كان يعتقد. وقال: "إنني أشعر بالخوف مرة أخرى على عائلتي".
___________________
اقرأ أيضاََ
اليمين المتطرف في ألمانيا يستنفر صفوفَه.. شجارٌ دامٍ يثير غضبهم ضد الأجانب