رأى المعارض الماليزي البارز أنور إبراهيم كل شيء تقريباً في حياته، فقد رأى السجن والمحاكمات وقاعات المحاكم، ورأى مكتب أعلى منصب حكومي في بلاده، ورأى المعارضة من المنفى.
وفي الأسبوع الماضي رأى الحرية، بعد خروجه من سجن قضى فيه عقوبة ثانية لاتهامه بممارسة اللواط -وهي الاتهامات التي تأكد أنَّها كانت ملفقةً وذات دوافع سياسية- ورأى الحرية في ثوبٍ جديد تماماً.
وقال أنور "إنَّني أتحدث دائماً عن الديمقراطية، والحرية، والأفكار الليبرالية، ولكن يوجد اختلاف عندما تتذوقها: إنَّك تُقدِّر الأفكار بدرجةٍ أكبر. وعندما تُحرَم منها، تصبح الحرية تعذيباً وكذلك سبباً للبقاء على قيد الحياة"، وفقاً لما ذكرته صحيفة The Guardian البريطانية، السبت 19 مايو/أيار 2018.
وعندما تحدث أنور (70 عاماً) إلى صحيفة The Observer حصرياً من منزله بكوالالمبور، بدا نائب رئيس الوزراء السابق الذي طالما كان وجه الإصلاح والأمل في ماليزيا، هادئاً وصافياً.
ويشهد أنور الآن نجاحاً لا يقتصر فقط على حريته التي حصل عليها مؤخراً بعد صدور عفوٍ ملكي لـ"إساءة تطبيق العدالة"، بل لأنَّ هذه هي المرة الأولى في حياته التي تتبنى فيها ماليزيا خططه الإصلاحية.
ففي انتخاباتٍ شهدت مزيجاً مثيراً من الخيانة، ومزاعم الفساد، وخلع نظامٍ استبدادي، أعادت ماليزيا اكتشاف نفسها بفوز أول حكومة معارضة منذ استقلالها في عام 1957.
وكان هذا أكثر استثنائيةً لأنَّ المعارضة قادها مهاتير محمد (92 عاماً)، والذي شغل منصب رئيس الوزراء لأطول فترة في تاريخ ماليزيا، امتدت بين عامي 1981 و2003، وكان في هذه الفترة رئيس حزب المنظمة الوطنية لاتحاد الملايو، وهو جزء من ائتلاف الجبهة الوطنية الحاكم، وكان أنور الفتى الذهبي له وولي عهده، وهو الإصلاحي الذي يتمتع بكاريزما خاصة ويؤيد نموذجاً تعددياً ديمقراطياً من الإسلام.
عداوة أوصلت أنور للسجن
لكن ذلك كله تغيير في عام 1998 عندما تجرأ أنور لمعارضة مهاتير بشأن نزعته نحو مكافأة أصدقائه بالحصول على عقودٍ حكومية ضخمة، مما أدى إلى مزاعم بوجود محسوبية في حكمه. وإثر ذلك أُقيلَ أنور من منصبه، ثم وجد نفسه بفضل مهاتير في محاكمة لاتهامه بممارسة اللواط.
وكانت المحاكمة ممارسةً من الإذلال؛ إذ أُحضِرَت صحائف ملطخة بالمني، وشهودٌ من الرجال (اعترفوا لاحقاً أنَّهم تعرضوا للضغط لقول هذه الاعترافات) اتهموه بإجبارهم على ممارساتٍ جنسية. وأُدين أنور، الذي كانت لديه عائلة صغيرة آنذاك، وعوقب بالسجن لـ15 عاماً.
وقضى ست سنوات في السجن في الحبس الانفرادي، وحُرم من الاتصال بعائلته، قبل أن يُطلَق سراحه عام 2004.
وانضم أنور إلى المعارضة، وشكل حزبه الخاص وهو "حزب عدالة الشعب"، وعندما سُمِحَ له في نهاية المطاف بالعودة إلى السياسة، خاض انتخابات 2013 ضد الائتلاف الحاكم الذي قاده آنذاك نجيب رزاق.
وفاز نجيب بهذه الانتخابات، ويقول أنور في حديثه عنه: "لم أؤيد (نجيب) على الإطلاق، وكانت لدي آراء قوية ضده وأخذها بصورةٍ شخصيةٍ جداً آنذاك، ولهذا السبب أراد أن يقضي علي".
وباستخدام القضاء، ضمن نجيب محاكمة أنور مرةً ثانية بتهمة اللواط. وفي العام 2015، أُدخِلَ أنور السجن مرةً أخرى. وقال إنَّه لم يكن سهلاً أن يكون في السجن ويعرف أنَّه "إذا كانت انتخابات 2013 حرة ونزيهة، كنا سنفوز ولم أكن سأُسجَن".
ألم يكن ممتلئاً بالغضب من النظام؟
أنور قائلاً: "أجل، ولكن بعد أن تكون قد جربت السجن لفترةٍ طويلة، بعد أعوامٍ طويلة، لا تشعر حقاً بتلك المرارة. إنَّني لا أتظاهر بأنَّني هذا الشخص الرحيم الإنساني العظيم، ولكن صدقاً لم أشعر بالمرارة. ففي النهاية تتفلسف وتقبل الدراما التي تتكشف فصولها وحسب".
وحصلت مصالحة كانت مفاجئة للغاية بين أنور ومهاتير محمد، وأفضت بالنهاية إلى إخراج نجيب من السلطة، وقد دخل الرجلان في حرب وتبادلا تصريحات مسيئة ضد بعضهما البعض قبل أن يخسر أنور منصبه.
وتشير الصحيفة البريطانية إلى أنه عندما طُرد أنور من منصب نائب رئيس الوزراء في 1998، قيل له إنَّ عليه الخروج من المقر الرسمي فوراً. وعندما طلب أياماً قليلة لأنَّه كان لديه أطفال، أمر مهاتير بقطع المياه والكهرباء.
وأثناء وقوفه خارج المحكمة بعد اتهامه باللواط في عام 1999، وصف أنور غريمه آنذاك مهاتير قائلاً إنَّه "جبان ولن يتحمل مسؤولية شروره.. إنَّ شهوة مهاتير للحصول على السلطة لا تُشبَع".
وفي المقابل، عندما كان أنور في السجن، حرص مهاتير على أن تُرفَض طلبات الزيارة المُقدمة من عائلته الصغيرة. وحتى بعد أن خرج أنور في 2004، واصل مهاتير خطابه المهين العنيف. إذ قال في عام 2005: "تخيلوا أن يكون لدينا رئيس وزراء مثليّ. لن يكون أي شخصٍ آمناً". وحاول أنور مقاضاة مهاتير على التشهير به، لكنَّه فشل في ذلك.
لقاء الأعداء
وقال أنور إنَّه كان مرتاباً جداً عندما طلب مهاتير زيارته في السجن خلال شهر يناير/كانون الثاني أملاً في المصالحة والشراكة.
وأضاف: "لقد كان صعباً جداً بالنسبة إلي، وقلتُ على الفور لمهاتير: 'لماذا سأريد أن يربطني أي شيء بك بعد ذلك؟ سأسامحك، ولكن وداعاً. هذا هو كل شيء'. ولكن بعد أن تحدثنا، وحسب معرفتي بالرجل -الذي تملؤه الثقة في النفس، والانغماس في الملذات أحياناً- أن يأتي فجأة كي يراني، في السجن، وأنا عدوه، كانت هذه إشارة على أنَّه يائس حقاً أو أنَّه فعلاً نضج قليلاً. وذلك تحديداً هو ما حدث".
لكنَّ أطفاله، الذين فقدوا صحبة أبيهم في أغلب فترات طفولتهم، لم يكونوا متقبلين كثيراً للمصالحة (أصبحت نور العزة، ابنة أنور، سياسية بارزة في المعارضة بصفتها الشخصية). وقال أنور: "أطفالي رفضوا المشاركة، وكانوا يبكون وحدهم. لم يستوعبوا لماذا يمكن أن أقابل هذا الرجل الذي جعل حياتهم جحيماً. لم يتفقوا معي وأخبروني أنَّه لا يجب علي أن أعقد صفقةً مع مهاتير، وقالوا لي: 'أنت عانيت، وكلنا عانينا، بسببه'".
وأضاف: "لكنِّي أخبرتهم: "ماذا تفعلون عندما يأتي إليكم عدوٌ ويقول: لنكن أصدقاء، ولننسَ الماضي؟ من الصعب جداً أن تقولوا لا".
ومع ذلك، مازال مهاتير عاجزاً عن الاعتذار عمَّا وضع فيه أسرة أنور، بالرغم من قوله إنَّه ما كان ينبغي له أن يصرف أنور، وكونها: "تأتي من مهاتير، فهي جيدة بما يكفي بالنسبة إلي"، حسبما قال أنور.
ماليزيا تتغير
وحتى في السجن، بدأ أنور يدرك أنَّ الرياح في ماليزيا كانت تأتي في صالح المعارضة خلال الانتخابات: إذ إنَّ حراس السجن وأطباءه الذين كانوا عدوانيين من قبل بدأوا في التودد إليه، ومرروا الهواتف إليه، وجاءوا في نهاية المطاف ليهمسوا إليه بأنَّهم صوَّتوا لصالح المعارضة.
على الرغم من أنَّ أنور سوف يترشح في الانتخابات البرلمانية خلال الأشهر القليلة القادمة، فلن يعمل في حكومة مهاتير، فضلاً عن أنَّ هناك شعوراً بأنه يريد أن ينأى بنفسه بعيداً عن الحكومة إذا أثبتت عدم وفائها بجميع وعود الإصلاح التي قطعتها.
أما زوجته، وان عزيزة، التي تشغل الآن منصب نائب رئيس الوزراء، فإنَّها تراقب هي الأخرى مهاتير.
غير أنَّه لم يفقد رغبته في أن يصير رئيساً للوزراء، إذ يوجه بصره على المنصب خلال عامين. ففي النهاية، حسبما يقول بنفسه، دفع وعائلته: "ثمناً باهظاً، وربما ثمناً باهظاً للغاية" بسبب معتقداته الإصلاحية، وهو يريد أن يضعها أخيراً في موضع التنفيذ.
إلا أنَّه في غضون ذلك، يبدو أنَّ أنور لديه إيمانٌ راسخ بأنَّ مهاتير يقف كلياً خلف الأجندة الإصلاحية للمعارضة، ولا تنتابه شكوك بشأن تسليمه السلطة بعد عامين؛ وهي ثقة ربما ساعدت في ترسيخها الحقيقة التي تفيد بأنَّه برغم الصحة الجيدة التي يبدو عليها مهاتير، فعمره يقترب من الخامسة والتسعين. ويقول أنور إنَّ لقاءاتهم شهدت فعلياً "عودةً إلى الطرق القديمة"، ويمكنهما الآن أن يتمازحا بشأن خصامهما المستمر منذ 20 عاماً.
وإضافةً إلى ذلك فلدى الرجلين عزم مشترك لملاحقة نجيب للفساد الذي اتُّهِمَ بارتكابه أثناء وجوده في منصبه وذلك يشكل أيضاً عاملاً مُوحِّداً لجهودهما.
إزاحة نجيب
وتُجرَى في الوقت الحالي تحقيقاتٌ في فضيحة صندوق 1MDB، التي اختُلِسَ فيها تحت حكم نجيب أكثر من 4 مليارات دولارات من صندوقٍ حكومي، بما في ذلك مبلغ مزعوم بحوالي 681 مليون دولار وصل إلى الحساب البنكي الشخصي لنجيب، فيما تشهد ماليزيا الآن مداهماتٍ على الممتلكات الخاصة به، التي ضمت 284 حقيبة هيرمس و72 حقيبة ممتلئة بالأموال، والساعات، والمجوهرات التي صادرتها السلطات، وفقاً لوكالة رويترز.
وبعد كل ما حدث بين أنور ونجيب، فوجئ أيضاً في ليلة الانتخابات عندما أعطاه حارس السجن الهاتف وأخبره أنَّ رئيس الوزراء على الهاتف ولديه طلب: نجيب كان يرفض قبول هزيمته، فهل يستطيع أنور مساعدتهم لإقناعه بالاعتراف؟
وبالرغم من كل تاريخهما، وافق أنور على التحدث إلى نجيب. وعلى الطرف الآخر من المكالمة، وجد رجلاً كان "خائفاً جداً جداً. كان مُحطماً وفي حالة إنكار تام"، حسبما وصفه أنور. وحتى بعد مكالمةٍ ثانية أخبر فيها نجيب بأن يتنازل من أجل الديمقراطية والبلاد، قال إنَّ نجيب، الذي كان محطماً تماماً، لم يزل غير قادر على قبول الهزيمة.
لكن للمفارقة الشديدة، بينما يغادر أنور السجن لتوه، يواجه نجيب على ما يبدو مأزقاً قانونياً خطيراً. فهل لديه أي نصيحة ليوجهها إلى رئيس الوزراء السابق؟ ابتسم أنور ابتسامةً ماكرة، وقال "وَكِّل محاميي دفاع جيدين. وابدِ الندم".