في أول جمعة من شهر رمضان يتزاحم الفلسطينيون القادمون من جميع أنحاء إسرائيل والأراضي الفلسطينية في الحافلات والسيارات، والوجهة القدس لأداء صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى، إذ يكون رمضان فرصة لأغلب الفلسطينيين للدخول إلى المسجد الأقصى على عكس باقي شهور السنة.
وحسب مجلة The Atlantic الأميركية، فإنه في أول جمعة من العطلة، ازدحمت الشوارع التي كانت هادئة في كثيرٍ من الأحيان في تلك المنطقة الإسلامية. وتعالت أصوات أولادٍ صغار يصيحون بسعر الحلويات إلى المارة الصائمين.
وتوضح فاطمة بدر، التي تبلغ من العمر 19 عاماً، وكانت تتجه إلى المسجد بصحبة أمها وامرأتين أخريين: "يمكننا الدخول إلى المسجد الأقصى فقط يوم الجمعة في شهر رمضان الفضيل. لكن في الشهور الأخرى، لا يمكننا الدخول إلى هنا، لذلك فالأمر مؤثر عاطفياً حقاً".
ولم تمنع الأحداث المؤلمة التي شهدها قطاع غزة الإثنين، 14 مايو/أيار، بسبب نقل السفارة الأميركية وذكرى النكبة، التي خلَّفت سقوط أكثر من 60 قتيلاً برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي، من أن تُزين أجزاءٌ من المدينة القديمة في القدس بمناسبة حلول شهر رمضان بفوانيس ورقية صفراء وحمراء وخضراء.
وترى المجلة أنه مع هدوء الاحتجاجات في غزة، على الأقل في الوقت الراهن، ومغادرة طواقم التلفزيون، ستكون هذه هي القصة المستمرة: تصاريح يومية وآراء سياسية، مواسم روحانية وحلويات خاصة، مع تذكير مستمر بالتوترات التي انفجرت هذا الأسبوع، لكنَّها ستهدأ قريباً وتتحول إلى وضعٍ راهنٍ متوتر، قبل أن تنفجر مجدداً.
الكل يستعد للاحتفال في القدس
وفي الوقت الذي استحوذت فيه سحب الغاز المسيل للدموع والأعمدة الشاهقة من الدخان المنبعث من الإطارات المحترقة في غزة على وسائل الإعلام الغربية، فإنَّ القصة الأهدأ بالنسبة للفلسطينيين الآخرين، الذين لم يكونوا جزءاً من الاحتجاجات الضخمة، تحمل نفس الأهمية.
وقالت امرأة تُدعى سارة، وهي فلسطينية أميركية المولد تعيش في القدس مع زوجها سامر: "أنا لا أخرج كثيراً. أبقى بالداخل. ومع ذلك، فإنَّ الوضع السياسي طغى على كل شيء، من المحادثات في الإفطار إلى التجمعات في المسجد الأقصى. لا يمكنك التركيز أثناء الصلاة".
وقال سامر إنَّه متوتر من القدوم إلى المسجد الأقصى والمرور عبر حشود الغاضبين والجنود الإسرائيليين الذين يقفون في تكتلاتٍ عند كل مدخل إلى المسجد. وأضاف: "أنا من الطراز القديم. أريد فقط العيش ورعاية عائلتي وعملي، لدي الكثير من الديون، لكن في أعماقنا لا أحد يشعر بالسعادة".
وتعيش معظم القدس حالياً في وضعٍ احتفالي، إذ يستعد اليهود للاحتفال قريباً بعيد الأسابيع "شافوعوت"، الذي يحيون فيه ذكرى تسلم الشعب اليهودي التوراة من الله على جبل سيناء. ويترقب المسيحيون عيد العنصرة، الذي يعتقدون أنَّ الروح القدس حلَّت فيه على تلاميذ المسيح الأوائل، ويوصف أحياناً في الثقافة المسيحية بعيد ميلاد الكنيسة. وبالنسبة للمسلمين، يمثل شهر رمضان نزول القرآن على النبي محمد عليه الصلاة والسلام.
وقالت فاطمة بدر: "أنتظر أن يأتي هذا اليوم كل عام". تشتري فاطمة وعائلتها عادةً أكواماً من الكعك، وأوضحت أنَّها تحب أداء صلاة التراويح في المسجد الأقصى، قائلةً: "إنَّه الليل والرياح تهب، وكل شيء رائع للغاية. تشعر أنَّك قريب من الله عندما تكون في مكان مقدس مثل هذا".
وعلى الرغم من أنَّ فاطمة من مدينة الخليل، على بعد 20 ميلاً فقط، فإنَّه يتعين عليها الانتظار حتى شهر رمضان لزيارة المسجد الأقصى، إذ لا يستطيع الفلسطينيون الذين يعيشون في الضفة الغربية عادةً الدخول إلى القدس إلا لظروفٍ خاصة، مثل حالة طوارئ طبية.
لكن خلال شهر رمضان، تمنح الحكومة الإسرائيلية على نطاقٍ واسع تصاريح سفر للأشخاص الراغبين في الصلاة أيام الجمعة. وبالنسبة للعديد من الناس، فإنَّ العطلة أكثر من مجرد فرصة للصلاة وشراء الحلويات اللذيذة. إنَّها فرصة نادرة لزيارة العائلة التي تعيش في إسرائيل، والتسوق، والقيام برحلاتٍ لمشاهدة البحر الأبيض المتوسط.
وخلال تجمعات يوم النكبة في رام الله في وقتٍ سابق هذا الأسبوع، شعر بعض الفلسطينيين بالقلق من احتمال حجب إسرائيل لهذه التصاريح بسبب الاحتجاجات في غزة.
وتقول عهد عوض، وهي امرأة تبلغ من العمر 28 عاماً: "أعتقد أنَّ إسرائيل والولايات المتحدة قرَّرتا الإعلان عن فتح السفارة في هذا اليوم، قبل رمضان، لجعل الناس يشعرون بالقلق والتوتر الشديد والتوتر". وقالت الولايات المتحدة إنَّها اختارت التاريخ ليتزامن مع يوم الاستقلال الإسرائيلي.
وأشار صهرها، عمر حماد، إلى أنَّه من غير المرجح أن تقوم إسرائيل بإلغاء التصاريح لأنَّ المسلمين ينفقون الكثير من المال في المتاجر الإسرائيلية خلال شهر رمضان. وردَّت عهد على ذلك قائلةً: "كل شيء ممكن مع قتلة الأطفال هؤلاء"، في إشارةٍ إلى الرضيعة الفلسطينية ليلى الغندور التي ماتت خلال احتجاجات غزة بعد استنشاقها الغاز المسيل للدموع.
بداية مأساوية لشهر رمضان
كل من تحدثتُ معهم تقريباً في رام الله والقدس قالوا إنَّهم كانوا يصلون من أجل الأشخاص الذين لقوا حتفهم وأصيبوا أثناء احتجاجات غزة. وقال حماد: "إنَّها حقاً بداية مأساوية لشهر رمضان". وأضاف حماد: "يجب أن يكون رمضان احتفالاً، شهراً للسلام والطمأنينة لكل المسلمين في جميع أنحاء العالم… استهلال رمضان بهذا الشكل هو أمر مفزع".
رغم غضب العديد من الفلسطينيين بوضوح مما يرون أنَّه سوء استخدام إسرائيلي في استعمال القوة بغزة، كانت القدس والضفة الغربية هادئتين إلى حدٍّ ما هذا الأسبوع. وجذبت الاحتجاجات في رام الله يوم الثلاثاء بضع مئات فقط من الناس، بدا بعضهم سائحين أوروبيين يلوحون تضامناً بالأعلام الفلسطينية.
وشهدت معظم الشركات والمؤسسات العامة، كما هو الحال في مدن وقرى فلسطينية أخرى، حالة إضراب طوال اليوم احتجاجاً في ذكرى النكبة. وشعرت المدينة المغلقة بالراحة، بدلاً من الاستعداد للصراع. وجلس الرجال يتحدثون ويدخنون في زوايا الشوارع، بينما مكث معظم الناس في منازلهم.
غياب المظاهرات في المناطق الأقرب إلى القدس يقوض السردية القائلة إنَّ خطوة دونالد ترمب بنقل السفارة الأميركية كانت السبب الرئيسي وراء الفوضى في غزة. ويبدو أنَّ الظروف المعيشية الأليمة الممتدة منذ فترةٍ طويلة، كنقص المياه النظيفة والكهرباء، والنظام المصرفي غير المستقر، والبطالة الواسعة الانتشار، والقيود المفروضة على الحركة، كانت هي الدافع الرئيسي وراء الاحتجاجات.
شجَّعت حركة حماس بنشاط الناس على التوجه إلى الحدود، بما في ذلك النساء والأطفال. وبدا غضب الناس واضحاً في الأراضي الفلسطينية الأخرى، حيثُ الوضع الاقتصادي أقل سوءاً، ولا توجد سيطرة لحركة حماس التي تعتبرها الولايات المتحدة وآخرون منظمةً إرهابيةً، لكنَّ هذا الغضب لم ينفجر. وكما قالت إحدى الشابات، الثورات في أماكن مثل رام الله تكون دائماً مؤقتة.
انتهى أسبوعٌ مؤلم ومأساوي. لكن على الرغم من الموت والدمار والرمزية الهائلة لنقل السفارة الأميركية إلى القدس، تبقى العديد من الأشياء الأخرى كما هي. بدأ رمضان، وحصل المسلمون الفلسطينيون على تصاريحهم واستقلَّوا حافلاتهم.
وسيتمكّن جميع الفلسطينيين من رام الله والخليل والقدس، لعدة أسابيع قليلة على الأقل، من الصلاة والأكل معاً، والاستمتاع بالصبية الصغار وهم يرشون الماء على وجوههم أثناء خروجهم من المسجد الأقصى.
وسيأتون إلى المسجد الأقصى كل أسبوع إلى أنَّ يصبحوا غير قادرين على القيام بذلك، ويصلَّون ويدعون من أجل تغيير الوضع. وتؤكد سلمى أبو سليم، الطالبة في مدرسةٍ ثانوية من نابلس، أنَّها ستأتي إلى القدس كل يوم جمعة، قائلة: "جئتُ إلى هنا لأقول للرب إنَّنا خائفون".