أظهرت النتائج الأولية لانتخابات باكستان، الخميس 26 يوليو/تموز 2018، تقدُّم المرشح عمران خان، نجم الكريكيت ذي الكاريزما الطاغية المعروف بانتقاده اللاذع لسياسة مكافحة الإرهاب التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية في منطقة ابتُليت بالتطرف. وجَّه "خان" خطاباً متلفزاً إلى الأمة، قال فيه إنه سيحارب الفساد على أعلى مستويات الدولة، وسيحسِّن العلاقات مع الصين، وكذلك سيسعى إلى تكوين علاقة قائمة على "المنفعة المتبادلة" مع الولايات المتحدة، وسيؤسس دولة العدل والرفاه أسوة بما فعله النبي محمد قبل قرون مضت.
وأضاف "خان" في تقرير نقلته صحيفة The New York Times الأميركية : "سنحكم باكستان بطريقة لم تُحكَم بها من قبل". وقال أيضاً إنه لن يسكن أبداً منزل رئيس الوزراء؛ إذ قال إنه "يستشعر الحرج" لو سكن منزلاً كهذا في بلد به كل هذا الكم من الفقراء.
وأضاف "خان": "سنحكم باكستان بطريقة لم تُحكَم بها من قبل". وقال أيضاً إنه لن يسكن أبداً منزل رئيس الوزراء؛ إذ قال إنه "يستشعر الحرج" لو سكن منزلاً كهذا في بلد به كل هذا الكم من الفقراء.
أخيراً "خان" يُحقق "حُلمه" في الحكم
لسنواتٍ و"خان" يحاول -وتبوء محاولاته بالفشل- حكم هذا البلد الإسلامي الذي يمتلك سلاحاً نووياً، البلد الذي يكابد الفقر والركود الاقتصادي وعدم الاستقرار، والذي يزداد تمزُّقه بين أكبر حليفين له: الصين والولايات المتحدة. ولكن هذه المرة، وجد حليفاً قوياً داخل الجيش الباكستاني.
تقول جماعات حقوقية إن ضباطاً في الجيش والمخابرات قاموا، خلال الأشهر الأخيرة، بالضغط على الساسة من الأحزاب المنافسة وتهديدهم وابتزازهم، على نحوٍ قلَّل باطرادٍ من هامش المنافسة مع "خان".
اتهم أعضاء من الأحزاب المنافسة الضباط المسؤولين عن متابعة الانتخابات بـ"التزوير"، وقالوا إن العديد من الأصوات قد أحصيت سراً تحت حراسة الجنود. غير أن سلطات الانتخابات الباكستانية قالت إن الانتخابات، التي أُجريت الأربعاء 25 يوليو/تموز 2018، كانت نزيهة.
وقالت نيغات داد، المديرة التنفيذية لمنظمة الحقوق الرقمية للدفاع عن حقوق الإنسان: "كنت سأندهش لو لم يفز خان، لا سيما مع ترتيب المشهد بهذا الشكل لضمان فوزه".
ويضيف صعود "خان" عامل تقلُّب جديداً إلى العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية في ظل حكم الرئيس ترمب، الذي اتهم باكستان بالكذب بشأن "طالبان" و"القاعدة" وغيرهما من الجماعات المسلحة التي تعد جزءاً من نسيج المجتمع في باكستان وأفغانستان.
أنكر "خان" تلك التهمة، واتهم بدوره الولايات المتحدة بالعربدة والقتل؛ بسبب لجوئها إلى تنفيذ غارات بطائرات من دون طيار ضد المتشددين الإسلاميين في بلاده، في إشارة منه إلى رغبته في إيقاف تلك الغارات.
ويوصف نجم الكريكيت الستيني السابق من أصدقائه وأعدائه على حدٍّ سواء، بأنه صارم ومثير للإعجاب ومتغطرس، ويصعب التكهن بتصرفاته.
مستفيداً من شعبيته التي راكمها خلال شبابه
في شبابه ساعدته وسامته وتفوُّقه في لعبة الكريكيت وإتقانه التعامل مع النساء في أن يكون مثار إعجاب بإنكلترا، التي قضى فيها حيناً من الدهر. وفي عام 1982، نشرت له صحيفة لندنية صورة وهو ممدَّد على سرير ولا يرتدي سوى ملابسه الداخلية.
وكتب الصحافي الذي أرسلته الصحيفة لإجراء المقابلة معه: "عمران خان قلِقٌ من أن أصوره على أنه رمزٌ جنسي. وربما كان هذا السبب في أمارات التبرم التي بدت على وجهه وهو ممدَّد على سرير في الفندق ولا يرتدي سوى سروالٍ تحتيٍّ أسود قصير من الحرير".
ولكن، ما لبث تحولٌ غامض ومعقد أن حدث بعد ذلك في شخصية عمران. ففي عام 1992، قاد "خان" فريق باكستان للكريكيت صوب تحقيق نصر في كأس العالم على إنكلترا، البلد الذي كان يستعمر باكستان فيما سبق. كانت هذه لحظة فخر عميق لدى باكستان، وكان "خان" في القلب منها.
وبالعودة إلى هذا الحدث، أخبر عمران الصحافيين حينها بأنه يشعر بخواء داخلي.
بدأ عمران ينأى بنفسه عن الأندية والحفلات وعن صديقاته، وبدأ مساعيه لبناء مستشفى لعلاج السرطان للفقراء في باكستان؛ بعد أن توفيت والدته، التي كان على علاقة وثيقة بها، بسبب هذا المرض.
عاد إلى تعاليم الإسلام والتصوف، وهو أمرٌ أسهم -على حد قوله- في إضفاء مغزى ومعنى على حياته.
ثم دخل إلى عالم السياسة. وكانت باكستان في تسعينيات القرن العشرين تعيش حالة من الفوضى؛ فقد كان أجهزة المخابرات الانتهازية بالبلاد تعمل مع الولايات المتحدة وفي الوقت نفسه تدعم حركة طالبان وأسامة بن لادن. كانت البلاد حينها تعيش في فقر واضطرابات وانقسام، وهي أمورٌ لا تزال تصدُق عليها حتى اليوم.
كما لعب "خان" على وتر واحد: الحوكمة
قال "خان" في مقابلة عقدها مؤخراً مع صحيفة The New York Times الأميركية: "المشكلة الأساسية في باكستان ليست التشدد؛ وإنما إخفاق الحوكمة فيها. وفي أي دولة من دول العالم الثالث، أينما انهارت الحوكمة، ظهرت عصابات المافيا".
وأيضاً استغلاله بعض القضايا "الحساسة" بالنسبة للباكستانيين
فقد ركز "خان" على قضية الفساد، وكرر في غير مرة أن العديد من العائلات المشتغلة في السياسة حققت الثراء لنفسها دون حياءن في حين تزداد البلاد فقراً وتزداد الحوكمة فيها وهناً.
في البدء، لم تؤخذ دعوات "خان" للإصلاح مأخذ الجد، وفازت حركة الإنصاف التي أسسها عام 1996 بمقعدٍ واحد في البرلمان، شغل هذا "خان" نفسه، وسخرت منه صحيفة باكستانية ونعتته بأنه "Im the Dim"، في إشارة إلى لقبه الذي اشتهر به أيام عبث الشباب، في أوساط معارفه بلندن، والذي يحمل سخرية منه لنقص فطنته وذكائه.
حياته الشخصية أيضاً شهدت تأرجحاً كبيراً، ودائماً ما كانت محط الأنظار والانتباه، خصوصاً بعد زواجه بالسيدة البريطانية الثرية جمايما سميث. اعتنقت جمايما الإسلام، وأنجبت طفلين من عمران، وحاولا العيش معاً في باكستان. غير أن هذه الزيجة لم تستمر، ووقع الطلاق. تزوَّج "خان" مرتين بعد ذلك، آخرهما كانت من معالجته الروحانية، وهو أمرٌ أثار الاستغراب مجدداً في أنحاء باكستان.
غير أن عمران بدا بارعاً في عدم السماح لصفحات النميمة بتشتيت انتباهه، وظل يحارب الفساد. وقبل عامين تلقى "خان" هدية من وثائق بنما.
وتضمنت تلك الملفات، التي كانت عبارة عن ملايين الوثائق السرية المسربة من شركة قانونية في بنما، عدة مستندات تحتوي على معلومات تدين رئيس الوزراء الباكستاني آنذاك نواز شريف. وبدأت الأدلة تجتمع على نحو يفيد بأن شريف اختلس ملايين الدولارات من خزانة الدولة بباكستان ليشتري شققاً فاخرة في لندن، وسجَّلها بأسماء أبنائه.
استغل "خان" هذه المعلومات وطالب باستقالة شريف. أقالت المحكمة العليا في باكستان شريف من منصبه، واعتقلته السلطات مع ابنته قبل أسبوعين فقط، قبيل الانتخابات.
لا يختلف المراقبون على أن الفساد في باكستان أمرٌ خارج عن السيطرة، غير أن العديد منهم يرون في سقوط شريف أمراً انتقائياً؛ بل وربما منذراً بالشر.
دون نسيان علاقاته "المشبوهة" بأجهزة الجيش والمخابرات
ثمة شكوك منتشرة، مفادها أن أجهزة الجيش والمخابرات الباكستانية التي تتمتع بنفوذٍ كبير قد ضغطت على المنظومة القضائية لإزاحة شريف؛ لإفساح الطريق أمام عمران ليحل مكانه. وكان شريف قد اصطدم بقادة الجيش عدة مرات، حتى مع أولئك الذين اختارهم بنفسه. وكانوا يرون فيه شوكة في خاصرتهم.
أما "خان"، على الجانب الآخر، فيرى فيه قادة الجيش شخصاً يمكنهم العمل معه. وقال محللون إنه يشاركهم في رؤيتهم للساحة الدولية، ومفادها أن باكستان ينبغي ألا تخضع على هذا النحو المهين للإرادة الأميركية، وأن عليها أن تتقارب أكثر مع "طالبان" وغيرها من الجماعات المتشددة.
وقبيل الانتخابات، بدا الجيش كأنه يدفع بقوة في سبيل فوز "خان". وقالت جماعات حقوق الإنسان وأكاديميون وأعضاء الأحزاب السياسية الأخرى إن ضباط الأمن هددوا الساسة ليدعموا "خان"، وأذعن العديد منهم لهذا التهديد.
غير أن هذا لا يعني أن "خان" كانت تعوزه الشعبية الجارفة؛ إذ يحظى "خان" بهذه الشعبية، لا سيما في أوساط الشباب الذين يُعظِّمونه باعتباره بطلاً رياضياً. ومع اقتراب الانتخابات، اجتاحت موجة من الدعم لـ"خان" باكستان؛ وظهر وجهه في كل مكان، على اللافتات ومصابيح الشوارع وعلى أعلام ممزقة ترفرف من فوق عربات الريكشا المتهالكة (وهي عربات نقلٍ للأشخاص أو البضائع على عجلتين يجرها سائق) في شوارع باكستان. وكان مؤيدوه الأقوى والأكثر ثقة؛ وكان رمز حزبه: مضرب كريكيت.
كان فرز الأصوات لا يزال مستمراً الخميس 26 يوليو/تموز 2018، غير أن حزب "خان" كان متقدماً بفارق كبير، رغم أنه لا يزال يحتاج إلى أصوات أكثر للحصول على أغلبية ساحقة في البرلمان. ووفقاً للنتائج التي أعلنها التلفزيون الرسمي، فاز حزب "خان" بـ120 مقعداً، في حين فاز حزب شريف بـ61 مقعداً، وفاز حزبٌ تديره عائلة بوتو، الضليعة في الحياة السياسية في باكستان، بـ40 مقعداً.
وحتى مع بقاء بعض مزاعم التزوير عالقة، ومع تهديد خصوم "خان" برفض النتائج، لا تزال هناك توقعات على نطاق واسع بأن الأيام القادمة ستشهد إقناع "خان" للساسة من عدة أحزاب صغيرة بالانضمام إلى حكومة ائتلافية، يتولى فيها منصب رئيس الوزراء. ويتوقف مدى قوة حكومته أو ضعفها على مقدار الأحزاب الأصغر التي سيتمكن من إقناعها.
فما الذي ينتظره الباكستانيون من "خان"؟
على الصعيد الداخلي، تنتظر "خان" تحدياتٌ جسامٌ؛ في ظل تفكُّك شبكة الكهرباء، ودخول معدلات وفيات الأطفال فيها في مصاف الدول الأكثر بؤساً بآسيا، وتأرجُح عُملتها، وتضخم ديونها، وخصوصاً الديون المستحقة للصين. وكذلك فإن الكثير من الباكستانيين يعجزون عن العثور على وظائف، لدرجة أن عدداً لا حصر له من الشباب يهيم على وجهه في الشرق الأوسط، ليعمل بتنظيف الشوارع وحمل الحقائب، أو في أي شيء.
أما على الصعيد الدولي، تقف باكستان في مأزق؛ بعد أن بسطت الصين يدها بالمليارات لبناء الطرق وغير ذلك من البنى التحتية، وهو دَينٌ يستحيل سداده بالنظر إلى الوضع الاقتصادي الحالي لباكستان.
في الوقت نفسه، قطع الرئيس ترمب مئات الملايين من الدولارات التي كانت تُقدَّم كمساعدات أجنبية لباكستان. وقال بتغريدة له في شهر يناير/كانون الثاني 2018، متحدثاً عن باكستان: "لم نحصل من باكستان على أي شيء سوى الأكاذيب. إنهم يمنحون الإرهابيين الذين نلاحقهم في أفغانستان ملاذاً آمناً، ولا يقدمون لنا سوى النذر اليسير من المساعدة. لا مزيد من المساعدات!".
أما "خان" فيختلف مع هذا بشدة
وقال في مقابلة عقدها مؤخراً مع صحيفة The Times البريطانية: "من الظلم البيِّن أن تُلام باكستان على تلك الكارثة. في اللحظة التي دخلت فيها الولايات المتحدة إلى أفغانستان، كان الجميع يعرف ما ستؤول إليه الأمور".
وقال، مستشهداً بهزيمة القوات السوفييتية في ثمانينيات القرن العشرين: "هذا جزءٌ من تاريخ أفغانستان". وأضاف أنه تماماً كما حدث مع السوفييت، كلما طال أمد بقاء الأميركيين في أفغانستان، زادت مقاومة الأفغان لهم.
ويقول "خان" إن باكستان تحملت "تبعة الحرب على الإرهاب"، وألقى باللائمة على ما سماه الاستراتيجية المضلّلة التي قتلت آلاف البشر في بلاده، وأضاعت من باكستان مليارات الدولارات في صفقة خاسرة. منذ سنوات وصوت "خان" يعلو على صوت الآخرين في نقد الغارات التي تشنها الولايات المتحدة بالطائرات من دون طيار في باكستان.
جميع هذه المواقف تؤتي أكلها مع العديد من الباكستانيين؛ بالإضافة إلى دعم "خان" مؤخراً قوانين الكفر الصارمة التي سنتها البلاد؛ وذلك بسبب الطبيعة الاجتماعية المحافظة لباكستان، التي يدين نحو 96% من سكانها بدين الإسلام.
تبدلت مواقف "خان" الدينية تبدلاً عنيفاً على مر السنين. ولكن مع اقتراب الانتخابات، بدا كأنه يساير مواقف الإسلاميين. في الماضي عبَّر عن دعمه تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقاً صارماً، وضمن ذلك تطبيق حد قطع اليد على السارقين.
نجح "خان" في رسم صورة جديدة له في الأذهان باعتباره بديلاً شعبوياً للنخبة السياسية في باكستان، التي بدا المصوتون على أتم استعداد للتخلي عنها.
مع العلم أن حياته تختلف من عدة أوجه مع حياة معظم الباكستانيين
فعمران خان وُلد لأسرة ثرية في مدينة لاهور، والتحق بأفضل المدارس في باكستان وإنكلترا، وضمنها كلية كيبل بأوكسفورد. وبخلاف ثروة عائلته، يتمتع "خان" بثروة ضخمة، ويسافر بانتظام إلى خارج البلاد، ولا يزال على علاقة وثيقة بالسيدة غولدسميث، على الرغم من طلاقهما.
ورغم أن العديد من معارفه يصفونه بأنه شخص جذاب ويحظى بالقبول، يمكن أن يبدو في بعض الأحيان متعالياً وعشوائياً. وسجَّل نسبة حضورٍ من بين الأسوأ في البرلمان الباكستاني منذ انتخابه عضواً فيه.
ويتساءل العديد من المحللين عن مدى طول أمد الصداقة بين "خان" والجيش. وقال طه صديقي، الصحافي والناقد للجيش، والذي انتقل مؤخراً إلى فرنسا خوفاً على سلامته: "(خان) معروفٌ بسلوكه المتقلب وشخصيته التي يصعب التكهن بها".