على أبواب المحلات التجارية في العديد من المدن السعودية عُلِّقت يافطات "للتقبيل"، وبعضها تم إغلاقه فعلاً بشكل نهائي.. وعلى واجهات العمارات انتشرت إعلانات عن شقق للإيجار، وإلى جانب حاويات القمامة كانت هناك العديد من قِطع الأثاث المقلوبة. فشل أصحابها في بيعها فاضطروا إلى التخلص منها؛ لسفرهم النهائي وتسليم مفتاح الشقة قبل المغادرة.
آلاف العائلات المقيمة في السعودية شرعت مع بداية شهر رمضان، الذي تزامن مع نهاية العام الدراسي في المدارس والجامعات، في المغادرة نهائياً؛ تفادياً لضريبة التابعين -أي الزوجة والأولاد- التي تبلغ 200 ريال شهرياً عن كل فرد في العائلة وستتضاعف في العام الذي يليه والذي بعده.
وبحسب إحصاءات المديرية العامة للجوازات السعودية، فإن 811 ألفاً غادروا نهائياً خلال الأشهر الـ18 الماضية، بمعدل 1500 مقيم يومياً، في حين غادر 270 ألفاً خلال الأشهر الخمسة الماضية، مقارنة بـ 541 ألف مقيم في الفترة نفسها من العام الماضي (2017)، وتتوقع أن الأرقام مرشَّحة للزيادة خلال هذا الشهر (مايو/أيار 2018).
ركود اقتصادي شامل
محمد عبد الله مصري الجنسية، وصل إلى السعودية قبل عام ونصف العام قادماً من الصعيد بعد أن دفع 9 آلاف ريال لشراء تأشيرة ليعمل بالمملكة. وفور وصوله بدأ عمله في المقاهي، إلا أنه لم يكن يعرف أنه ملزم بتسديد مبلغ 300 ريال شهرياً للكفيل الجديد.
وحسب محمد، فإن الآلاف من المصريين خاصة والمقيمين عموماً يحزمون أغراضهم للمغادرة النهائية، فالطبيب أو المهندس المصري مثلاً حتى لو كانت أسرته متوسطة العدد، فإنه يحتاج 20 ألف ريال لتجديد الإقامة ومثلها وأحياناً ضعفها للسكن، وتحويل المبلغ للجنيه المصري يجعله مبلغاً كبيراً جداً.
"مبلغ تجديد الإقامة وحده كفيل بشراء شقة أو فتح مشروع في مصر، كما أن الدراسة متاحة لأولادك مجاناً في مدارس الدولة، ما جعل الكثيرين يقررون العودة لمصر وترك السعودية نهائياً"، يضيف الشاب ذو الـ25 عاماً، ورغم أنه أعزب فإنه يفكر جدياً في العودة هو الآخر، فالراتب لا يكفيه للأكل ولا للسكن، وملزم بالتسديد منه لبقاء إقامته سارية أيضاً.
وتحاول بعض المدارس الأهلية والعالمية تدارك الوضع قبل الإفلاس بسبب مغادرة المقيمين، حيث أعلنت بعضها عن تخفيضات استباقية في الرسوم للعام المقبل (2019)، تصل إلى 30%، في حين وجهت بعض المدارس رسائل لأولياء الأمور تخبرهم بأنها أغلقت بالفعل؛ بسبب التناقص الهائل في أعداد الطلاب؛ لمغادرة الكثيرين السعودية.
الركود الاقتصادي طال حتى قطاع السيارات التي انخفضت أسعارها بـ35%، في حين أصبحت المحال التجارية تعلن باستمرار عن ترويج بضائعها بأسعار تنافسية؛ لقلة الزبائن.
عالقون بين المغادرة والبقاء
إضافة إلى المغادرين، فإن كثيراً من المقيمين عالقون غير قادرين على البقاء؛ لعجزهم عن تجديد إقاماتهم، وكذلك غير قادرين على المغادرة وسحب ملفات أولادهم من المدارس الأهلية والعالمية التي تصر على تسديد آخر ريال قبل تسليم الملف، ولا على المغادرة النهائية؛ لكونها تحتاج مبالغ ضخمة هم عاجزون عنها.
المهندس السوري عبد المجيد فريج اصطحب أولاده الأربعة، أعمارهم بين 5 و10 أعوام، إلى معرض فني وعلَّق على رقبة كل واحد منهم يافطة للبيع؛ لإثارة قضية السوريين العاجزين عن تجديد إقاماتهم بالمملكة، وفي الوقت ذاته عاجزون عن المغادرة لا المؤقتة ولا النهائية.
يشتكي عبد المجيد أنه بالكاد يجد طعاماً لأولاده، والقوانين تحرمهم من الالتحاق بالمدرسة إذا كانت إقاماتهم منتهية، ولتجديدها حالياً يحتاج 32 ألف ريال؛ لكونها منتهية منذ عامين، ويتذكر أنه قبل سنوات جدَّدها بـ37 ألف ريال تشمل غرامات ونقل كفالة ورسوماً.
المهندس القادم من منطقة دير الزور، التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تركيا التي ترفض منح تأشيرة للسوريين من دون سبب مقنع، يحكي لـ"عربي بوست" قصة طفله المريض الذي تطلَّب علاجه مبالغ كبيرة فاقت 30 ألف ريال، وهو الآن عاجز عن إكمال العلاج، مما يعرض حياته للخطر.
محمد النعيمي، الإعلامي السوري، بدوره، يؤكد أن العمالة المصرية هي الأكثر مغادرة للبلاد، "لو كنت مصرياً لوضعت في بالي المغادرة النهائية فوراً؛ لأنه خلال العامين المقبلين ستتضاعف رسوم تجديد الإقامة".
النعيمي، المولود في السعودية، يرى أن الجنسيات المصرية أو السودانية تعود لدولتها بكل سهولة، أما السوري واليمني، وأحياناً الفلسطيني، فمن الصعب عليهم العودة؛ لأن دولهم فيها حروب وصراعات، مشيراً إلى أنه من المفروض وضع خيارات أوسع لهم، "حتى تركيا الآن فرضت رسوماً على التأشيرة للسوريين، ومن الصعب لكثير من السوريين دخولها، كما أن كثيراً من السوريين في السعودية بلا عمل، بعد إغلاق شركاتهم أو تسريحهم منها"، كما أن عدداً من الوافدين أرسلوا الزوجة والأولاد خارج السعودية وبقوا بمفردهم؛ تفادياً لرسوم الضرائب.
يُذكر أن قضية فرض الرسوم على الوافدين أثارت الجدل بين جهات دينية والتي أصدرت عدداً من الفتاوى، منهم مَن رفضها واعتبرها ضرائب مخالِفة للشرع، وآخرون أيدوها واعتبروها ضرورية لتوطين الوظائف وإحلال السعوديين؛ لكونهم أولى بالوظائف تطبيقاً لخطة السعودة.