حادث إطلاق النار العشوائي على ملونين في المدينة فتح كل هذا الجدل.
الدماء التي سالت في شوارع مدينة ماتشيراتا الهادئة أثارت ذعر الجميع.
تبدو إيطاليا الآن تحت رحمة الفاشية العائدة، والكراهية المتصاعدة للغرباء، والتلويح بالعنصرية ضد كل مهاجر أو ملون.
الإيطالي لوكا ترايني Luca Traini أطلق النار يومها بكثافة على قوات الشرطة التي كانت تطارده، ثم تسلَّق درجات نصبٍ تذكاري يعود للحقبة الفاشية، ولفَّ نفسه بعلمٍ إيطالي، ومدَّ ذراعه ملوحاً بالتحية الفاشية.
ترايني أطلق النار مصيباً ستة مهاجرين أفارقة من دول غانا ومالي ونيجيريا في هذه المدينة العائدة للقرون الوسطى قرب البحر الأدرياتيكي، ثأراً لجريمة وفقاً للمزاعم قطع فيها تاجر مخدرات نيجيري أوصال باميلا، الشابة الإيطالية التي صارت حديث الرأي العام. بعد حادث إطلاق النار كان ترايني يرى نفسه رجلاً وطنياً. لكنَّه بالنسبة للقادة، والليبراليين، والجماعات المناهضة للفاشية في إيطاليا، كان الحادث نذيراً مخيفاً بصعود خطاب الكراهية اليميني ضد المهاجرين، كما كتبت صحيفة The New York Times الأميركية.
وقع الحادث قبل أسابيع من الانتخابات التشريعية
جاءت حادثة إطلاق النار يوم 3 فبراير/شباط الفائت وسط حملةٍ انتخابية محمَّلة بالكراهية، تخلَّلتها لغة خطابٍ كارهة للمهاجرين، وتعصب متزايد، وتلميحات بإعادة إحياء الفاشية.
قبل ذلك، في ذروة أزمة المهاجرين، كانت إيطاليا معسكراً تقدمياً ومؤيدةً قوية للوحدة الأوروبية. لكن الآن، أصبح المزاج القومي قاسيا. وجسَّد غضب ترايني ببشاعة رد الفعل العنيف المتنامي ضد المهاجرين وصعود السياسة اليمينية.
انتهت انتخابات يوم 4 مارس/آذار بفوزٍ كاسح لحكومة شعبوية تحمل شكوكاً قوية تجاه الاتحاد الأوروبي، وأغلقت الباب بالفعل في وجه أي مهاجرين جدد فيما تهدِّد كذلك بطرد هؤلاء الموجودين بالبلاد الآن. وبالنسبة للبعض في بروكسل، معقل الاتحاد الأوروبي، فإنَّ إيطاليا الآن هي أكبر خطرٍ وجودي يتهدَّد أوروبا.
ومؤخراً قال ماتيو سالفيني، وزير داخلية البلاد الجديد: "في غضون عامٍ واحد، سنرى ما إن كانت أوروبا المتَّحدة ستظل موجودة".
أصبح وزير الداخلية الآن السلطة الأكثر قوةً وعنفاً في إيطاليا
نعم، استطاع سالفيني أكثر من أي شخصٍ آخر أن يفهم ويستغلِّ الغضب الذي اندلع في بلدة ماتشيراتا.
كانت إيطاليا دوماً حقل تجارب لأوروبا في ما يتعلق بالتغيرات السياسية، ودائماً ما كان يُستهزأ بها لامتلاكها حكوماتٍ رخوة، أو تجاهُلها باعتبارها مكاناً يصلح للتسلية فقط. وإذ كانت مهداً للفاشية، أخرجَت إيطاليا إلى العالم موسوليني، وغازلت الفِكر الشيوعي، ثم، بانتخابها سيلفيو بيرلسكوني، قدَّمت دليل استخدام للمليارديرات حول العالم، ممَّن يريدون اعتلاء السلطة.
والآن، وفيما تتعرَّض الأنظمة الليبرالية الديمقراطية في أوروبا لضغطٍ متزايد، تعمل اتجاهات الشعبوية الجديدة على تغيير شكل السياسة في إيطاليا، في وقتٍ قصير. وازداد التأييد الذي يحظى به حزب سالفيني القومي "الرابطة" في ماتشيراتا من 0.6 بالمئة في عام 2013 إلى 21 بالمئة في مارس/آذار الفائت.
ذاع صيت ماتشيراتا بأنها مكان متسامح مع الجميع
حظيت المدينة عام 2013 بعرفانٍ دولي لجهودها بدَمج المهاجرين في المجتمع. وتفاخر الأسقف الأسبق بها يوماً بسبب "الروح المُرحِّبة" الموجودة في "حمض المدينة النووي".
كذلك اتخذت مجموعات الإغاثة الإنسانية، مثل الجمعية الخيرية الكاثوليكية Caritas المدينة مقراً لها للعمل مع المهاجرين. وفي داخل مركز استقبال الجمعية، تدرَّب إبراهيم ديالو، وهو شابٌ سنغالي يبلغ من العمر 18 عاماً، ظهيرة يومٍ ليس ببعيد على تصريف فِعل "يكون" بمساعدة شابةٍ إيطالية تُدعَى لويجينا.
قال ديالو بالإيطالية، موضحاً قدراته على التحدث بها الآن: "أنا إبراهيم، وأنتِ لويجينا، ونحنُ في ماتشيراتا".
لكن تلك النسخة من المدينة أصبحت شيئاً من الماضي
لاحظ أسقف مدينة ماتشيراتا الجديد الذي اختاره البابا فرانسيس بنفسه مؤخراً أنَّ "التوتَّر المتصاعد في البلاد يمكن رؤيته الآن في هذه المدينة أيضاً".
وفي الجامعة، التي تأسست عام 1290، حذر طلاب يساريون أنَّ مجموعةً يمينية متشدِّدة من الطلَّاب بقسم العلوم الإنسانية كانوا يعتنقون كتابات جوليوس إيفولا، وهو الأب الروحي والفكري للفاشيين الإيطاليين وللإرهابيين الذين ظهروا في فترة ما بعد اندثار الفاشية.
وقالوا إنَّ هناك طلاباً يحاولون تشكيل فروعٍ محلية من جماعاتٍ يمينية متشددة مثل حزب "كاسا باوند" المُصنَّف بين الفاشيين الجُدد، الذي يُبلِي جيداً الآن في الانتخابات المحلية عبر البلاد، وكذلك حزب "فورزا نووفا" (القوة الجديدة)، الذي حاول في شهر أكتوبر/تشرين الأول إعادة تمثيل مسيرة موسوليني إلى روما عام 1922.
فقد احتفى اليمين المتطرف هنا بجريمة ترايني ضد الأجانب
ترتبط مارتينا بورا، وهي زعيمةٌ محلية بحزب فورزا نووفا، بصداقةٍ مع ترايني، الذي وُجِّهت له تهمة الشروع في القتل بدافعٍ عنصري. اعترف ترايني بجُرمه، لكنَّه زعم إصابته بجنونٍ مؤقت، وهوَ الآن يمثُل للمحاكمة. وتقول مارتينا إنَّه يحظى بتأييد الكثيرين محلياً.
وقالت: "إذا سألتَ معظم الناس عن لوكا ترايني، سيقولون لك إنَّه فعل الصواب، لكن كان يجدر به قتلهم وليس إصابتهم فقط". وأضافت أنَّ إيطاليا تدين له بالعرفان كونه "كشف عن وجود مُشكلة"، في حين أنَّها لم تُلقي بالاً لحقيقة أنَّ أياً من الضحايا لم يكن تاجر مخدرات.
وفي رحلةٍ بالسيارة خارج المدينة، ذكرت مارتينا مشروع إسكانٍ قالت إنَّه قد أصبح بؤرةً لتجارة المخدرات. طنَّت طائرات هليكوبتر تابعة للشرطة فوقنا فيما أشارت هي لمنزلٍ صغير حيث كانت النساء تشتري البيض مسبقاً، والآن يقصده المدمنون لشراء المخدَّرات، وحيث وجدت الشرطة بقايا بشريةٍ على مقربةٍ منه.
وفي نظر مارتينا ومَن يشاركها آراءها المتطرَّفة، كان هذا دليلاً على الأثر البغيض الذي أتى به المهاجرون إلى بلادها ومدينتها.
وفي طريق العودة إلى ماتشيراتا وإلى النصب التذكاري الفاشي حيث اعتُقل ترايني، أجابت مارتينا عن سؤالٍ عمَّا تنوي أن تفعله في العطلة الوطنية اليوم التالي، التي تخلِّد ذكرى تحرُّر إيطاليا من الحكم الفاشي.
قالت: "نحن لا نعتبره عيداً".
رغم أن المدينة ترفع شعار "المحبة" كعاصمة ثقافية لإيطاليا
مثلها مثل مدنٍ إيطالية كثيرة، عانت ماتشيراتا من تبعات الأزمة المالية لعام 2008. ثم حلَّت نكسةٌ أخرى مع حدوث زلزالٍ مدمِّر بها عام 2016. لكن تحلَّى مسؤولو المدينة بأمل أن يكون هذا العام نقطة تحوُّلٍ لمدينتهم.
وقضى رومانو كاراتشيني، وهوَ عمدة المدينة الدمث، التابع للحزب الديمقراطي المنتمي ليسار الوسط، فصل الشتاء يُحضِّر ملفاً تحت اسم "مدينة ماتشيراتا الودود"، إذ كان ذلك جزءاً من حملةٍ لتنصيب المدينة عاصمة إيطاليا للثقافة عام 2020. وكان ذلك لقباً من شأنه أن يجعل المدينة وجهةً سياحية كبرى في البلاد.
ووجدت مميزاتٌ عديدة يمكن إدراجها في الملف.
ماتشيراتا مدينة يبلغ عدد قاطنيها 42 ألف شخص معظمهم من قاطني الجامعة الموجودة بها، تُقدِّم عروضاً للأوبرا في مسرح سفيرستيريو المفتوح، وتصميماتٍ فارهة تعود لفترة الباروك بمسرح لاورو روسي الداخليّ. وقصر بووناكورسي يتمتَّع بأسقفٍ مزينة بلوحات الفسيفساء، وتحفٍ سابقة لعصرها، ومجموعةٍ من عربات الخيل على مستوًى عالمي.
وفي ساعاتٍ بعينها من اليوم، يشُب الأطفال ليراقبوا برج الساعة الفلكية في الميدان الرئيسي بالبلدة، ويشاهدوا تماثيل الحُكماء الثلاثة في قصَّة المسيح تظهر وتدور حول إحداها الأخرى. وكان جيسيبي غاريبالدي، الأب المؤسِّس لدولة إيطاليا، ممثلاً عن مدينة ماتشيراتا في روما.
ثم اشتعلت الأجواء تماما بعد مأساة الشابة باميلا
لكنَّ ذاك السكون الذي تحلَّت به المنطقة هو ما جذب باميلا ماستروبييرتو إليها، وهي شابة كانت تبلغ من العمر 18 عاماً آتية مِن الطبقة العاملة في روما. كانت المراهقة الشابَّة قد بدأت بمواعدة تاجر مخدرات روماني وأدمنت على تعاطي المخدرات.
استطاعت والدتها، وهي مصفَّفة شعر، إقناعها أخيراً بارتياد مركزٍ لعلاج إدمان المخدرات، وكان المركز يطل على كروم العنب في التلال القريبة لمدينة ماتشيراتا. وقَضت باميلا عدة أسابيع هُناك.
لكن في يوم 29 يناير/كانون الثاني، فيما أُعلِن تأهل مدينة ماتشيراتا للجولة النهائية من مسابقة عاصمة الثقافة، غادرت باميلا مركز إعادة التأهيل قاصدةً متنزَّه دياز غارندز، الواقع خارج أسوار مدينة ماتشيراتا، لشراء المخدرات.
كان المتنزَّه المتاهيّ قد أصبح معقلاً لتجار المخدرات، وكان العديد بين هؤلاء من المهاجرين. أشار المطالبين بطرد المهاجرين لحالة متنزَّه دياز غاردنز آنذاك باعتبارها حجةً في صالحهم. ويخشى العمدة أنَّهم محقون في هذا الأمر.
باميلا خرجت لشراء المخدرات من متنزه غاردنز
وفي مكتبه جيِّد التهوية، قال المحافظ إنَّه لم يملُك سوى سلطةٍ ضئيلة للتصدِّي لمعدلات الجريمة، لأنَّ صلاحية إعطاء الأوامر للشرطة تقع في يد وزارة الداخلية. كان تطبيق القانون ضعيفاً في عدة مدنٍ إيطالية، وكانت ماتشيراتا إحداها، ما منح ماتيو سالفيني نقطة ارتكازٍ قوية، عندما تعهَّد بعدم التهاون مع أية جريمة لدى تولِّيه منصبه.
وفي متنزَّه غاردنز، يُعتقد أنَّ باميلا أُرشِدَت إلى نيجيري يبلغ من العمر 29 عاماً اسمه إينوسينت أوسيغالي كان قد وصل الأراضي الإيطالية في يوم 26 أغسطس/آب عام 2014، في أوج وفود المهاجرين إلى البلاد. وكان قد ترك برنامج طلب اللجوء الذي كان مُدرَجاً به واتجه لحياة الجريمة.
وبعدٍ فترةٍ قصيرة من اكتشاف جثة باميلا مقطَّعة الأطراف، وجدت الشرطة ملابسها الملطخة بالدماء داخل شقَّة أوسيغالي. وجَّهت النيابة العامة الإيطالية له في شهر يونيو/حزيران الفائت تهماً بالقتل، وتجارة المخدرات، وتدنيس جثة.
وما زالت الظروف المحيطة بموت هذه الشابة مجهولة
روَّعت جريمة قتلها وتشويهها البلاد، وصارت فوراً قضيةٍ وَجَب التطرق لها في سياق الانتخابات الوطنية. وفي مسار حملته الانتخابية، كان سالفيني قد صوَّر بالفعل عالماً يفترس فيه المهاجرون تجار المخدرات ضحاياهم المراهقين المتمردين، في بلادٍ تُفسدها المخدَّرات على نحوٍ متزايد. والآن، كانت فرصة الانقضاض قد حانت.
قال سالفيني في منشورٍ عبر موقع فيسبوك عقب اعتقال أوسيغالي: "لمَ كان ذلك الطفيلي في إيطاليا إلى الآن؟ لم يكُن يفرّ من الحرب. جلب هوَ الحرب إلى بلدنا إيطاليا. الآن يدا اليسار ملطَّختان بالدماء. علينا إعدامه هو الآخر. وعلينا طردهم، ثم طردهم، ثم فرض رقابةٍ عليهم، ثم طردهم أيضاً!"
ومثل الكثير من الإيطاليين تنتمي باميلا لجيلٍ ضائع
تفيد تقارير الشرطة بأنَّ تعاطي المخدرات، خاصةً بين أوساط الشباب، قد ازداد بنسبة 40 بالمئة خلال العامين الفائتين فقط، وفقاً لتقريرٍ قُدِم لمجلس الشيوخ الإيطالي في شهر يونيو/حزيران الفائت.
وعاد مخدِّرا الهيروين والكوكايين للمشهد مجدداً. وبرغم إحراز بعض التحسُّن في هذا الشأن، ما زالت معدلات البطالة بين الشباب تفوق 30 بالمئة، وهي بين أسوأ المعدلات في قارة أوروبا.
صنع إحباط الناخبين الشباب المجال لصعود حركة "خمس نجوم"، وهي شريكة ائتلاف سالفيني المناهض للنخبة الحاكمة التقليدية. أبقى الحزب عمداً على الغموض المحيط به خلال الحملة الانتخابية ليضمن اجتذابه أصوات الناخبين من اليمين واليسار السياسي على حد سواء، لكنَّ ما فعله سالفيني كان النقيض تماماً.
اتَّهم سالفيني المهاجرين غير الشرعيين بالاستيلاء على وظائف الشباب الإيطالي، وطالب باتخاذ إجراءاتٍ قصوى ضد هذه الظاهرة، تضمَّنت "عملية تطهيرٍ شامل، مسحٍ لكل شارع، وكل حيّ".
في ماتشيراتا كان ترايني يتهم المهاجرين بالمسؤولية عن كل هذا
كان قد وصَف سالفيني يوماً بأنَّه "قائدُه".
كان ترايني طفلاً بديناً، نَضَج لاحقاً ليصبح رافع أثقال ووشم كلمة "منبوذ" على أصابعه. وبدا لأول وهلة أنَّ مثله مثل الكثيرين من الشباب الإيطالي المتمرِّد. فشل في إيجاد وظيفةٍ ثابتة وكان في سن الثامنة والعشرين ما زال يقيم مع والدته وجدته.
لكنَّ علامات تطرُّف ترايني كانت مُلقاةً في كل مكانٍ بغرفته. امتلك نسخةً من كتاب "كفاحي" لأدولف هتلر، وعلماً أسود يتوسطه صليبٌ سِلتي (صليبٌ مرسوم داخل حلقة)، ذلك الذي تستخدمه حركة النازيين الجدد الناشئة في أوروبا، وغلافاً لمجلة "الشباب الفاشي" التي كانت تُنشَر أثناء حكم موسوليني.
وبعد أن فشل ترايني في الحصول على صوتٍ واحد بصفته مرشَّح حزب الرابطة لتولِّي منصبٍ محلي في كوريدونيا، وهي البلدة التي دخلت باميلا فيها عيادةً لعلاج إدمان المخدرات، اتَّخذ ترايني اتجاهاً أشد يمينية، تجاه حزب فورزا نووفا.
وقالت مارتينا، الناشطة التابعة لحزب فورزا نووفا، إنَّ لقب ترايني كان "الذئب"، لكنَّه كان أقرب لـ"كلبٍ ضال". وقالت إنَّه عندما مسيرته مع حزب الرابطة "تقرَّب أيضاً من كاسا باوند، وكل الحركات اليمينية".
وفي ذلك الصباح حمل مسدسه وغادر بيته مثل المجنون
يوم 3 فبراير/شباط الفائت، ذهب ترايني إلى الصالة الرياضية، وسمع تقريراً عن مقتل باميلا عبر الراديو ثم، وفقاً لما يقوله محاميه، انتابته رغبةٌ مجنونة بقتل تجار المخدرات. عاد ترايني إلى منزله، وجلب مسدسه من صنع شركة غلوك النمساوية. مسلَّحاً بخمسين رصاصة، انطلق ترايني في سيارته من طراز ألفا روميو 147، مشغلاً الموسيقى بصوتٍ عالٍ.
وقال جيانكارلو جويليانيللي محامي ترايني مازحاً: "ربما كان يستمع لمقطوعة Flight of the Valkyries الكلاسيكية المفضَّلة لدى هتلر"، وهي من تأليف ريتشارد فاجنر
إطلاق النار الأول كان تحت تمثال غاريبالدي خارج حدائق دياز
وخارج متنزَّه دياز غاردنز، وتحت تمثال غاريبالدي، أطلق ترايني النار على رجالٍ يجلسون داخل شرفةٍ زجاجية تابعة لحانة. وأطلق النار كذلك على المقر المحلِّي للحزب الديمقراطي، ثم قاد سيارته إلى الطريق الريفي حيث وجدت الشرطة بقايا جثة باميلا.
كان مشيِّعوها قد وضعوا زهوراً وشموعاً ملفوفة بالمسابح حيث وُجِدَت جثتها. تلا ترايني صلاةً على شمعةٍ مُلصَقٌ عليها صورة موسوليني، وفقاً لمحاميه.
وفي طريق العودة للمدينة، توقَّف ترايني أمام حانةٍ تُدعَى H7، حيث كان يعمل حتى شهر أكتوبر/تشرين الأول حين طُرِد من عمله بحراسة المدخل لإهانته الزبائن في حفلٍ لموسيقى التكنو. أطلق ثلاث طلقاتٍ على المكان، ما جعل المدير روبرتو تارتابيني يهرع إلى غرفةٍ مجاورة للاختباء.
قال تارتابيني: "كان يتصرَّف بناءً على ثأرٍ شخصي". وأضاف أنَّه انتوى رسم وجهٍ مبتسم مكان ثقوب الرصاصات على باب الحانة في بادرةٍ لتشجيع التسامح.
وكان ضحايا ترايني الستة جميعاً مهاجرين سود البشرة
من الضحايا أوماغبون فيستوس (33 عاماً)، الذي كان في طريقه إلى متجر البقالة عندما توقَّفت سيارة ترايني بمحاذاته. قال فيستوس إنَّه رأى "رجلاً إيطاليا مِن العرق الأبيض الخالص" يوجِّه مسدساً نحوه، قبل أن يشعر بالرصاصة التي هشَّمت عظم ساعده الأيسر.
وفي الساعات التالية لجريمة ترايني، اتَّجهت وسائل الإعلام والعديد من القيادات السياسية الإيطالية إلى مدينة ماتشيراتا. أدان سالفيني الواقعة دون مبالاةٍ حقيقية عبر موقع تويتر، لكنَّه جادل أيضاً قائلاً إنَّ "الهجرة غير المقيَّدة تجلب الفوضى، والغضب، وتجارة المخدرات، والسرقات، وحوادث الاغتصاب، والعنف".
وسارع العمدة كارانتشيني للاستجابة للواقعة، وبدا في نظر منتقديه في حيرةٍ من أمره. لكنَّه قال إنَّ الضرر قد وقع بالفعل، على الصورة التي صدَّرها الحزب الديمقراطي بأنَّه يدير أزمة الهجرة على نحوٍ فعال، وعلى مستقبل الحزب الانتخابي، وعلى فُرَص ماتشيراتا بأن تصبح وجهةً سياحية كبرى.
وبعد يومين من حادثة إطلاق النار، سافر العمدة كارانتشيني إلى روما ليقدِّم أفضل عرضٍ عنده أمام وزارة الثقافة الإيطالية، لتصبح مدينته العاصمة الثقافية.
قال العمدة بمرارة: "في تلك اللحظة، كانت ماتشيراتا بحاجة لهذا اللقب، المدينة الودود، كنَّا في دوامة".
وقع اختيار لجنة التحكيم على بارما، وهي مدينة تقع في شمال إيطاليا وتشتهر بالفعل بسلعتيّ الجبن والبروشوتو (لحم الخنزير المقدَّد)، لتصبح عاصمةً للثقافة عام 2020.
والآن يبدو وزير الداخلية مثل لطخة قديمة على جلد إيطاليا الجديد
قاد ماتيو سالفيني رابطة الشمال، وهو حزبٌ إقليمي انفصالي بدا حينذاك غير متسقٍ مع التوجُّه القومي. إذ أجمع الرأي العام الإيطالي على دعم طالبي اللجوء بعد زيارةٍ قام بها البابا فرانسيس لمهاجرين مقيمين على جزيرة لامبيدوسا عام 2013.
تبنَّت الحكومة الإيطالية سياسةً إنسانية قامت على إنقاذ المهاجرين العالقين في البحر، بينما تعهَّد رئيس وزاء البلاد آنذاك اليساريّ المعتدل ماتيو رينزي بقيادة الدولة الإيطالية للحداثة بنظره.
لكنَّ 620 ألف مهاجرٍ معظمهم إفريقيين وفدوا إلى إيطاليا منذ بدء أزمة الهجرة عام 2014. مكث هؤلاء في مراكزَ حكومية أو في كنائس محلية. وتسكع كثيون منهم أيضاً في محطات قطار أو خارج المتاجر والحانات.
كذلك انضمَّ بعضهم لصفوف المافيا النيجيرية الخطيرة التي تشتغل بتجارة المخدرات، والدعارة، والعبودية الجنسية.
اتضح آنذاك أنَّ سالفيني كان سياسياً موهوباً قادراً على إيصال حسٍ من الموثوقية والقُرب كثيراً ما افتقره رينزي ذو الطبع المتسلط. وأدرك سالفيني وجود إحباطٍ متزايد تجاه بروكسل كونها رفضت مساعدة إيطاليا في تحمُّل جزءٍ من عبء المهاجرين، وكان مستعداً لاستغلال هذا التوجُّه العام بمطالبته الانسحاب من استخدام عملة اليورو وتقرُّبه من زعماء الأحزاب اليمينية في النمسا، والمجر، وبولندا.
وبحلول عام 2016 كان نجم سالفيني يحلِّق
نجح سالفيني بتحويل حزبه رابطة الشمال Lega Nord per l'Indipendenza della Padania من حركةٍ انفصالية إقليمية ليصبح حركةً قومية، وقوموية. وفي حين أنَّه استخفَّ يوماً بسكان جنوب إيطاليا واصفاً إياهم بالكسولين وكريهي الرائحة، فإنَّه الآن يخطب وِد أصواتهم الانتخابية بحذف كلمة "الشمالية" من اسم الحزب ليصبح اسمه "الرابطة" فحسب.
يسير سالفيني على نهج الحركات الشعبوية الدولية بحذافيره، فثار على النخبة السياسية وعلى وسائل الإعلام المنتشرة، حتى عندما سيطر هو نفسه على عناوينها. والآن وقد انضمَّ الإيطاليون الجنوبيون إلى كنفه، كان بحاجةٍ لعدوٍ خارجي مشترك يتضافر الإيطاليون ضدَّه.
هزأ سالفيني قبلاً من البيروقراطيين الأشرار القابعين في روما. والآن وجَّه ثائرته تِلك نحو بروكسل والاتحاد الأوروبي. وأصبح بديل التهديد الجنوبيّ هُم المهاجرون الأفارقة الذين اجتاحوا البلاد.
حتى ينجح في نشر رسالته، أتقن سالفيني استخدام موقع فيسبوك، وحذا حذوه شركاؤه الحلفاء في حركة "خمس نجوم". ومعاً سيطروا على الشبكات الاجتماعية، ونشروا مشاعر كراهية المهاجرين، حتى وإن كانت أعداد المهاجرين الوافدين آنذاك قد انحدرت بشكلٍ ملحوظ على خلفية السياسات الحكومية الجديدة التي فرضها الحزب الديمقراطي.
وفي الشتاء الماضي، فيما بلغت حملته الانتخابية أشدَّها، نشر سالفيني مقطع فيديو عبر حسابه على موقع فيسبوك. يقارن المقطع بين إيطاليين عجزة فقراء ينبشون القمامة بحثاً عن أي طعام وبين مهاجرين أفارقة ينتقدون جودة الأرز الإيطالي.
كتب سالفيني تعليقاً مصاحباً للفيديو: "لا تذيع نشرات أخبار التلفاز شيئاً كهذا، أتساءل لماذا … يمكنك على الأقل أن تنشره عبر الإنترنت". تمَّت مشاركة المنشور 294 ألف مرة وشوهد 10 ملايين مرة.
وفي تلك المرحلة وصلت جاذبية سالفيني إلى ماتشيراتا
في مساءٍ ليس ببعيد، كان توليو باتاسيني، وهو عضوٌ بحزب الرابطة ويمثِّل الآن مدينة ماتشيراتا في البرلمان الإيطالي، يشرح أن الحزب مناسبٌ جداً، ويتطرق لمواضيع كان بينها تطبيق القانون والنظام والعقوبات المفروضة على روسيا. وقال باتاسيني إنَّ ماتشيراتا، وهي مركزٌ تقليديّ لصناعة الأحذية الإيطالية، عارضت العقوبات ضدَّ روسيا لأنَّ "الروس يحبُّون الأحذية الإيطالية وبهذا خسرنا سوقنا عندهم".
يُعبِّر سالفيني علانيةً عن إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعارضت حكومة سالفيني الشعبوية بالفعل العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على روسيا. ومع ذلك، تظل قضية الهجرة هي الأكثر إثارة للخلاف في البلاد.
وقال باتاسيني إنَّ إحباط الشعب من ظاهرة الهجرة غير الشرعية كان قد وصل إلى حد الغليان.
وقال: "يشبه الأمر قدراً يغلي، ويغلي، ويغلي، حتى ينفجر غطاؤه. هذا لأنَّنا نحن الإيطاليون شعبٌ مُرحِّب، وكريم، وطيِّب، وجاهزٌ للمساعدة، لذلك مثَّلت قضية باميلا مشكلةً بالنسبة للجميع. إنَّها مشكلة تواجه إيطاليا بأكملها".
وبدأت المدينة تقول "لا، لا، لا" للمهاجرين
بعد أسابيعَ من وقوع الجريمة، حضر باتاسيني جنازةً أُقِيمت في روما لباميلا، التي يُشار إليها الآن في إيطاليا كلها باسمها الأول فقط. قال: "كيف لا أكون موجوداً هنا؟".
وفي بداية أزمة الهجرة، أحياناً ما كان بعض الساسة والبلدات في جزيرة صقلية يقيمون جنازاتٍ لمهاجرين مجهولين لقوا حتفهم غرقاً في البحر، في علامةٍ على التضامن والاحترام. لكن في جنازة باميلا، همس أفراد الرعية الجالسين بالجزء الخلفي من الكنيسة قائلين: "لا، لا، لا" عندما حضر وفدٌ من المسؤولين النيجيريين ليقدِّموا تعازيهم.
وُضِعت صورةٌ لباميلا وبجانبها شموعٌ فوق نعشها الأبيض. وجلس العمدة كارانتشيني في الصف الأوَّل، واستمع لوالدة باميلا تُلقي خطاباً مفعماً بالألم.
وقالت الأم بصوتٍ راجف: "حتى وإن كانوا قد آذوكِ بفظاعة. أنتِ حيةٌ رغماً عمَّن ذبحوكِ".
كان مقرراً أن تعود باميلا من مركز علاج الإدمان يوم 4 مارس/آذار، يوم الانتخابات التي اكتسحها سالفيني معتلياً مقاليد السلطة. وكان ذلك يوم بلوغ النيجيري فيستوس، أحد المهاجرين الذين أطلق ترايني عليهم النار، عامه الثالث والثلاثين.
وتستعد الآن لإجلاء معظم المهاجرين من ماتشيراتا
يعيش فيستوس على بعد 45 دقيقة من مدينة ماتشيراتا في غرفةٍ قليلة الأثاث، تبعد أيضاً مسافة مشيٍ قصيرة من ملعب كرة قدم كان يوماً معسكراً اعتُقِل فيه 61 يهودي أثناء الحرب العالمية الثانية. دُهش فيستوس لنظافة ماتشيراتا أوَّل مرةٍ ذهب فيها إلى المدينة. تسوَّق لشراء زيت النخيل الأحمر وتحدَّث مع أصدقائه في المتاجر الإفريقية. الآن هوَ يتجنَّب مدينة ماتشيراتا كلياً.
قال فيستوس: "عبرتُ الصحراء الكبرى والبحر المتوسط كي آتي إلى هنا. وهذا ما يحدث لي في أوروبا؟".
التاريخ الأوروبي دموي، وعليه فإنَّ فكرة كونها ملاذاً آمناً تُعَد جديدةً نسبياً. لكنَّا ننسى.
وفي يوم 25 أبريل/نيسان، يوم العطلة الإيطالية التي تخلِّد ذكرى نهاية الاحتلال النازي، حيَّت مجموعةٌ من المحاربين القدامى تمثال الجندي المصاب على منصَّة نصب المقاومة التذكاري بمدينة ماتشيراتا. كارانتشيني، الذي كان يرتدي آنذاك وشاحاً ملوَّناً بألوان العلم الإيطالي الثلاثة، طلب من الحشد ألَّا ينسوا ماضي إيطاليا الفاشي.
قال: "تعيش هذه المنطقة بالذات فترةً عصيبة من الصعوبات، والحيرة، والتقلقل".
انتهت المراسم، وتفرَّق الحشد، وتجوَّل البعض مارِّين بأكشاك صحفٍ تبيع عناوين صحفٍ محلية مثل: "باميلا: التعذيب والجريمة، أسرار النيجيريين". وفي ميدان فيتوريو فينتو، قدَّم متطوعون طعام الغداء لـ200 مقيمٍ ومهاجر. ووزَّع قسٌ بطاقات دُعاءٍ كُتِب عليها اقتباسٌ للبابا فرانسيس: "كلنا مهاجرون".
وجلس ديالو، الرجل السنغالي الذي تدرَّب على نطق الأفعال الإيطالية في مركز Caritas، يضحك برفقة أصدقائه فيما كانوا يأكلون أطباقاً تقليدية إفريقية وإيطالية. وكذلك جلست تيتسيانا مانوالي مديرة المركز بالقرب منهم. قالت إنَّ الكثيرين ممَّن يتناولون الغداء الآن قد يُجبرون على الرحيل.
وقالت: "يبدو أنَّ ماتشيراتا مدينةٌ ترحِّب بالوافدين. لكنَّ جزءاً من المجتمع ليس مستعداً بعد".