البداية كانت يوم 27 يناير/كانون الثاني 1947، عندما اندلعت مواجهات في منطقة القدس. في اليوم التالي مباشرة جاؤوا إلى بلدة لفتا، وقتلوا 6 من أهلها، رآهم راعي أغنام فقتل منهم أربعة. بعدها وقعت مذبحة دير ياسين، فاضطررنا للخروج، قلنا نبتعد قليلاً ثم نعود. أيام معدودات وتنتهي المشكلات، لكن ها نحن ننتظر منذ 70 عاماً.
تلك هي الكلمات التي اختصر بها الحاج محمد صفران، المعروف بـ"أبو خالد"، من قرية لفتا المهجرة غربي مدينة القدس، ذكرياته وقت التهجير. كان عمره آنذاك 7 سنوات حين حصلت عملية النزوح، لكنه ما زال ينتظر، وما زال لديه أمل بالعودة، "مستعد للعودة للنوم ولو على حصيرة".
عام 1948 ارتكبت إسرائيل أكثر من 70 مجزرةً ضد الفلسطينين، ودمرت أكثر من 500 قرية، وقتلت 15 ألف فلسطيني، وشرَّدت 800 ألف. ومن أبرز تلك المجازر كانت مجزرة دير ياسين، التي لا تبعد سوى أمتار معدودة عن قرية لفتا.
وقعت مجزرة دير ياسين، يوم 9 أبريل/نيسان 1948، على أيدي مجموعات مسلحة يهودية، بعد أسبوعين من توقيع اتفاقية سلام طالب بها رؤساء المستوطنات اليهودية ووافق عليها أهل دير ياسين. وبدأ الهجوم فجراً واستخدمت قذائف الهاون، وسقط فيها 254 قتيلاً.
يقول صفران "كان وقع المجزرة مرعباً على نفوسنا. كنا نتوقع أنهم قد يقتحمون بلدتنا في أي لحظة ويقتلونا. خرجنا لأننا ظننا أن الحكاية ستمتد ليوم أو يومين، لكن الموضوع طال كثيراً".
حتى يومنا هذا، يحتفظ صفران ببقايا ذكريات النكبة. شاحنة العودة التي أقلّته مع عائلات فلسطينية كثيرة هربت وقت احتلال فلسطين، وكوشان المنزل، وبالطبع مفتاحه. يقول "هذا المفتاح مثل زوجتي لا يفارقني، أضعه في جيبي أينما ذهبت. يظل الأمل يساورني أني سأعود في أي لحظة. وأني يجب أن أكون جاهزاً".
واعتاد الفلسطينيون، في 15 مايو/أيار، من كل عام على إحياء ذكرى ضياع وطنهم وقيام دولة إسرائيل، فيما يعرف بـ"ذكرى النكبة". وتخرج مسيرات ومظاهرات في أرجاء قطاع غزة والضفة الغربية، التي لا يمر وقت قليل حتى تتحول إلى اشتباكات مع قوات الأمن الإسرائيلية.
فقد الأمل بعودته لكن أحفاده سيعودون يوماً
يعمل صفران اليوم مدرباً لقيادة الدراجات النارية. يقضي حياته بين منزله في رام الله، وهذه الدراجة التي ترافقه أينما حلَّ. ورغم ميله إلى الاعتقاد أن وقت العودة ربما يكون قد ولَّى بالنسبة له، إلا أنه يبني آماله كلها في أحفاده "أعلمهم ألا ينسوا أننا مهجّرون، وأننا يوماً عائدون"، على حد تعبيره.
وأضاف: "قد يظن البعض أننا فقدنا الأمل. لا ما زال هناك أمل، يوماً ما سيعود ابني أو حفيدي، لن تبقى الأحوال كما هي".
يتذكر صفران تفاصيل كثيرة من ذكريات بلدته لفتا. بلدة مساحتها حوالي 9 آلاف دونم (9 آلاف كيلومتر مربع)، لا تبعد سوى كيلومترين فقط عن قلب مدينة القدس. يقول "أذكر كل التفاصيل، أذكر كيف كنَّا نلعب في تلالها ونتضاحك، كنا عائلةً سعيدة، وفجأة تبخَّر كلُّ شيءٍ، كل أحلامنا وأملاكنا ذهبت أدراج الرياح".
القدس وريح القدس
كان صفران يومياً يخرج مع والده لشراء أغراض المنزل من مدينة القدس، يجول في أزقة المدينة "كنت دوماً أذهب بصحبة والدي لشراء الفلافل، وكعك القدس، ذلك الكعك الذي لا تزال رائحته في أنفي".
ورغم أن 70 عاماً مضت قضاها صفران بين من يصفهم بأنهم أهل وناس وأحباء "استقبلونا هنا في مدينة رام الله"، لكنه لا يزال يرى نفسه غريباً. يقول "لا أعلم، لست في موطني، لم أولد هنا، لدي مكان وساحة وبيت وملعب هناك في لفتا، لدي أرض وبيت، ولدي حب وأصحاب وعائلة، كلها ما زالت في لفتا، لا يمكن أن أراها في مكان آخر".
تعوّد صفران أن يشمَّ ريح القدس. هو يداوم على زيارة ما تبقَّى من قريته المهجَّرة "لا أرى نفسي حراً إلا حين أدخلها. نعم لا أستطيع أن أعود لأعيش فيها. لكني أرى نفسي هناك. أتمنى أن أدفن فيها على الأقل".
إلى جانب عمله مدرباً على ركوب الدراجات النارية يهوى أبو خالد كتابة الشعر، كتب قصائد كثيرة، أحبها إلى قلبه تلك التي كتبها للقدس.
يقول فيها:
يا قدس سبحان من أسرى بعبده ليلا لعيناك .. صلى الحبيب فيكِ والأنبياء تراكِ
يا قدس تجلَّى الربُّ سبحانه في علاكِ .. عبق الحياة يفوح منك إلى سماكِ
يا قدس يا مهد الرسل سبحان من زكاكِ .. أولى القبلتين سبحان من حباكِ
يا قدس يا مدينة السلام بُشراك .. عمر بن الخطاب جاء يطلب رضاكِ
يا قدس سبحان من بارك حولاكِ .. صعد الحبيب وجبريل إلى سماكِ
يا قدس منذ الذي أبكاكِ .. لا تخافي فعين الله دوما ترعاكِ
يا قدس قدّس الله أرضكِ سماكِ .. الله جل علاه وتكفل بحماكِ
يا قدس يا بوابة السماء حماكِ .. سرى الحبيب ليلاً للُقياكِ