عندما كان إيمانويل ماكرون بَعد طفلاً ينشأ في بلدة آميان شمالي فرنسا، كان مشجِّعاً متحمساً للنادي الجنوبي أولمبيك مارسيليا. وفي عام 1993، حين فاز الفريق ببطولة دوري أبطال أوروبا، كان قائد الفريق آنذاك لاعباً يُدعَى ديدييه ديشامب. وفي يوم 15 يوليو/تموز الجاري، وتحت أمطارٍ غزيرة هطلت عقب فوز المنتخب الفرنسي في نهائي بطولة كأس العالم، كان ماكرون رئيساً وهو يعانق اللاعب ديشامب ذاته، كابتن المنتخب الفرنسي الذي فاز بكأس العالم عام 1998، وقد أصبح الآن مدرِّب فريق الأبطال الفرنسيين.
واستقبلت فرنسا منتخبها الوطني، بعد أن هزم كرواتيا بنتيجة 4-2 في موسكو. فقد قَصَد مليون شخصٍ الأمسية الماضية، 15 يوليو/تموز، شوارع باريس وقت غروب الشمس، يغنُّون، ويرجُّون عربات المترو، ويتسلَّقون محطَّات الحافلات وعمدان النور، ويُشعلون المفرقعات النارية والشعلات الوهَّاجة. خَلَت شوارع العاصمة من السيارات وتحوَّلت لنهرٍ بشري متدفِّق يحمل الأعلام.
وفي ظهيرة أمس الإثنين 16 يوليو/تموز، استقل الفريق موكباً يسير بشارع الشانزليزيه على متن حافلةٍ مكشوفة، وصولاً إلى حفل استقبالٍ في ضيافة ماكرون والقصر الرئاسي. أثلج الفريق الصدور وصنع التاريخ. وأصبح ديشامب ثالث شخصٍ في العالم يفوز بكأس العالم لاعباً ومدرباً. كذلك كان كيليان مبابي، المهاجم الذي نشأ في ضاحية بوندي الباريسية، ثاني مراهقٍ فقط، بعد بيليه، يسجِّل هدفاً في نهائي لكأس العالم.
كرة القدم مهمة لماكرون
الرياضة بالنسبة لماكرون، الذي لم يُخفِ فرحته وهو يشاهد المباراة من المقصورة الرئاسية، هي أكثر من رياضة. وإذ كان يلعب ظهيراً أيسر عندما كان طالباً، فإنَّه يستمتع باللعبة نفسها، وقد ذهبت حملته الانتخابية الرئاسية إلى سارسيل، وهي إحدى ضواحي باريس الفقيرة أيضاً، حيث تبادل ركل الكرة مع بعض الصغار، بحسب مجلة The Economist البريطانية.
ومع ذلك فإنَّ كرة القدم مهمةٌ لأسبابٍ أخرى أيضاً، من أهمها أنَّه، وبرغم أنَّه لا شك سيُتَّهم باستغلال الفوز لأغراضٍ سياسية، قد يحصل على دفعةٍ إيجابية في استطلاعات الرأي على خلفية المزاج العام المُنتَشي في البلاد. وفي عام فوز المنتخب الفرنسي عام 1998 شهد الرئيس آنذاك جاك شيراك، معدلات شعبيته تقفز من 45% إلى 59% في شهر أغسطس/آب. وظلَّت شعبيته تحوم فوق نسبة 50% وسط موجةٍ من الانتعاش الاقتصادي على مدار 18 شهراً بعد فوز فرنسا.
ومن أحد أسباب أنَّ الفوز يصب في مصلحة ماكرون، هو أنه يأتي في وقتٍ يُتَّهم فيه الرئيس من جانب منتقديه باحتقار من هم أقل حظاً منه، وفي ظل توجُّه البلاد إلى اليمين السياسي، كما أنَّ كرة القدم في فرنسا تمثِّل نوعاً من الترقي الاجتماعي الذي يستحسنه ماكرون.
فقد قال ماكرون مسبقاً في رحلةٍ إلى مدينة مارسيليا خلال حملته الانتخابية العام الفائت إنَّ الرياضة "تقتل الإقامة الجبرية" المفروضة على مَن يعيشون في ضواحي البلاد ذات الوضع الاجتماعي السيئ.
وتمتلك باريس الكبرى، التي تطوِّقها عقاراتٌ سكنية ذات تصميم أصمّ تعيش فيها العديد من العائلات ذات الأصول المهاجرة، شبكةً متنامية من نوادي كرة القدم للهواة ليرتادها الأطفال بعد الدوام المدرسي، وقد أصبحت مصدراً مهماً لاكتشاف المواهب بالنسبة للمنتخب الوطني.
وتؤكد المجلة البريطانية على أن التدريب والموهبة عاملان أساسيان في رؤية ماكرون لمحاربة الفقر، وتقدِّم كرة القدم بدورها رمزاً قوياً لأهمية كلا الصفتين.
دعاية أنيقة لفرنسا
أما السبب الثاني هو أنَّ الفريق قد أصبح في حدِّ ذاته دعايةً أنيقة لفرنسا. ففي عام 1998 كانت فرنسا ما زالت حائرة كلياً بشأن هويتها متعددة الثقافات لدرجة أنَّ الفريق لُقِّب بأنَّه "أسود، وأبيض، وقمحي" في إشارةٍ لتشكيلته متعددة الأعراق.
وفي بطولة كأس العالم المقامة في جنوب إفريقيا منذ 8 أعوام، أضرب الفريق الفرنسي، الذي تكوَّن آنذاك من لاعبين فائقي الغرور، عن التمرين أثناء إحدى جلسات التدريب، ولاحقاً غادروا البطولة في خزيٍ بعد أن أُقصوا من الجولة الأولى.
أما في هذا العام، فقد شكَّل ديشامب فريقاً من اللاعبين المحبوبين، يكونون شديدي الصخب في غرف تغيير الملابس لكن منضبطين، وحاضري التركيز، وبلا هوادة أثناء مباريات البطولة. تحدَّث مبابي عن رغبته في "تقديم كل ما يملك لفرنسا". بينما غرَّد أنطوان غريزمان، وهو هدافٌ آخر بالمنتخب، قائلاً ببساطة عبر موقع تويتر: "نحن أبطال العالم! تحيا فرنسا!".