الذهاب إلى العمل، وتسجيل الحضور.. روتين مألوف لدى الموظفين الإداريين في جميع أنحاء العالم، إلا في دول الخليج.
في الكويت مثلا، وهي الدولة الثرية قليلة السكان، تحاول الحكومة تقليص فاتورة الأجور التي تلتهم أكثر من نصف ميزانيتها، وهي حصة غريبة يصعب قبولها حتى وفق المعايير الخليجية، حسب تقرير لوكالة Bloomberg الأميركية.
وفي العام الماضي (2017)، طالبت الحكومة موظفي القطاع العام بتمرير أصابعهم على أجهزة قارئة للمؤشرات الحيوية (مثل البصمة) كل صباح لتسجيل حضورهم. ووفقاً لخليفة حمادة، وكيل وزارة المالية الكويتية، استقال نحو 5 آلاف موظف في الرُبع التالي. الكثيرون منهم نادراً ما كانوا يحضرون تقريباً، وكانوا قلقين من أنَّ هذه القاعدة الجديدة ستكشفهم.
كل ممالك الخليج لديها شكلٌ ما من هذه المشكلة. فالحكومة هي جهة التوظيف الأولى التي يُلجَأ إليها، حتى حين لا يكون لديها الشيء الكثير ليفعله موظفوها. ويُعَد هذا جزءاً من اتفاقٍ ضمني بين الأسر الحاكمة والمواطنين. فهؤلاء الأخيرون ربما لا يكون لهم كلمة في طريقة إدارة بلدانهم، لكن على الأقل يجري الاعتناء بهم، حسب وصف التقرير.
حان الوقت لإنهاء الامتياز التاريخي للوظيفة الحكومية
الآن، وبعد سنوات من تراجُع أسعار النفط الخام، وزيادة الوعي بأنَّ النفط سينفد يوماً ما، يسعى حكام الخليج إلى إصلاح الماليات العامة.
وفاتورة الأجور -التي تُعَد أكبر بند إنفاق في معظم الحالات، وبفارقٍ كبير عن البند التالي لها- ستكون ميداناً واضحاً للبدء به. لكنَّها أصبحت قضية خطيرة مثيرة للجدل بصورةٍ ما، ولم يتم الاقتراب منها إلا بمخاطرة سياسية عالية.
قال ستيفن هيرتوغ، الأستاذ بمدرسة لندن للاقتصاد، إنَّ الضمانة التاريخية للوظائف الحكومية لا يمكن الاستمرار في التمسك بها"، مضيفاً في الوقت نفسه، أن "المساس بالرواتب العامة سيعني تغييراً في جوهر العقد الاجتماعي الخليجي".
خاصة في السعودية التي تستعد لعصر ما بعد النفط
تصبح هذه المعضلة حادة بشكلٍ خاص في أكبر بلدٍ خليجي، السعودية.
إذ يمكن للكويت أو قطر، اللتين تمتلكان عدداً أقل من السكان وعوائد أعلى من الطاقة بالنسبة للفرد، تحمُّل اتخاذ بعض الوقت من أجل التوصل إلى حل. لكن السعودية لا يمكنها ذلك؛ فنحو 70% من السعوديين تحت سن الثلاثين. وسينضم نحو 1.2 مليون إلى قوة العمل بحلول عام 2022، وهو ما يُمثِّل 4 أضعاف عدد المواطنين القطريين.
وفي ظل خطة ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، الطموحة لعصر ما بعد النفط، من المفترض أن يقع الدور الحاسم، المتمثل في إيجاد وظائف لهؤلاء، على القطاع الخاص.
ولكن مشكلة بدلات الموظفين تبدو صعبة على الحل
تُقلِّل الحكومة، التي تُوظِّف نحو ثلثي المواطنين السعوديين العاملين، تدريجياً، عجز الميزانية الذي تضخَّم إلى نحو 16% من الناتج المحلي الإجمالي بعد صدمة أسعار النفط في 2014.
ومثل حكام خليجيين آخرين، بدأ الأمير بن سلمان حملته لخفض النفقات عن طريق تقليص المشروعات الاستثمارية. وكان الأمر التالي على قائمته هو الدعم على الوقود والخدمات، في حين فُرِضَت أيضاً ضريبة قيمة مُضافة.
لكن حين تعامَل ولي العهد مع البدلات التي تُدفَع لموظفي الدولة، اضطُر إلى التراجع بعد بضعة أشهر، وسط قرقرة سخطٍ عامٍ وعلامات على تباطؤ الاقتصاد. فشَرَعَ في منحهم جميعاً بدل غلاء معيشة شهرياً يبلغ 266 دولاراً، آتياً بذلك على المدخرات التي حققها من جهاتٍ أخرى.
ووفقاً لمونيكا مالك، كبيرة المحللين الاقتصاديين في بنك أبوظبي التجاري، فإنَّ محمد بن سلمان وحكام الخليج الآخرين يتجنبون التحدي المالي الأكبر. فتقول: "هناك حدٌّ لمدى قدرتهم على تقليص الإنفاق الرأسمالي. والآن هم بحاجة لمعالجة فاتورة الأجور".
وبالطبع، موظفو الخدمة المدنية السعوديون هؤلاء ليسوا بالضرورة أكثر انشغالاً في عملهم من نظرائهم الكويتيين.
والخطوة الأولى هي وضع نظام صارم للحضور والغياب
حين زار أحد الوزراء إدارتها، ظهر الكثير من الناس الذين لم تكن قد رأتْهم من قبلُ مطلقاً. واكتشفت أنَّهم يتلقون رواتب منذ سنوات، هكذا تصف موظفة في إحدى الوزارات السعودية -طلبت عدم الكشف عن اسمها- الوضع في عملها.
تقول إنَّ رئيسها يعمل 3 أيام في الأسبوع على نحوٍ غير رسمي منذ سنوات، ولم يُغيِّر تلك العادة حتى حين انتُدِبت أنظمة تسجيل الحضور عبر تمرير بطاقات تعريف الموظفين.
ويمكن للتقنيات المُتعقِّبة مثل بصمات الأصابع، وأنظمة تمرير بطاقات التعريف، وكاميرات المكاتب تحديد "العمال الأشباح" الغائبين. وجرَّب حاكم دبي طريقةً أخرى قبل عامين، فقام بزيارة مفاجئة إلى مكاتب حكومية في بداية أسبوع العمل، ووجد الكثير من مقاعد الموظفين شاغرة.
لكنَّ وسائل كهذه لن تساعد في التخلُّص من الوظائف التي ليس لدى شاغليها مشكلات مع الحضور إلى العمل وتسجيل حضورهم يومياً دون أن يكون لديهم شيء لعمله في أثناء دوامهم. ولن تعالج كذلك التشوهات الجوهرية الموجودة في أسواق العمل الخليجية. قالت ناتاليا تاميريزا، رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في الإمارات: "ندعو لإجراء إصلاحات هيكلية. ولا نرى ذلك يحدث حتى الآن".
والخطوة الثانية قد تكون بالاستغناء عن العمالة الأجنبية
يرفض الكثير من الخريجين، على نحوٍ مريح، العروض من الشركات الخاصة وينتظرون وظيفةً حكومية. فالراتب أعلى، وساعات الدوام أقل، والعُطلات أطول، والبدلات أو المكافآت جزيلة.
ويتذكَّر وليد السعيد، وهو مستشار في الكويت ترأس من قبلُ إحدى الإدارات الحكومية، إجراء مقابلة مع باحث عن عمل يبلغ 22 عاماً، كان سؤاله الأول هو: "في أي سنٍ يمكنني التقاعد؟".
يقول السعيد إنَّ السلوكيات تتغيَّر تدريجياً. ومع ذلك، فإنَّ معظم وظائف القطاع الخاص الأقل في رواتبها (بالمقارنة مع الوظائف الحكومية) يشغلها الأجانب.
وتحاول الحكومات الخليجية دفع هؤلاء الأجانب إلى المغادرة تدريجياً. فعلى سبيل المثال، أجبرت الحكومة السعودية الشركات على توظيف المزيد من المواطنين، ومنعت العمال الأجانب تماماً في بعض الصناعات، وفرضت ضرائب عليهم وعلى عائلاتهم.
لكنَّ دفع الأجانب إلى الخروج قد يؤدي إلى توظيفٍ أقل فحسب. فالكثير من الشركات قد تُفلِس إذا ما اضطرت إلى توظيف مواطن، برواتب تستطيع منافسة أجور الوظائف الحكومية، خاصة إذا استبدلت كل أجنبي لديها. وتُقدِّر مونيكا مالك أنَّه جرى اقتطاع 466 ألف وظيفة للمغتربين في السعودية العام الماضي (2017)، في المقابل تم توظيف 103 آلاف مواطن سعودي فقط.
ثم استعادة ثقة الاستثمارات الأجنبية لدعم القطاع الخاص
والأكثر من ذلك، أبطأت إجراءات شد الحزام التي تتخذها الحكومات -خصوصاً فيما يتعلَّق بالمشروعات الاستثمارية- خلق الوظائف في القطاعات الخاصة؛ نظراً إلى أن الإنفاق الحكومي يوجه هذه القطاعات إلى حدٍ كبير (دبي استثناء جزئي).
ومن المُفتَرَض أن تُنشِّط التدفقات الأجنبية الركود. ولكن شركة McKinsey & Co، التي ساعدت في صياغة الخطة الاقتصادية السعودية، قدرت أن المملكة ستكون في حاجة إلى نحو 4 تريليونات دولار من الاستثمارات لخلق 6 ملايين وظيفة بحلول عام 2030.
المشكلة أنه وفقاً لتقريرٍ من الأمم المتحدة، تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر في السعودية بأكثر من 80% العام الماضي (2017). وربما ارتدعت الشركات عن الاستثمار؛ بسبب حملة محمد بن سلمان المعلنة على الفساد، والتي أدَّت إلى احتجاز عشرات المسؤولين التنفيذيين والأمراء السعوديين وتجريدهم من أصولهم دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة.
يفكرون، إذن، في توزيع الثروة على المواطنين مباشرة
الأنظمة العربية الخليجية قد تكون بحاجة إلى "السماح للمواطنين بالوصول إلى ثروة البلاد بطرق أخرى غير الوظائف"، حسبما يرى نادر قباني، مدير الأبحاث بمركز بروكنغز الدوحة في قطر.
ويستشهد قباني بولاية ألاسكا الأميركية الغنية بالنفط، حيث يُوزع صندوق تابع للولاية أرباح النفط فيما بين السكان.
وأسست الولاية ما يُعرف بصندوق ألاسكا الدائم (APF)، لاستثمار جزء من عائدات الولاية النفطية، ثم قررت حكومة الولاية توزيع جزء من العائدات من هذا الصندوق على شكل أرباح سنوية على المواطنين بلا أي استثناء ومن دون شروط، إلا أن يكون المرء حاملاً للجنسية الأميركية ومقيماً بالولاية، وعلى أن يتقدم بطلب، ليولد ما يُعرف بـ"نموذج ألاسكا".
ويستمر مؤشر APF في الارتفاع مع وجود ودائع سنوية من عائدات النفط، كما أنه يرتفع وينخفض مع الأسواق المالية.
ووصلت توزيعات الأرباح في عام 2008 إلى 3269 دولاراً للفرد، بالإضافة إلى ملحق تكميلي بـ"1200 دولار"، أي 16 ألفاً و345 دولاراً لعائلة مكونة من 5 أفراد، وبعد الانهيار المالي في العام ذاته، انخفض عائد الأرباح ليصل إلى 878 دولاراً سنوياً في عام 2012، ثم عاد للارتفاع، ففي النهاية تتوقف التوزيعات على الأرباح.
والكويت الأكثر ديمقراطية قد تكون المرشحة لهذا النموذج
وكسبت مقترحات الحصول على "دخل أساسي شامل" من موارد الدولة أرضيةً حتى في بلدان مثل إيطاليا، التي لا تمتلك ثروات طاقة لتمويل مثل هذا الدخل.
ويقول قباني إنَّه في الخليج، ستكون الكويت -الأكثر ديمقراطية بين ممالك الخليج وبها برلمان مُنتَخب- هي المكان الأفضل للبداية. ويضيف: "المشكلة هي أنَّ مثل هذه المحادثة لا تحدث".
أما الكويتي خليفة حمادة، فيصف الوضع قائلاً إن هناك "بالوناً" أو فقاعة في التوظيف العام؛ إذ يقول: "كان لدى وزارة المالية الكويتية نحو 700 موظف حين التحق بها في عام 1987. أمَّا الآن، فهناك 3500 موظف، لكنَّ عبء العمل لم يزد بنسبة 10% حتى!".