انتشرت على نطاق واسع يوم 8 يونيو/حزيران 2018 صورة لشاب فلسطيني والدخان يخرج من فمه وأنفه وأذنيه، بعد أن استقرت قنبلة غاز مسيل للدموع أطلقها الجيش الإسرائيلي، في وجهه، خلال احتجاجات "مسيرات العودة" على الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة.
الشاب الفلسطيني هيثم أبو سبلة (24 عاماً)، يتمنى لو أنّه يفقد الذاكرة مؤقتاً لينسى تلك اللحظة التي أصيب فيها وجهه بقنبلة غاز مُدمع، أطلقتها قوات الجيش الإسرائيلي خلال قمعها لتظاهرة سلمية شرقي مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، الجمعة الماضية.
وتكتظ ذاكرة أبو سبلة بالكثير من المشاهد المؤلمة التي مرّ بها منذ لحظة اختراق تلك القنبلة لوجهه من الناحية اليُسرى.
مشاهد "تدمي القلوب"
وفي أحد المشاهد كان دخان الغاز المسيل للدموع والحارق، الذي تقول مؤسسات حقوقية أوروبية ووزارة الصحة الفلسطينية بغزة إنه "محرّم دولياً"، يخرج من فمه وأنفه وأذنيه؛ ويكاد رأسه ينفجر من حدّة الأوجاع التي تعرّض لها ذلك اليوم.
ومنذ لحظة إصابته وحتّى صباح الإثنين الماضي، مكث أبو سبلة داخل غرفة العناية الفائقة لخطورة وضعه الصحي، حيث أصيب بكسر في فكّه كما فقد أجزاءً منه، إلى جانب فقدانه لجميع أسنانه، وفقدانه القدرة على التنفّس من خلال الأنف.
وخضع أبو سبلة لعملية واحدة تمّ خلالها إزالة القنبلة التي استقّرت في وجهه؛ وبلغ طولها 8 سم أما قطرها فقد وصل إلى 5 سم؛ كما قالت تهاني أبو سبلة، شقيقة والده لمراسلة الأناضول.
ويفقد اليوم أبو سبلة القدرة على الكلام بشكل واضح بسبب الكسور التي أصابت فكّه ومنطقة "الصدغ" وفقدانه لأسنانه.
ويناشد الشاب الفلسطيني من أجل الحصول على تصريح بالسفر من أجل العلاج في أي دولة عربية أو غير عربية، فعودته إلى حالته الطبيعية تحتاج إلى عمليات جراحية تخصصية غير متوفرة في قطاع غزة.
وتنهمر دموع عمّته "تهاني" كلّما شاهدت مقاطع الفيديو والصور التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، لابن شقيقها لحظة إصابته بقنبلة الغاز في وجهه. وتقول إنه رغم تحسّن حالته الصحية إلا أن "مشاهد الفيديو تُدمي القلوب وتعتصرها ألماً". وتوضح أن العقل البشري يعجز عن تخيل حجم الآلام التي عاناها هيثم.
وتستنكر ما وصفته بـ"الوحشية الاسرائيلية" بحق المتظاهرين الذين خرجوا قرب حدود غزة بشكل سلمي للمطالبة بالعودة إلى أراضيهم التي هجّروا منها عام 1948؛ وللمطالبة بكسر الحصار عن القطاع.
علاجه يفوق قدرة مستشفيات غزة
فيما تسببت تلك الوحشية بحرمان الشاب أبو سبلة من فرحة قدوم عيد الفطر، فهو لن يتمكن من ترديد تكبيرات العيد مع أصدقائه وجيرانه، ولن يزور شقيقته لتهنئتها بقدوم العيد في أول أيامه، كما أنّ بيوت أقاربه سيفتقدون زيارته لهم.
من جانب آخر، يقول أشرف القدرة، المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، إن الشاب أبو سبلة يحتاج لتدخلات علاجية وجراحية أعلى مما هو متوفر في مستشفيات القطاع. وأضاف القدرة للأناضول: "هو بحاجة للخروج بشكل عاجل من أجل إجراء علميات جراحية متخصصة في الفك، والصدغ، وزراعة الأسنان".
كما يحتاج أبو سبلة، وفق القدرة، إلى تأهيل وتدريب على النطق بشكل أمثل ليعود إلى حالته التي كان عليها قبيل الإصابة.
غاز "محرم دوليا"
ومنذ انطلاق فعاليات مسيرة العودة وكسر الحصار، في 30 مارس/آذار الماضي، استخدم الجيش الإسرائيلي بشكل مفرط قنابل الغاز المدمع، بحسب القدرة.
لكن الأعراض الصحية التي تصيب الجرحى، بفعل استنشاقهم للغازات، لم تكن مألوفةً هذه المرة لدى الطواقم الطبية في قطاع غزة. ويذكر القدرة أن "الغاز المستخدم في تلك القنابل يخضع لمعايير الأسلحة المحرمة دولياً، نظراً لخطورة الأعراض التي يسببها".
ويوضح أن أنواع الغازات التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي في تركيبة تلك القنابل تنقسم إلى ثلاثة أنواع: الأول يتسبب بحدوث "تشنجات وتسارع في دقات القلب وسعال شديد وعدم القدرة على الحركة"، بينما النوع الثاني يؤدي إلى "هيجان في منطقة سطح الجلد ما يتسبب بحكة مؤلمة للمصاب".
فيما يؤثر النوع الثالث من الغازات على ضغط العين بشكل مباشر؛ وهو النوع الذي يطلق عليه اسم "الغاز الحارق"، على حدّ قول القدرة.
والإصابة بقنابل الغاز لا تقتصر فقط على الحالات الثلاث التي ذكرها المتحدث باسم وزارة الصحة بغزة، فبعيداً عن الغاز المستخدم بتلك القنابل فإنها تتسبب بإحداث إصابات جسدية مباشرة للمتظاهرين.
وتسببت تلك القنابل باستشهاد شاب فلسطيني جراء اختراق إحداها لرأسه واستقرارها فيه. فيما أصيب عدد كبير من الفلسطينيين بإصابات جسدية مختلفة جراء اختراق تلك القنابل لأجسادهم.
وطالب القدرة المجتمع الدولي بـ"القيام بمسؤولياته الكاملة لحماية المواطنين بغزة"، داعياً المنظمات الدولية لـ"الكشف عن الغازات المستخدمة كي يتسنى للطواقم الطبية مداواة المصابين".
وتنقسم قنابل الغاز بهيكلها الخارجي إلى ثلاثة أنواع أيضاً، فالنوع الأول يتم إطلاقه بشكل يدويّ من قوات الجيش الإسرائيلي وتشتعل هذه القنابل بعد مدة تصل إلى 3 ثوانٍ من إطلاقها، وفق مصدر أمني رفض الكشف عن اسمه لوكالة الأناضول، لأنه غير مخول للحديث عبر وسائل الإعلام.
وتتميز تلك القنابل بهيكلها المطاطي، وقد تسبب إصابات طفيفة جداً في حال سقطت على رأس أحد المتظاهرين، لأن فوهة القنبلة تحتوي على قطعة حديدية صغيرة. وغالباً ما يتم إطلاق ذات النوع من القنابل عبر الطائرات الإسرائيلية المسيّرة عن بعد، على رؤوس المتظاهرين.
وأما النوع الثاني، بحسب المصدر، فهو القنابل التي يتم إطلاقها عبر راجمات (مدفعيات صغيرة) تثبّت داخل المركبات العسكرية الإسرائيلية؛ والتي تشتعل فور خروجها من الراجمة.
وتطلق الراجمة الواحدة نحو (50) قنبلة دفعة واحدة وبشكل عشوائي باتجاه المدنيين المتظاهرين، فيما يصل مداها إلى مسافة تتراوح بين 50-70 متراً. وما يميز هيكل تلك القنابل بأنها حديدية حجمها صغير وتأخذ الشكل الأسطواني.
وعن النوع الثالث، يقول المصدر إنه يطلق عبر بندقية يحملها الجندي الإسرائيلي، تتسع البندقية الواحدة لنحو ثماني قنابل؛ جسمها حديدي أسطواني، وأحد أطرافها مغلّف بالبلاستيك يأخذ الشكل المخروطي غير المدبب.
قنابل غاز أخطر من الرصاص الحي
تطلق تلك القنابل بقوة دفع كبيرة جداً حيث يصل مداها إلى مسافة تتراوح بين 500-600 متر. ونظراً لتواجد المتظاهرين الفلسطينيين في مسافة أقل من مدى تلك القنابل، تتسبب بإحداث إصابات مباشرة في أجساد الثوّار إلى جانب إصابتهم بالغاز المنبعث منها.
ويستخدم الجيش الإسرائيلي تلك القنابل، التي يصفها المصدر بـ"الخطيرة"، بشكل كبير وموجهة مباشرة باتجاه المتظاهرين، لأنها تحتوي على كميات كبيرة من الغاز تقدّر بأضعاف تلك الكميات الموجودة في القنابل التي يتم إطلاقها عبر "الراجمات".
وتثير هذه القنابل تخوفات المتظاهرين بسبب قدرتها على إحداث أضرار كبيرة في الجسد كما الرصاص الحي وربما أخطر.
ويتجمهر آلاف الفلسطينيين، في عدة مواقع قرب السياج الفاصل بين القطاع وإسرائيل، في إطار مسيرات "العودة" للمطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها عام 1948.
ويقمع الجيش الإسرائيلي تلك الفعاليات السلمية بالقوة، ما أسفر عن استشهاد 128 فلسطينياً وإصابة أكثر من 14 ألفاً و700 آخرين، بحسب وزارة الصحة. ووفق الوزارة، فإنه من بين إجمالي الإصابات حوالي 6537 إصابة بسبب قنابل الغاز دون تفصيل عدد إصابات الاختناق، والإصابات المباشرة.