استغرق الأمر من الرجال طوال الليل لينتهوا من دفن الجثث، قاموا بحفر الأرض الجافة بأي وسيلة وجدوها بين أيديهم، وكانت معظم الأدوات المستخدمة صغيرة وصُنعت لأجل هذه المهمة الشاقة.
وقالت صحيفة The Telegraph البريطانية، في تقرير لها، إن هذا لم يكن دفناً عادياً، وحين انتهوا لم يميزوا القبور بشواهد حجرية وأزهار؛ بل غطوها بالأعشاب والطين.
كانت هذه جثامين 48 ضحية من ضحايا الهجوم الكيماوي المشتبه في سوريا بيمدينة دوما في الغوطة الشرقية.
ولم يكن هؤلاء الحفارون سوى سكان محليين وأعضاء من فصيل "جيش الإسلام" المعارض، يحاولون الحفاظ على ما قد يكون أهم دليل متبقٍّ من ليلة 7 أبريل/نيسان 2018.
ويأمل هؤلاء أن تساعد هذه الجثث منظمة حظر الأسلحة الكيماوية التابعة للأمم المتحدة (OPCW)، في تقرير ما إذا كانت الأسلحة الكيماوية قد استخدمت وما نوعها.
وقال العميد الركن زاهر الساكت، القائد السابق في قسم الأسلحة الكيماوية والذي انشق قبل عدة سنوات عن النظام: "فقط 3 أو 4 رجال هم من يعرفون موقع الدفن".
وأضاف قائلاً: "دُفنت الجثث كما وُجدت تماماً. سيكون من السهل الحصول على عينات من الشعر والملابس، ومعرفة ما السلاح المستخدم في نهاية المطاف".
إحداثيات القبور
يوم السبت 21 من أبريل/نيسان 2018، تمكن مفتشو الأسلحة الكيماوية أخيراً من دخول دوما بعد انتظار التصاريح من دمشق مدة أسبوع كامل، واستطاع الفريق التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، المكون من 9 أعضاء، من جمع عينات من المدينة بعد أسبوعين من الهجوم.
لدى سوريا وكذلك روسيا التي تدعم النظام، قوات شرطة عسكرية تسيطر على المنزل ذي الطوابق الثلاثة في دوما والذي مات فيه الضحايا، واتهمت من قِبل الولايات المتحدة بتعمد إعاقة عمل المفتشين، ومنح أنفسهم الوقت لإمكانية التلاعب بالأدلة.
أعطى الحفارون هذا الأسبوع إحداثيات موقع الدفن لرائد صلاح، رئيس منظمة "الخوذ البيضاء"، وهو فريق مكون من مجموعة من منقذي الدفاع المدني، يعمل في مناطق المعارضة.
وقد أوصلها السيد صلاح منذ ذلك الحين إلى منظمة حظر الأسلحة الكيماوية.
لكن موقع الجثث الذي كان سابقاً تحت سيطرة "جيش الإسلام" سقط في أيدي قوات النظام.
قد لا يعرف النظام الموقع بالتحديد حتى الآن، إلا أن مفتشي منظمة حظر الأسلحة الكيماوية يعتمدون عليه للسماح له بالوصول إلى الموقع.
من المستحيل القضاء على جميع آثار الهجوم
أما جيري سميث، المفتش السابق بوكالة حظر الأسلحة الكيماوية والذي عمل في سوريا عام 2013، فيقول لصحيفة Sunday Telegraph، قال إنه ليس أمام المفتشين سوى انتظار الموافقة من الدولة المستضيفة.
وأضاف سميث، الذي يعمل الآن مديراً عاماً لشركة RameHead للاستشارات الدولية في سالسبوري: "في حالات كهذه، قد توجد بعض الأطراف التي لا تريد للحقيقة أن تظهر، أو يريدون ظهور حقيقتهم وحدها".
أضاف قائلاً: "لديهم القدرة على ممارسة هذا النفوذ على مسار التحقيق الجاري".
واستدرك سميث بتأكيد أن التأخير كان مثيراً للقلق، إلا أنه قال: "من المستحيل تقريباً" القضاء على كل آثار هجوم كيماوي استُخدم فيه غاز أعصاب، يعتقد الأطباء أنه مزج بالكلور الأقل سمّية.
وتتحلل غازات الأعصاب، مثل السارين، بسرعة في الظروف البيئية الطبيعية، مع ذلك "تبقى آثارها بعض الوقت"، على حد قوله.
وأضاف قائلاً: "هناك أمثلة على عينات أُخذت من حلبجة، أظهرت وجود غازات الأعصاب، بعد سنوات عدة من تعرضها للهجوم من قِبل صدام حسين. كميات صغيرة، أصغر من رأس دبوس، قد تبقى عالقة في التربة".
"لديها علامات مميزة لا يمكن تفسيرها بأية طرق أخرى"
مع ذلك، فإن إثبات استخدام غاز الكلورين قد يكون مهمة أصعب، خصوصاً بعد هذه الفترة الزمنية الطويلة، ومن الصعب إثبات ما إذا كان قد استُخدم على شكل سلاح؛ لأنه يستخدم لأغراض عديدة أخرى.
وقال إن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية ستبحث عن 3 أنواع من الأدلة: الأدلة البيولوجية، والعينات البيئية، وأقوال الناجين، وكذلك الأدلة الوثائقية مثل مقاطع الفيديو والصور.
نظرية الروس: النفي ثم التأكيد ثم الفبركة
قدم المسؤولون الروس تفسيراً مضاداً لما حدث في 7 أبريل/نيسان 2018.
زعمت النظريات التي نُشرت أنه لم يكن هناك هجوم كيماوي، ثم اعترفت بوجود هجوم كيماوي نفذته قوات المعارضة، وفي النهاية زعمت أنها عملية مزيفة نُفّذت من قِبل المملكة المتحدة و"الخوذ البيضاء" بهدف التضليل.
روج نشطاء مؤثرون على منصات التواصل الإجتماعي ومدونون للنظرية القائلة بأن هذه الهجمات نُفِّذت من قِبل مجموعات جهادية وجواسيس؛ لإلقاء اللوم على حكومة بشار الأسد وتقديم المبررات للتدخل الغربي.
لكن دوامة الأخبار الزائفة والتضليل هذه لم يوقفها صمت الشهود الرئيسيين، الذين وجدوا أنفسهم في مركز صراع دولي متصاعد.
تفتيش الأطباء بحثاً عن الأدلة
ووفقاً للمنظمات التي تدعم المستشفيات في سوريا، غادر العديد من طواقم الأطباء الذين عالجوا المرضى تلك الليلة، الغوطة الشرقية باتجاه المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في أماكن أخرى من البلاد.
يقول الدكتور غانم طيارة، الطبيب الممارس العام من بيرمنغهام ومدير اتحاد منظمات الرعاية الطبية والاغاثة (UOSSM)، وهي كبرى وكالات الإغاثة في سوريا، إنه تم تفتيشهم بحثاً عن أية عينات أو أدلة محتملة قبل مغادرتهم.
العديد منهم خائفون من الحديث علناً؛ لأن لديهم أفراداً من عائلاتهم في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. في هذه الأثناء، أنكر بعضُ مَن قرروا البقاء في دوما أقوالهم التي أدلوا بها لاتحاد منظمات الرعاية الطبية والاغاثة في ذلك الوقت.
بعد سيطرة روسيا على الغوطة الشرقية في 12 أبريل/ نيسان 2018، بعد أيام من الهجوم الذي أجبر "جيش الإسلام" على الموافقة على اتفاق استسلام، نُشرت مقابلات مع أطباء وممرضين وطلبة الطب الذين عالجوا المرضى.
أطباء تحت التهديد
ظهر 13 منهم على قناة التلفاز المؤيدة للحكومة، قائلين إنهم لم يشاهدوا أي حالات تعرضت لإصابات بالأسلحة الكيماوية.
قال بعضُ مَن تحدثت معهم الـTelegraph، ممن يعرفون هؤلاء الأطباء، إنهم يعتقدون أنهم كانوا يتحدثون مكرَهين وتحت التهديد.
قال زاهر السحلول، وهو طبيب أميركي-سوري يعمل مستشاراً لدى إتحاد منظمات الرعاية الطبية والإغاثة: "نعرف هؤلاء الناس جيداً، لقد كانوا أطباء لدينا".
وأضاف: "على الأقل، نصف هؤلاء الذين ظهروا في هذه المقابلات تواصلوا مع فرقنا (في تركيا والولايات المتحدة) بشأن الهجمات الكيماوية والأعراض التي شاهدوها في المرضى".
غيّروا أقوالهم بعد سيطرة روسيا على المدينة. "أنا واثق بأنهم يخشون، ليس فقط على حياتهم؛ بل حياة أقاربهم أيضاً، وهو أمر متوقع".
وأضاف الطبيب سحلول أن أحد الأطباء الكبار بدوما تواصل مع المسؤولين الروس حين كانت المدينة مازالت في قبضة المعارضة، وطلب منهم السماح له بالبقاء في المدينة وعدم إرساله إلى إدلب.
أضاف قائلاً: "كان من ضمن الاتفاق الذي وافقوا عليه، أن يُقنع الأطباء الآخرين بالبقاء تحت شروط معينة، لكن لا أظن أن الأطباء توقعوا أن يتعرضوا لمثل هذه الضغوط".
حين سئل ما إذا كان يعتبر هذا الأمر خيانةً، أجاب قائلاً: "بالطبع لا، هم يتعرضون لضغوط غير معقولة، كنت سأفعل الشيء نفسه لحماية عائلتي".
لكن الدكتور سحلول واثق بأن "الحقيقة ستظهر" في النهاية، وكذلك خبراء الأسلحة الكيماوية.