هل سمعت عن بيع الجليد لبلاد الإسكيمو، وبيع الرمال لبلاد العرب؟ الآن نسمع عن بيع الغاز لمصر. هناك تهافتٌ لإبرام صفقةٍ لتوريد ما قيمته 15 مليار دولار من الغاز الإسرائيلي إلى شركةٍ مصرية، خاصة خلال العقد المقبل.
أُعلِنَ عن الاتفاقية بين شركة Delek Drilling الإسرائيلية وشركة Noble Energy في تكساس، وهما شريكان في حقلي تمار وليفياثان في إسرائيل، وشركة دولفين القابضة المصرية الخاصة، في شهر فبراير/شباط الماضي.
وأشار تقرير لموقع The Middle East Eye البريطاني، إلى أنه مع مرور اليخوت في مرفأ هرتسليا الإسرائيلي في وقتٍ سابق من هذا الشهر، تطوّر إبرام الصفقة على نحوٍ سريع، حيثُ صوّت المساهمون في شركة Delek للاستثمار، في شركة تسيطر على خط الأنابيب الوحيد بين إسرائيل ومصر.
وقال أحد مساهمي Delek، الذين حضروا الاجتماع، إنَّ أحد ممثلي الشركة أخبر المجتمعين أنَّه مع التحكم في خط الأنابيب، يمكن أن يتدفق الغاز بسرعة مع نهاية العام إلى مصر، وكذلك عائداتهم. وقال إنَّهم أُبلغوا بأنَّهم سوف "يحصلون على الأموال في فترةٍ قصيرة جداً من الوقت".
مصر أصبحت الآن "مكتفية ذاتياً من الغاز"
وأعلنت نفس الأطراف عن اتفاقٍ مماثل، في مارس/آذار 2015، في الوقت الذي كانت تعاني فيه الأُسر والمصانع المصرية من انقطاع التيار الكهربائي نتيجةً لنقص الطاقة.
وحسب الموقع البريطاني فإن هذه الصفقة لم تؤتِ ثمارها أبداً. فبعد ثلاث سنوات، تحولت السوق في شرق البحر المتوسط الغني بالغاز، وعلى مستوى العالم، تاركة حقيقةً مزعجة لتجار الغاز الإسرائيليين، وهي أنَّ مصر أصبحت الآن مكتفيةً ذاتياً من الغاز تقريباً.
وكما يقول إيلاي ريتيغ، الزميل الباحث في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب والمحاضر في جامعة حيفا: "على الأقل نظرياً، لا توجد حاجة إلى الغاز الإسرائيلي بعد الآن".
لكن هناك حاجة ماسة لإسرائيل لبيع الغاز، فكلما طالت مدة بقاء الغاز غير المباع، سيُكتشف المزيد من الغاز في البحر المتوسط، ويزداد احتمال تأجيل حلم إسرائيل بتحقيق مبيعات إقليمية فعالة من حيث التكلفة إلى أجلٍ غير مسمى.
لكن هذا ليس ما يقال علناً. لقد ركَّزت تقارير الحكومة الإسرائيلية بدلاً من ذلك على الحجج التي تستند إلى الأمن القومي الإسرائيلي.
كما أن تكلفة الغاز الإسرائيلي أكثر من الغاز المصري
وأوضح موقع The Middle East Eye البريطاني أن صفقة الغاز التي أُعلن عنها، في فبراير/شباط الماضي، ستسمح لشركتي Delek وNoble Energy والشركاء الأصغر في هذا المجال بالاستمرار في الاستثمار في ليفياثان، أكبر حقل للغاز في إسرائيل، الذي لم ينتج بعد أي غازٍ منذ اكتشافه في عام 2010.
استثمرت الشركات بالفعل 3.75 مليار دولار في المرحلة الأولى من تطوير حقل لفياثان، الذي وصفته بأنَّه أكبر مشروع للطاقة في تاريخ إسرائيل. ويتوقع المراقبون في صناعة الغاز أن يبدأ الحقل في الإنتاج العام المقبل.
منطق الصفقة بالنسبة للقاهرة أقل وضوحاً بكثير، فبمجرد أن تتمكن مصر من تلبية احتياجاتها المحلية، وهو الأمر الذي يمكن أن يحدث في وقتٍ مبكر من عام 2019، فإنَّ الغاز الإسرائيلي، كما يقول المحللون، سيُكلف على الأرجح أكثر من الغاز المصري بسبب التكاليف الإضافية لاستيراده.
ومن المحتمل أن يعاد تصدير الغاز من محطتي تسييل عاطلتين عن العمل إلى حدٍّ كبير في بلدتي إدكو ودمياط المصريتين، وهما المرفقان الوحيدان من هذا النوع في شرق البحر المتوسط.
لكن بالنسبة للسيسي فمصر "أحرزت هدفاً"
وهذه هي رؤية الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بالنسبة للبلاد. فعندما أُعلِنَ عن الصفقة، قال إنَّ مصر "أحرزت هدفاً". قال السيسي: "كنتُ أحلم منذ أربع سنوات أن نصبح مركزاً إقليمياً للطاقة. كل الغاز القادم من جميع أنحاء المنطقة سوف يأتي إلينا". إذا حدث هذا، ستستفيد مصر من التحصيلات ورسوم العبور.
لكنْ هناك أيضاً اعتقاد واسع النطاق بين مراقبي الصناعة، بأنَّه لن يمر وقتٌ طويل قبل أن تكتشف مصر المزيد من الغاز، وسوف ترغب في استخدام القدرات المحدودة لمحطات الغاز الطبيعي المسال، لتصدير منتجاتها بنفسها.
وبالنظر إلى أنَّ الأساس التجاري للصفقة الحالية غير معروف، فمن غير الواضح ما الذي ستستفيد مصر منه أكثر: تصدير غازها أو إعادة تصدير الغاز الإسرائيلي.
بيد أنَّ أياً من هذه التفاصيل لم يمنع الصفقة من المضي قدماً. والوقت يمضي سريعاً بينما تحاول الشركات التي تبيع الغاز الإسرائيلي الدخول إلى واحدةٍ من الأسواق المحلية الحيوية.
في غضون ذلك، أعرب بعض المصريين، مثل المحلل السياسي والجيوفيزيائي السابق خالد فؤاد، عن دهشتهم من الإقبال على إتمام هذه الصفقة.
وقال فؤاد، الذي يعمل حالياً في المعهد المصري للدراسات في إسطنبول: "الصفقة لا تخدم مصر، ولا تخدم أمنها القومي بأي شكلٍ من الأشكال. هل تحتاج مصر للغاز الطبيعي؟ لا، ليست بحاجةٍ إليه".
وأضاف فواد أنَّ الصفقة قد تكون خاصة، لكنَّ السياسيين لا يزالون يشيرون إلى الصفقة باعتبارها صفقةً مبرمة بين الحكومتين المصرية والإسرائيلية. وأكد على أنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال إنَّ الأموال العائدة من الصفقة ستُستثمر في تحسين الصحة والتعليم للإسرائيليين.
وأضاف فؤاد: "نحن بحاجة إلى نفس الشيء بالنسبة لمصر. لدينا الكثير من القطاعات التي تحتاج إلى تطوير، لكنَّنا نعطي إسرائيل هديةً مقابل مكاسب بسيطة".
كما أن هناك "تاريخاً غامضاً" لصفقة الغاز المصرية – الإسرائيلية
الصفقة ليست سوى الفصل الأخير في ملحمة شرق البحر الأبيض المتوسط، التي شهدت صعود وهبوط الغاز الإسرائيلي والمصري، وغموض مصيرهما وتشابكهما. إنَّها أيضاً ملحمةٌ تركت الإسرائيليين والمصريين يجهلون نقاطاً مختلفة.
قبل عقدٍ من الزمان، كانت مصر مصدراً صافياً للغاز، إذ كانت توفر 40 في المائة من الغاز الطبيعي لإسرائيل بأقل الأسعار في العالم.
وأُبرمت الصفقة الحميمة بين شركتين حكوميتين مصريتين وشركة غاز شرق البحر المتوسط (EMG)، التي تتخذ من مصر مقراً لها، وتشكلت في عام 2000 لبناء خط أنابيب بين مصر وإسرائيل، ومن شركائها عميل المخابرات الإسرائيلي السابق وقطب الطاقة يوسي ميمان. أثارت الصفقة انتقادات المصريين، ودفعت نحو نشوب الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك في عام 2011.
في عام 2012، أُدين اثنان من المصريين، اللذين يعتبران مهندسي الصفقة الأصليين، وهما وزير النفط السابق سامح فهمي ورجل الأعمال حسين سالم، وحكم عليهما بالسجن لمدة 15 سنة، وبُرِّئا فيما بعد.
وبحلول عام 2013، عانت مصر سنواتٍ من عدم الاستقرار السياسي وسوء إدارة قطاع الطاقة، بما في ذلك الصفقات الأخرى المشكوك فيها التي حقَّق فيها موقع Middle East Eye، بالإضافة إلى الهجمات المتكررة في سيناء على خط أنابيب الغاز.
لم تتمكن مصر من تلبية احتياجاتها المحلية والوفاء بعقود التصدير. وبدلاً من ذلك، بدأت في استيراد الغاز الطبيعي السائل عالي السعر، لسد حاجة السكان المتزايدين، الذين كانوا يعانون من انقطاع التيار الكهربائي بانتظام.
إذن، من سيشتري الغاز الإسرائيلي؟
دخلت مصر في ركودٍ اقتصادي مرتبط بقطاع الطاقة، لكنَّ المستقبل بالنسبة لإسرائيل، التي كانت تستورد الغاز منذ فترةٍ طويلة، كان يبدو مشرقاً.
وفي عام 2009، اكتشفت شركتا Noble وDelek حقل تمار، وسرعان ما تبعهما اكتشاف حقل ليفياثان في عام 2010، وهو أحد أكبر الاكتشافات العالمية في هذا القرن.
وقال وزير البنية التحتية الإسرائيلي آنذاك عوزي لانداو، إنَّ هذا الاكتشاف كان "أهم خبر متعلق بالطاقة منذ تأسيس الدولة"، وكان هناك حديثٌ عن أنَّ إسرائيل أصبحت مركزاً إقليمياً للغاز.
لكن في السنوات الأخيرة، كافحت الشركات من أجل حل عقدة المشاكل السياسية والاقتصادية ذات الصلة بقضيةٍ واحدة، ألا وهي: كيفية بيع الغاز.
في عام 2015، بعد أن استثمرت شركات الطاقة مليارات الدولارات لاكتشاف الحقول وانتظرت سنواتٍ لإنتاج الغاز، وافقت الحكومة الإسرائيلية على لوائح لجعل القطاع أكثر قدرة على المنافسة، وهي خطوة يعتقد الكثيرون أنَّها تخيف المستثمرين الأجانب، الذين لا يعرفون ما قد تفعله الحكومة بعد ذلك.
بعد مرور ما يقرب من عقدٍ من الزمان على اكتشافه، أنتج حقل تمار فقط الغاز للاستهلاك التجاري. ويوفر حالياً كل الغاز الإسرائيلي تقريباً، لكنَّ عملاءه غير المحليين هما فقط شركة البوتاس العربية المملوكة للحكومة الأردنية وشركة البرومين التابعة لها.
وقوبلت صفقة تمار، واتفاقيةٌ أكبر بكثير وُقِّعَت في عام 2016 تقضي بتوريد الغاز من حقل ليفياثان لشركة الكهرباء الوطنية المملوكة للدولة في الأردن (NEPCO)، باحتجاجاتٍ في الشوارع وانتقاداتٍ من البرلمانيين الأردنيين.
وكان هناك كذلك حلمٌ ببيع الغاز من خلال EastMed، وهو خط أنابيب تحت الماء مقترح بطول 1900 كم، بتكلفة 7 مليارات دولار من إسرائيل عبر قبرص إلى اليونان وإيطاليا. لكنَّ التكلفة والتحديات اللوجستية الكبرى سحقت هذه الفكرة، تاركةً لإسرائيل زبوناً واحداً فقط محتملاً للبيع السريع، ألا وهو مصر.
خاصة أن حاجة مصر للغاز الإسرائيلي قد "تنعدم"
حاجة مصر إلى الغاز الإسرائيلي مشكوكٌ فيها. ففي يوليو/تموز 2015، اكتشفت شركة الطاقة الإيطالية "إيني" حقل ظهر العملاق، أكبر حقل غاز اكتُشِفَ على الإطلاق في البحر الأبيض المتوسط، ثم بدأت في إنتاج الغاز في ديسمبر/كانون الأول الماضي. ومن المتوقع أن تملك مصر فائض غاز في وقتٍ مبكر من العام المقبل.
لذلك عندما أُعلن عن الصفقة بين شركتي Delek وNoble من جهة، وشركة دولفين من جهة أخرى، في فبراير/شباط الماضي، اعترض الكثيرون. لماذا تحتاج مصر هذا الغاز؟ حتى لو كان ستتم إعادة تصديره، فهل هذا منطقي من الناحية الاقتصادية؟
وتساءل ديفيد باتر، زميل برنامج تشاتام هاوس في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: "هل سيدفع المستهلكون المصريون أكثر من قيمة الغاز في صفقةٍ لصالح شركاتٍ إسرائيلية وأميركية؟ وخيار الغاز الطبيعي المسال معقد لأنَّ الرسوم الإضافية ستضعف قدرتها التنافسية. ماذا يحدث إذا وجدت مصر كمياتٍ أكبر من الغاز؟".
أحاطت المزيد من الشكوك بالصفقة، عندما ظهرت تقارير قبل أسبوعين تقول إنَّ شركة إيني حققت اكتشافاً جديداً قبالة ساحل سيناء. وانخفضت أسهم الطاقة الإسرائيلية، لأنَّ الأمر بدا وكأن مصر قد لا تحتاج إلى غازٍ إسرائيلي على الإطلاق.
ومنذ ذلك الحين أنكرت شركة إيني التقارير، وقالت فقط إنَّ استكشاف حقل نور، محل الادعاء، سيبدأ في شهر أغسطس/آب المقبل. وحسب المحللين، الأمر مجرد مسألة وقت، قبل أن تكتشف مصر المزيد من الغاز، وهذا هو السبب في أنَّ هذه الصفقة تتقدم بسرعة.
وهو ما يجعل الصفقة قد تنهار
يقول ريتيغ: "في أي لحظة قد تنهار الصفقة. الفكرة هي أن ينتهوا منها على عجل، ويخلقوا حقائق جديدة على الأرض من قبيل مد خط الأنابيب، ونقل الغاز في خط الأنابيب. ووقتها تقول إسرائيل لمصر: هل ستوقفين المشروع الآن؟ هذه هي الفكرة؛ الدفع بإنجازها وجعلها أمراً واقعاً".
في حين أنَّ الصفقة الحالية ستستمر لمدة 10 سنوات، يقول محللون إنَّهم يشكون في أنَّها قد لا تدوم لهذه الفترة، لكنَّها ستسمح لشركتي Delek وNoble بالاستمرار في الاستثمار في حقل ليفياثان، في إطار صفقاتٍ أخرى.
وقال باتر: "قد يكونون قادرين على بيع بعض الغاز إلى مصر، لكن ليس من الواضح إلى متى سيستمرون في ذلك".
لكن المساهمين ينتظرون تدفق العوائد
لكن مع تصويت حملة أسهم شركة Delek في وقتٍ سابق من هذا الشهر بأغلبيةٍ ساحقة على استثمار 200 مليون دولار في شركة غاز شرق المتوسط، الشركة التي كانت تحمل الغاز المصري الرخيص إلى إسرائيل قبل عقدٍ من الزمان، وما زالت تسيطر على خط الأنابيب بين إسرائيل ومصر، استمرت الصفقة في المضي قدماً.
من خلال الاستثمار في شركة غاز شرق المتوسط، ستحتفظ شركتا Delek وNoble بأكبر كتلة تصويت في الشركة، مما يسمح لها بتمرير اقتراحٍ لعكس اتجاه خط الأنابيب.
ومع ذلك، لا تزال هناك عقبات. فهناك مليارات الدولارات عالقة في تسوياتٍ تتعلق بالصفقة بعد أن أنهت إيجاس، الشركة المصرية القابضة للغاز الطبيعي، عقودها مع شركة غاز شرق المتوسط لتصدير الغاز إلى إسرائيل في عام 2012.
وفي عام 2015، حكمت الغرفة التجارية الدولية في جنيف على شركة إيجاس والهيئة المصرية العامة للبترول بدفع غرامةٍ بقيمة 1.76 مليار دولار لشركة الكهرباء الإسرائيلية، و288 مليون دولار إلى شركة غاز شرق المتوسط لوقفهما إمدادات الغاز.
وكان وزير الطاقة المصري طارق الملا قد ذكر في وقتٍ سابق من هذا العام أنَّ الاتفاق يتوقف على التسويات. وأفاد موقع مدى مصر الإخباري أنَّ الحكومة الإسرائيلية قد وافقت من حيث المبدأ على تخفيض مبلغ الغرامات المستحقة، إذا سمحت الحكومة المصرية لقطاعها الخاص باستيراد الغاز الإسرائيلي.
وهذه هي الميزة الوحيدة التي يراها فؤاد في الاتفاق، إذ يقول: "المكسب الوحيد الذي يمكن أن تحققه مصر، على الرغم من أنَّه ليس مذكوراً في الصفقة، لكن يمكننا التنبؤ به، هو أنَّها قد تحصل على إعفاءٍ من الغرامة".