هل ما يزال هناك المزيد من الإذلال للفلسطينيين؟ بعد اتفاق أوسلو، وبعد "حل الدولتين"، وبعد سنوات من الاحتلال الإسرائيلي -قُسِّمَت خلالها الأراضي الفلسطينية إلى "المنطقة أ" و"المنطقة ج"، وهو التقسيم الذي يُحدِّد نوع الاحتلال الذي يجب على الفلسطينيين العيش في ظله- وبعد الاستعمار الصهيوني الواسع للأراضي التي سُرِقَت من ملَّاكها العرب، وبعد أحداث القتل الجماعي لمواطني غزة، وقرار ترمب جعل القدس كلها عاصمةً لإسرائيل، هل سيُطلب من الفلسطينيين تسوية القضية لقاء الحصول على المال أو قريةٍ بائسة؟ هل هناك مزيد من العار؟
هذه الأسئلة طرحتها صحيفة The Independent البريطانية في تقرير نشرته الخميس 28 يونيو/حزيران 2018، وأضافت أنه سيُمنح الفلسطينيون قريباً "الصفقة النهائية" -نهائية بمعنى أنها الأخيرة، والقاطعة، والشاملة، صفقة لا مزيد من الأوراق؛ صفقة انسحِب أو خاطِر بكلِّ شيء؛ صفقة اقبَل الصفقة أو اتركها أو اذهب إلى الجحيم؛ صفقة توقَّف واقلع عن اللعب؛ صفقة نهاية اللعبة.
كمية ضخمة من المال مقابل القبول بـ"قرية بائسة"
وحسب كاتب المقال، فإنه ستكون قرية بائسة عاصمةً للدولة الفلسطينية، حيث لا نهاية للاستعمار، ولا أمن، ولا جيش، ولا حدود مستقلة، ولا وحدة. وفي المقابل، سيحصلون على كميةٍ ضخمة من المال؛ مليارات الدولارات واليوروهات، ملايين الجنيهات، ومبالغ طائلة من الدينارات والشيكل، والربح الخسيس؛ إنه "المال" الحقيقي.
وذكرت الصحيفة البريطانية أن وليّ العهد غاريد كوشنر، صهر ترمب، قال خلال الأسبوع الجاري: "أعتقد أن اهتمام الشعب الفلسطيني بنقاط مباحثات السياسيين أقل من رغبته في رؤية صفقة تمنحه هو وأجياله المقبلة فرصاً جديدة، ووظائف أكثر وأفضل، وأملاً في حياة أفضل".
هل صهر ترمب، وهو مستشاره لشؤون الشرق الأوسط، ومُطوِّر عقاري، ومستثمر أميركي، واهم؟ بعد 3 حروب عربية-إسرائيلية، وعشرات الآلاف من القتلى الفلسطينيين، وملايين اللاجئين، هل يعتقد غاريد كوشنر حقاً أن الفلسطينيين سيسوّون القضية مقابل الحصول على المال؟
لكن، متى كان الفلسطينيون يهتمون بالمال مقابل الأرض؟
وتتساءل الصحيفة البريطانية كيف أن كوشنر لم يلحظ مطلقاً أن الفلسطينيين، الذين تظاهروا وعانوا وقُتِلوا وخسروا أراضيهم طوال 70 عاماً، لم يتظاهروا في الشوارع من أجل طرق أفضل، ومناطق خالية من الجمارك، أو مطار آخر؟ هل يظن أن شعب غزة قد نزل إلى الشارع وسار صوب السياج الحدودي المميت من أجل المطالبة بعياداتٍ جديدة لرعاية الحوامل؟! كيف يمكنه إذلال شعب عربي بأكمله عبر الإشارة إلى حريتهم، وسيادتهم، واستقلالهم، وكرامتهم، وعدالتهم، وأُمّتهم باعتبارها مجرد "نقاط في مباحثات السياسيين"؟ هل هناك من نهايةٍ لهذا الجنون؟!
كلا، ليس هناك نهاية له. تفيد تفاصيل "الصفقة النهائية" لترمب وكوشنر، التي تَظهر شيئاً فشيئاً عبر الصحف الإسرائيلية، وفي مقدمتها صحيفة "هآرتس" ذات الشأن الكبير، بأن الفلسطينيين يتوجَّب عليهم التخلي عن القدس الشرقية كعاصمةٍ لدولة "فلسطين" المستقبلية، وأن إسرائيل ستنسحب من حفنةٍ من القرى الواقعة في شرق وشمال القدس -من بينها قرية أبو ديس البائسة- لإنشاء "عاصمة" شكلية لدولة فلسطين، لكنها ستظل في المدينة القديمة للأبد.
وتنص الصفقة كذلك على أن تكون دولة فلسطين منزوعة السلاح بالكامل (لأسباب "أمنية" غالباً)، في حين ستبقى كلُّ مستعمرةٍ يهودية أُنشِئت بطريقةٍ غير شرعية على أرضٍ عربية -المُستعمرات مُخصَّصة لليهود فقط- وستُسيطر إسرائيل على وادي الأردن بالكامل. وماذا عن حق عودة الفلسطينيين إلى بلدهم؟ فلتنسَ هذا.
وسيكون كل هذا مقابل ضخ مليارات الدولارات في مشروعات البنية التحتية، وإقامة منطقة تجارية حرة في مدينة العريش بسيناء، وضخ المال في الضفة الغربية، وتولي قيادة فلسطينية جديدةٍ الحكم، ليرحل الرئيس الفلسطيني الحالي، محمود عباس، الفاسد، والمتعجرف، الذي يعاني الشيخوخة والذي لم تكن لدى قيادته "أي فكرة" ولم تبذل "أي جهد يفضي إلى أي آفاق للنجاح" (بالطبع، كوشنر هو من قال الجملة الأخيرة) في مقابل رجل جديد نفعي يكون أكثر طواعية، ومحبّاً للسلام، ومنبطحاً أكثر من عباس نفسه (وهذا مزيدٌ من التفكير الواهم).
حتى لو كانت أموالاً سعودية
ويعتمد كل هذا الجنون على سخاء السعودية -التي يبدو أن ولي عهدها الأخرق يتجادل مع والده الملك، الذي لا يريد التخلي عن المبادرة السعودية الأصلية بإنشاء دولةٍ فلسطينية وعاصمتها القدس- وعلى ضعف العاهل الأردني الملك عبد الله، الذي أدت المشكلات الاقتصادية التي تعانيها دولته بسبب سياسات صندوق النقد الدولي إلى إثارة احتجاجات غير مسبوقة في الشارع وسقوط حكومته.
بالإضافة إلى دعم وزير الدفاع السابق والرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، الذي سيكون سعيداً بفرض القانون والمنافع الاقتصادية على الحدود بين مصر وغزة. أجل، لن يكون هناك أيُّ تواصلٍ حقيقي بين غزة والضفة الغربية. ويبدو أن حركة "حماس" قد أُغفَلَت تماماً في هذه الصفقة.
كل ذلك يحدث والعالم يصرخ ليعاود صمته
هل يتعيَّن علينا البكاء أم الضحك؟ عندما نَقَلَ ترمب السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وسط المجزرة الواقعة في غزة، صرخ العالم ثم عاد إلى صمته. وأسهمت ازدواجية المداهنة الدبلوماسية والقتل الجماعي، والذي يباعد بينهما آلاف الأميال، في إضفاء طابع عادي على مزيج القتل والظلم بالصراع العربي-الإسرائيلي. وإذا ما وقف الدبلوماسيون الأميركيون في القدس إجلالاً لأصوات رصاص القناصة على طول حدود قطاع غزة، فما الذي يمكن انتظاره بعد هذا؟
وهناك شيءٌ غريب -ويكاد يكون هزلياً- في صور "صُنَّاع السلام" الدبلوماسيين وهم يجلسون حول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. في الغرب، نختار عدم التركيز على الخلفية العرقية والدينية لهؤلاء الرجال، لأسباب أخلاقية وجيهة.
وجماعات الضغط اليهودية تستغل ذلك
لكنَّ الإسرائيليين يفعلون هذا، وأوري أفنيري يفعل هذا، وصحيفة هآرتس تشير إلى خلفياتهم بوضوح: فجميعهم يهود، وعلى الأقل اثنان منهم داعمان متحمسان للاحتلال الإسرائيلي لأراضي الضفة الغربية الفلسطينية، من بينهم السفير الأميركي لدى إسرائيل، الذي وصف جماعة الضغط "جي ستريت" بأنها "أسوأ من الكابو" (لفظٌ أُطلِقَ على السجناء اليهود في معسكرات الاعتقال النازية، الذين كانت توكل إليهم مهمة مراقبة زملائهم).
ألم يكن من الممكن العثور على أميركي مسلم، بين فرق الدبلوماسيين والمستشارين الأميركيين، للانضمام إلى الفريق المسؤول عن مباحثات الصفقة؟ ألم يكن "صُنَّاع السلام" سيستفيدون من وجود صوت واحد، سواء كان رجلاً أو امرأة، يشارك "الطرف الآخر" في صفقة السلام الإسرائيلية-العربية المُعتَقَد نفسه؟
لكن لا، لم يكن أيٌّ من هذا سيُحدِث أيَّ فرق. فقد قطع عباس كلَّ العلاقات الدبلوماسية مع البيت الأبيض بعد اعتراف ترمب بالقدس عاصمةً لدولة إسرائيل وسَحَبَ سفيره من واشنطن.
وتُمثل "الصفقة النهائية" -وهي عبارة عن اتفاق أوسلو في الأساس، رغم أنه كان كأساً سامة، وسلسلةً من الهزائم الصغيرة وعمليات الانسحاب ومزيداً من الاحتلال، والمؤتمرات المخصصة لـ"مناهضة للإرهاب"- قمة إذلال الشعب الفلسطيني: لا قدس شرقية، لا نهاية للاحتلال، لا اعتراف بحق العودة، لا دولة، لا مستقبل. هناك أموالٌ فقط.