عندما نجحت مصر العام الماضي في إقناع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض الدعم الاقتصادي، اضطرَّت لتخفيض عملتها الوطنية بنحو نصف قيمتها، وقلّلت من الدعم الحكومي للسلع، في نتائج معروفة مسبقاً بحكم تجارب الصندوق وقروضه في أنحاء العالم.
تاريخ الدول النامية مع الصندوق العالمي يدفع الكثيرين في مصر إلى الخوف. فما من دولة استسلمت لبرنامج الصندوق، إلا وطالها أذى ما في بنية اقتصادها، وقليلة هي الدول التي نجت من تبعات السياسة الاقتصادية العالمية.
الصندوق الذي تأسَّس في العام 1944 بعد الحرب العالمية الثانية لإصلاح المسار الاقتصادي العالمي، وتجنب إخفاقات الرأسمالية العالمية في تجنب الحروب تقوم فلسفته على إلغاء الدعم الحكومي، كما أنه يضع شروطاً صعبة للموافقة على القروض. وقد بدأت مصر في تنفيذ الشروط قبل الحصول على أول دفعة من القرض.
ولعلَّ قراءة كتاب قديم نسبياً تسهم الآن في فهم ما يحدث على الأرض في مصر، وعدد من دول العالم الثالث، التي تضطر للاقتراض من المؤسسة الدولية، وفي القواعد التي تتكرّر في أعقاب هذه القروض.
العثور على قواعد لعبة الفقر
الكتاب هو "عولمة الفقر"، الذي ظهر بلغته الإنكليزية في العام 1997، وصدرت ترجمته في القاهرة في العام 2012، وهو للباحث الاقتصادي ميشيل تشوسودوفيسكي، الذي يعمل أستاذاً للاقتصاد بجامعة أوتاوا بكندا، وله العديد من المؤلفات التي تعالج معضلة العولمة، منها "حرب أميركا على الإرهاب"، و"عولمة الحرب: حرب أميركا الطويلة ضد البشرية" ومؤلفاتٍ أخرى مهمة ، إلا أن كتابه "عولمة الفقر" كان له صدى كبير وواسع بين أوساط المهتمين بالشأن الاقتصادي في العالم كله.
يتكون الكتاب من 5 أجزاء، تدور حول طبيعة المؤسسات المالية العالمية ودورها وسيطرتها على الاقتصاد الدولي، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكيف لعبت سياساتها الاقتصادية دوراً خطيراً في جعل اقتصاديات الدول تتبع سياسات "إصلاحية"، لكنها في الحقيقة سياسات تقود إلى تدمير الاقتصاد في تلك الدول.
يقدم الكتاب تأصيلاً تاريخياً ومعرفياً لسيطرة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي، من خلال سياسة التقويض الكلي للاقتصاد، عن طريق ما عُرف باسم التكييف الهيكلي، وهي سياسة إصلاحية يفرضها صندوق النقد الدولي على كل الدول التي ترغب في الاقتراض من الصندوق، وتقوم على إحداث تغيير جذري في منهجية الدولة السياسية والاقتصادية، مما يضمن عدم تدخل الدولة في حركة السوق، حتى يتحول الاقتصاد بالكامل إلى "اقتصاد السوق الحر".
وترجع أصول تلك السياسة الإصلاحية إلى ميلتون فريدمان، وهو أول من أسس لنشر الفكر الرأسمالي في العالم بقوة السياسة والصدمة. وتضمن كل جزءٍ من الكتاب قارة على الخريطة، موضحاً أبرز تجارب دول تلك القارة مع الأمر.
القاعدة الأولى: دعم الحلفاء وقصم ظهور الأعداء
"ويطبق المذهب النقدي على نطاق عالمي، وتضرب عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية العالمية أيضاً قلب البلدان الغنية، والنتائج هي البطالة وانخفاض الأجور وتهميش قطاعات واسعة من السكان، وتقييد المصروفات الاجتماعية، ويلغي كثيراً من إنجازات دول الرعاية".
يخبرنا ميشيل في ذلك الجزء من الكتاب أن الأمر لم يكن متعلقاً بالبلدان النامية والفقيرة وحسب، حتى تصبح أكثر فقراً، بل يرتبط أيضاً بالدول الغنية من أجل ما سمَّاه الجيوبوليتيكا العالمية، وهو ما يعني باختصار دعم المصالح الجيوسياسية العالمية، أو دعم الدول الحلفاء اقتصادياً وقصم ظهر الخصوم.
القاعدة الثانية: تقشف ثم تحرير العملة ثم فرض الوصاية
"تطبق الوصفة نفسها، التقشف في الميزانية وتخفيض سعر العملة وتحرير التجارة والخصخصة في ذات الوقت في أكثر من 100 من البلدان المَدِينة. وتفقد الدول المدينة السيادة الاقتصادية، والسيطرة على السياسات المالية والنقدية، ويعاد تنظيم البنك المركزي ووزارة المالية (وغالباً بتواطؤ البيروقراطيات المحلية) وتفكك مؤسسات الدولة وتفرض وصاية اقتصادية".
تلك هي الوصفة التي يقدمها دائماً صندوق النقد الدولي للبلدان المدينة، بحسب ميشيل، حتى تقع في النهاية فريسة الوصاية الاقتصادية. فبعد الوقوع في فخ الديون المتراكمة وضعف العملة، لن يكون هناك خيار أمام تلك الدول سوى الاقتراض من إحدى المنظمات العالمية، التي دائماً ما تعلن في أجندة سياساتها أنها لن تُقرض سوى الدول المستقرة اقتصادياً إلى حد ما، أو التي يؤمل منها أن تكون كذلك.
ثم تأتي الخطوة التالية وهي فرض سياسات معينة من قِبل صندوق النقد على تلك الدول، تحت مسمَّى "ضمان حقوق صندوق النقد في استرداد أمواله" ليدخل مشروع عولمة الفقر حيز التنفيذ الفعلي.
كلام الباحث المرموق يذكر ربما بما باح به قرصان اقتصادي معروف هو جون بركنز، الذي حكى عن تجاربه في الإيقاع بالدول المدينة اقتصادياً في كتاب شهير بعنوان "مذكرات قرصان اقتصادي"، ويحكي فيه الرجل تجربته مع هذه الوظيفة التي تكشف مدى تغلغل الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية العالمية، وكيف تستغلها لبسط نفوذها عالمياً عبر ما يسمى بسياسة الاحتواء الاقتصادي التي تقوم على استخدام المؤسسات الدولية مثل "البنك الدولي"، في تقديم مساعدات وقروض إعمار لدول العالم الثالث، مقابل قيام الشركات الأميركية بتنفيذ المشروعات الإعمارية في الدولة المَدينة، مثل محطات الطاقة والمطارات.
وفي الوقت الذي تستدين هذه الدول من البنك الدولي تكون فوائد القروض أكبر من قدرة هذه الدول على السداد، ومن ثم تتراكم فوائد القروض وتعجز هذه الدول عن السداد.
هنا تتدخل الولايات المتحدة "لمساعدة" هذه الدول مقابل إنشاء قواعد عسكرية أميركية على أراضي هذه الدولة، أو تمرير قرارات معينة في مجلس الأمن أو القيام بإصلاحات اقتصادية داخلية معينة مثل خصخصة القطاع العام، وفرض الضرائب.
كما يحكي الكتاب كيف تواطأت البيروقراطيات المحلية مع السياسة الأميركية في عدد كبير من الدول لتمرير مثل هذه الاتفاقيات. وبحسب بيركنز فإن أي سياسي في أي دولة يعارض هذه السياسات العالمية غالباً ما يتعرض للاغتيال.
القاعدة الثالثة: الوصفة تحتاج إلى حكومة عسكرية لتنفيذها
في كتابه يضع ميشيل قائمة ببعض الدول التي سقطت ضحية تلك السياسات، والتي على حد وصفه تحتاج إلى حكومة عسكرية وديمقراطية زائفة لتنفيذ تلك السياسات، مثل كاراكاس 1989، وتونس في يناير/تشرين الثاني 1984، ونيجيريا 1989، والمغرب 1990، والمكسيك 1993، والاتحاد الروسي 1993 وغيرها من الدول.
يؤكد ميشيل، المعروف بمعارضته للسياسات الأميركية ومهاجمته لها في موقعه الإلكتروني وفي كتاباته ومؤلفاته، أن سياسة التكييف الهيكلي عملت على تركيز الثروة في يد مجموعة من البشر حتى في الدول النامية أو دول العالم الثالث، فبحسب إحصائية يذكرها في كتابه، أكد على أن 60% من الدخل القومي في البلدان النامية تتركز في أيدي الـ20% من السكان، في حين أن 70% من سكان تلك الدول يحصلون على ما يتراوح بين 10% و20% من الدخل القومي.
يتطرق الكتاب أيضاً إلى الأزمة الصومالية التي بدأت منذ حقبة الثمانينات من القرن الماضي، واستمرت حتى اليوم، فهو يطرح بشكلٍ مفصل كيف قوضت الإصلاحات الاقتصادية الوضع في الصومال، وأدت إلى فشل علاقات التبادل بين الرعاة وصغار المزارعين، ثم فُرضت سياسات تقشفية شديدة للغاية على الحكومة، لتوفير الأموال لخدمة الديون الخارجية المملوكة للمؤسسات الأميركية.
القاعدة الرابعة: سحق الفقراء ينتهي بمجاعة حقيقية
يتطرق الكتاب في جزئه الثالث إلى تجربة صندوق النقد في جنوب آسيا وجنوبها الشرقي، بادئاً بالهند، وكيف أن وزير المالية في الهند في عام 1818 كان يقدم تقاريره مباشرةً إلى البنك الدولي، متجاوزاً البرلمان والحكومة، فيما عرف وقتها بفترة الحكم غير المباشر لصندوق النقد في الهند، وكيف سحقت تلك السياسات المزارعين وطبقات الفقراء، التي بلغ تعدادها ما يقارب 400 مليون نسمة.
ثم ينتقل في الفصل التالي إلى بنغلاديش والانقلاب العسكري على الرئيس مجيب الرحمن في عام 1975، بمعاونة من المخابرات المركزية الأميركية في سفارة الولايات المتحدة في دكا. وقد كان ذلك الانقلاب ضرورياً لتجربة الدواء الاقتصادي لصندوق النقد الدولي، من خلال تخفيض سعر العملة وتحرير الأسعار، وهو ما أدى إلى تفاقم أزمة المجاعة واندلاع أزمة الديون في حقبة الثمانينات.
وفي أعقاب الإطاحة بالشيخ مجيب واغتياله، كانت المساعدة العسكرية الأميركية المستمرة لبنغلاديش مشروطةً بالتزام البلاد بوصفات صندوق النقد الدولي السياسية.
القاعدة الأخيرة: صناعة الفوضى ثم علاجها بالصدمات
في الجزء الرابع من الكتاب يُسلّط ميشيل الضوءَ على تجارب صندوق النقد في دول أميركا اللاتينية، واختصَّ الفصل العاشر بالحديث عن دولة بيرو، وكيف قامت تجربة صندوق النقد على منهجية العلاج بالصدمة، وهي واحدة من أخطر السياسات المُطبقة في العالم، حيث إنها تنبع من فكر ميلتون فريدمان الاقتصادي الأميركي، وتقوم على إحداث كارثة كبيرة في دولة، كانقلاب عسكري، أو مجموعة حوادث إرهابية… إلخ، وهو ما يسبق اتخاذ إجراءتٍ استثنائية من قبل النظام الحاكم للسيطرة على الأمور وفرض قرارات اقتصادية قاسية جداً، (لكنه في الحقيقة لن يكون هناك ثمة مقاومة فتوابع الصدمة والخوف قد غلفت المشهد بالكامل) وهو ما يتشابه مع ما قام به الرئيس ألبرتو فوجيموري، فيما عُرف تاريخياً بـِ صدمة فوجي. وقد استطردت الصحفية والسياسية الأميركية نعومي كلاين، في كتابها "عقيدة الصدمة" في الحديث عن هذا الأمر.
وفي الجزء الخامس من الكتاب، يتحدّث ميشيل عن سياسات العلاج بالصدمة في الاتحاد السوفييتي والبلقان، بدايةً من العام 1992. ستعرف في هذا الجزء كيف جرى تدمير 50% من الاقتصاد الروسي الحكومي بالتعاون مع المافيا الداخلية، وهو ما شكل بدايات الانهيار الكبير.
بعدما تنتهي من قراءة سطور ميشيل، ربما ستدرك ما يتحدث عنه قبل أن يخبرك به، لكن الحقيقة هي أنك ستفاجأ أن العالم ليس كما كنت تظنه من قبل.