عندما أحرزت روسيا هدفها الثالث في مرمى مصر في كأس العالم الأسبوع الماضي، بدا أنَّ موجة الحزن التي عمت جميع أنحاء القاهرة قد سقطت على أكتاف المحاسب محمود عبد الرازق.
كان عبد الرازق قد أمضى بالفعل الساعة السابقة على مقعدٍ متهالك خارج مقهى صغير في شارع القصر العيني، الذي كان هادئاً في حركة المرور على غير المعتاد، محدقاً في تلفزيونٍ صغير فوق كومةٍ من الصناديق الحمراء.
أثناء المباراة، كان عبد الرازق يضرب الأرض بقدميه احتجاجاً على أداء المنتخب الوطني، ويصفع فخذه، ويخبط طاولة الشاي الذهبية الصغيرة في جانبه، ويتمتم بالأدعية والشتائم الخفيفة. لكن بعد الهدف الثالث، لم يستطع تحمل الموقف بعد الآن.
وعلى شاشة التلفزيون قام محمد صلاح، المهاجم المصري الذي يتمتع بشعبيةٍ جارفة في مصر، بمسك شعره المجعد الشهير بيديه، واليأس محفورٌ على وجهه، وهي نفس الملامح التي علت وجه عبد الرازق.
وقال عبد الرازق بصوتٍ مخنوق "كنا نعتقد أنَّ الله مع مصر"، مشيراً إلى السماء "لكن لا".
يبدو أنَّ المصريين لن ينعموا بقسطٍ من الراحة أبداً
بالفعل، يمر بلدهم بأوقاتٍ مريرة. فقد ارتفعت أسعار الماء والكهرباء والوقود في الأسابيع الأخيرة. ويخضع كل ما يفعلونه للرقابة، وعشرات الآلاف من السياسيين يقبعون في السجن.
ويحذر بعض الخبراء من أنَّ مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي تنزلق من الحكم الاستبدادي إلى نظامٍ شمولي، حيث لا يمكن التسامح حتى مع قدرٍ قليل من المعارضة.
حتى كرة القدم، وهي الرياضة الأكثر شعبية في البلاد، تخضع للسيطرة بعناية. إذ تُقام المباريات المحلية دون جمهور بسبب الحظر المفروض على حضور الجماهير لمباريات كرة القدم منذ عام 2012، مدفوعاً جزئياً بالمخاوف من استغلال قوى المعارضة للتجمعات العامة الكبيرة.
ولكن بعد ذلك جاءت بطولة كأس العالم، ورافقتها موجة من السعادة الوطنية الشاملة
لأول مرة منذ 28 عاماً، يتأهل فريق كرة القدم الوطني المعروف باسم الفراعنة إلى بطولة كأس العالم. وصل الفريق الوطني إلى هناك بفضل محمد صلاح، آلة تسجيل الأهداف التي صعدت إلى الشهرة العالمية في العام الماضي، مدفوعاً بحب مواطنيه الجنوني لكرة القدم.
صلاح لاعب ساحر في كرة القدم، إذ تبدو الكرة ملتصقةً بقدمه اليسرى وهو يراوغ المدافعين قبل أن يضعها في الشباك. ويلعب صلاح لنادي ليفربول الإنكليزي، حيثُ سجل 44 هدفاً في الموسم الماضي، في أداءٍ حاذق دفعه إلى صفوف النجوم مثل كريستيانو رونالدو وليونيل ميسي. لكن في كأس العالم هذه، يمثل صلاح بلاده مصر.
في أكتوبر/تشرين الأول 2017، غمرت الفرحة شوارع القاهرة عندما سجل صلاح هدفاً دراماتيكياً في الدقيقة الأخيرة ضد الكونغو، دفع الفريق الوطني إلى الوصول إلى نهائيات كأس العالم. وأخيراً وجد المصريون، الذين يمزقهم الكثير من الخوف والانقسام وسفك الدماء منذ انتفاضة الربيع العربي في عام 2011، بطلاً لا خلاف عليه.
وعنه قال معتز بدر (16 عاماً)، الطالب في المدرسة الثانوية، وهو يغادر مقهى في حي العجوزة في القاهرة بعد مباراةٍ حديثة: "صلاح هو الملك، ملك ليفربول، ملك إنكلترا، ملك مصر".
لكنَّ الرياضة لا تقدم سوى القليل من الاعتبار لنهايات القصص الخيالية، فقد تحطمت الآمال المنتشية بصعود مصر إلى الدور الثاني في كأس العالم بقيادة صلاح هذا الأسبوع. لكن لم يتخلَّ عن صلاح سوى القليل من المصريين.
في بلدٍ يضعف فيه الأمل، يرى الكثيرون أنَّ صلاح نجمٌ استثنائي لهذا الجيل
فصلاح يمثل قوةً أخلاقية ورياضية، وسفيراً للبلد والدين
أصبحت قصص عطائه الخيري وتواضعه مادةً أسطورية، فهو ينفق المال بسخاء على المدارس وسيارات الإسعاف في مسقط رأسه بقرية نجريج الصغيرة في دلتا النيل، ويتفادى الاختلاط بشخصياتٍ تجارية ثرية.
وصلاح مسلم متدين، فيسجد شكراً لله بعد تسجيل الأهداف، وهي بادرة حطمت الحواجز الثقافية حتى بين مشجعي كرة القدم في بريطانيا.
كما تقول إحدى أغاني ليفربول "لو سجل صلاح هدفاً آخر، فسأكون مسلماً أيضاً".
لقد وحد محمد صلاح العرب أيضاً. فبعد أن أعلن على فيسبوك أنَّه يرتدي حذاء كرة القدم نيابةً عن 100 مليون مصري، علَّق معجبيه في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقال أحدهم: "أيها الملك أبو صلاح، أضف 20 مليون سوري." وقال آخر: "أضف 50 مليون عراقي".
هذا النوع من الشعبية يمكن أن يكون خطيراً في بلدٍ مثل مصر. فبعد أن فاز السيسي بإعادة انتخابه في أبريل/نيسان في تصويتٍ فاقد للمصداقية على نطاقٍ واسع، إذ كان هناك 1.7 مليون صوتٍ باطل، تبيَّن أنَّ بعض الناخبين وضعوا علامة خطأ على اسم الرئيس السيسي، وكتبوا بدلاً منه اسم محمد صلاح.
وصدر قانون هذا الشهر يهدد أي شخص لديه أكثر من 5 آلاف متابع على تويتر بملاحقةٍ جنائية إذا بث أخباراً كاذبة. يُذكَر أنَّ صلاح لديه 6.4 مليون متابع.
وجديرٌ بالذكر أنَّ مغنياتٍ وراقصات مشهورات، وحتى دمى، تعرضوا للسجن بسبب أقوالهم.
وفي العام الماضي، وُضِعَ محمد أبو تريكة، الذي قاد المنتخب المصري لكرة القدم لمدة عقدٍ من الزمن حتى عام 2013، على قوائم الإرهاب العام الماضي لعلاقته المزعومة بجماعة الإخوان المسلمين المحظورة. ويعيش أبو تريكة حالياً في المنفى في دولة قطر الخليجية.
في المقابلات، يتجنب صلاح بشكلٍ مدروس الحديث عن السياسة، مؤكداً أنَّ الضغط الساحق لحمل آمال 97 مليون مصري لا يسبب له إزعاجاً.
وقال: "إنَّهم ليسوا حملاً علي، لكنَّهم يقودونني إلى الأمام".
لكن بالنسبة للجماهير، كانت بطولة كأس العالم هذه عبارة عن رحلةٍ مليئة بالدموع
جديرٌ بالذكر أنَّ سيرجيو راموس مدافع ريال مدريد تسبب في إصابة محمد صلاح في الكتف في مايو/أيار، قبل ثلاثة أسابيع من نهائيات كأس العالم، مما أثار مخاوف مؤلمة لاحتمالية غيابه عن نهائيات كأس العالم.
وكتبت صحيفة المصري اليوم حينها عنواناً نصه: ليلةٌ بكى فيها المصريون.. راموس الجزار خلع كتف أبو صلاح".
غاب صلاح عن مباراة مصر الأولى في كأس العالم أمام أوروغواي، التي خسرها المنتخب المصري بهدف مقابل لا شيء. وعندما ظهر أخيراً يوم الثلاثاء 19 يونيو/حزيران 2018 ضد روسيا الدولة المضيفة، كان الهدف الوحيد الذي سجله من ركلة جزاء بمثابة تعزية، ليخرج المنتخب المصري مهزوماً بثلاثة أهداف لهدفٍ واحد.
وبعد المباراة، تأججت المشاعر.
في مدينة طنطا في دلتا النيل، اندلعت مشاجرة في أحد المقاهي بعد أن قام أحد الزبائن بالبصق على التلفزيون وسب الفريق الوطني. وتعرض أحمد عبد الله، سائق سيارة أجرة راقب المشاجرة، لحرقٍ في ساقه بعد أن ركل صديقه طاولة محملة بأكواب الشاي.
وقال "أنا لا أهتم، الهدف كان أكثر إيلاماً من الحرق".
وفي أماكن أخرى، بكى المشجعون بهدوء أو رحلوا بعيداً في صمت. ففي أحد المقاهي بالقاهرة، غادر الرجال دون دفع ثمن مشروباتهم، ولم يكن لدى النوادل القلب لمنعهم.
ومنذ ذلك الحين، امتد الإحباط إلى حربٍ على وسائل الإعلام الاجتماعية، تبادل فيها المصريون ردود فعل حادة تدعو السيسي إلى الاستقالة، أو تدافع عن سجل فترته الرئاسية. وفي الشيشان، حيثُ يقبع معسكر الفريق المصري، منح الزعيم المستبد رمضان قديروف محمد صلاح الجنسية الفخرية.
تلعب مصر اليوم الإثنين 25 يونيو/حزيران مباراتها الثالثة والأخيرة ضد المملكة العربية السعودية، أقل فرق البطولة تصنيفاً. ويتوقع أن يسجل صلاح. وقال حاتم ماهر، الصحفي الرياضي في موقع الأهرام أونلاين الإخباري الحكومي، إنَّه رغم أنَّ مصر لا يمكن أن تصعد إلى المرحلة التالية، إلا أنَّ الفوز على السعودية يمكن أن يهدأ من معنويات البلاد المتدهورة.
وعلى كلٍ، قدمت جولة كأس العالم الدرامية درساً هاماً للمصريين، الذين خضعوا لعقودٍ من حكم الزعيم الواحد القوي.
إذ قال صابر محمد، وهو نجار، بعد مباراة روسيا: "المباريات تُظهر لنا أنَّنا لا نستطيع الاعتماد على شخصٍ واحد، علينا أن نتعلم اللعب كفريق".
اقرأ أيضاً