من رحم القاعدة، خرجت جماعةٌ جديدة لتُعزِّز سلطتها في شمال غربي سوريا، بينما تُركِّز الولايات المتحدة على محاربة بقايا داعش في أماكن أخرى من البلاد، وضرب منشآت نظام بشار الأسد للأسلحة الكيماوية.
ومنذ أن خرجت كأقوى الجماعات المُسلَّحة في البلاد، حاربت هيئة "تحرير الشام" (تضم عدداً من الفصائل الإسلامية)، فصائل من المعارضة السورية المدعومة من الغرب لتوسيع سيطرتها على محافظة إدلب، وفَرَضَت رؤيتها للشريعة وجمعت الأموال عن طريق فرض ضرائب على حركة الأشخاص والسلع.
وتعهَّدَ زعيم الجماعة، أبو محمد الجولاني، وهو مقاتلٌ سابق في تنظيم القاعدة، بغزو دمشق وفرض الحكم الإسلامي بجميع أنحاء سوريا. وفي خطاب ألقاه في يناير/كانون الأول 2018، حثَّ أتباعه على الانخراط في "حرب الأفكار، حرب العقول، حرب الإرادة، حرب المثابرة"، وفقاً لما ذكرته مجموعة سايت للاستخبارات.
ويقول مُحلِّلون لصحيفة Wall Street Journal إنّّ الآلاف من مقاتلي الجماعة -التي تُعد فرعاً من جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة بسوريا- قد تحصَّنوا في محيط إدلب، بينما تُركِّز الولايات المتحدة على المعارك الأخرى بسوريا وتتحرَّك تجاه ما وصفه الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، بأنه سيكون خروجاً سريعاً من سوريا.
"يحظى الجهاديون بشهر عسل هناك"
وقال المُحلِّل السياسي المُقيم بواشنطن والباحث في مركز أبحاث معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط حسن حسن: "تبدو المنطقة خارجة عن نطاق تركيز القوى الغربية؛ إذ يحظى الجهاديون بشهر عسل هناك".
وحاربت الجماعة بشراسة ضد خصومها. ففي فبراير/شباط 2018، وبعد 4 أشهر من القتال، أعلنت استسلام خلايا داعش التي هزمتها بإدلب. وفي مارس/آذار 2018، زعمت السيطرة على نحو 25 قرية في محافظتي حلب وإدلب، واستولت على الدبابات والعربات المُدرَّعة.
وقد حاربت الهيئة هذا الشهر (أبريل/نيسان 2018)، القوات الحكومة السورية بالمدفعية والقناصة في حمص وحماه وحلب.
وفي المناطق الخاضعة لسيطرتها، أنشأت هيئة تحرير الشام جهاز "الحسبة" المماثل لذلك الموجود لدى داعش، بحسب قول بعض السكان. كما يقول سكان إدلب إن البداية شهدت مكافأة الأطفال بالحلوى لحفظ القرآن، ولكن سرعان ما عمدت الجماعة إلى كسر النارَجيلة كجزءٍ من حظر التدخين، وأمرت متاجر الملابس بتغطية رؤوس العارضات، وأبلغت صالونات التجميل بالتخلي عن منتجات التجميل.
في دعايتها، تُشبِّه الهيئة سوريا بـ"سفينة متهالكة لن يُكتب لها النجاة إلا بحكم الشريعة الإسلامية". ومن عبارة مفادها أن الشريعة تضمن "ألا تغرق السفينة" تتخذ الهيئة شعاراً. ولسان حال السكان: "لا توجد مياه؛ لذا لن تغرق السفينة".
ووفقاً لما قاله أحد السُكَّان، فقد سجَنَت الجماعة رجالاً ونساءً بسبب الاختلاط دون قرابةٍ بينهم، وأغلقت جامعة في بلدة الدانا أواخر العام الماضي (2017)؛ لأنها بها فصول مختلطة.
وقال أحد الشباب من سكان إدلب: "نعم، نحن مجتمعٌ محافظ، لكن هذه الإجراءات مُتشددة للغاية".
والبطالة أرض خصبة للتجنيد
وتفاقمت حالة الفوضى في إدلب جراء وصول ما يقرب من 50 ألف شخص، من ضمنهم المعارضة، من الغوطة الشرقية بدمشق، والتي كانت مسرحاً لقمعٍ وحشي من نظام بشار الأسد.
وتسبَّب القادمون الجدد في تفاقم الأزمة الإنسانية بإدلب، التي تضم بالفعل نحو مليون نازح سوري. وأثبتت الظروف السيئة ونقص فرص العمل فاعليتهما كأرضية خصبة لجهود التجنيد التي تبذلها الجماعات المُتطرِّفة، والتي تعِد بالدفع لأي شخص مستعد للقتال من أجل كسب رزقه.
في الوقت الراهن، يُركز النظام السوري على سحق جيوب أصغر للمقاتلين، ومن ضمنها الجيب المزمع الذي استُخدمت الأسلحة الكيماوية عليه بالغوطة الشرقية في 7 أبريل/نيسان 2018.
وتتوقع الصحيفة أن تُوجِّه دمشق اهتمامها إلى ضرب المُتشدِّدين بإدلب في معركةٍ قد لا تقلُّ دموية عن معركة حلب عام 2016.
أميركا تودُّ استبدال قواتها بأخرى عربية
وقد تعهَّدَ ترمب قبل عدة أيام، بسحب القوات الأميركية، عندما كان تنظيم داعش على وشك الهزيمة. وبعد ضرباتٍ مطلع الأسبوع الجاري، كثَّفَت إدارته الجهود الرامية إلى إحلال قوات من دول الشرق الأوسط الحليفة محل القوات العسكرية الأميركية التي يبلغ قوامها 2000 جندي في سوريا.
في غضون ذلك، أعرب بعض المسؤولين الأميركيين عن قلقهم بشأن صمود الجماعات المُتطرِّفة الأخرى التي تحل الآن محل داعش. ووَصَفَ بريت ماكغورك، المبعوث الأميركي للتحالف الدولي الذي يقاتل داعش، إدلب بأنها "أكبر ملاذ آمن للقاعدة منذ 11 سبتمبر/أيلول".
وتتركَّز معظم القوات الأميركية في شرق سوريا، لتنضم إلى المقاتلين الأكراد والمقاتلين الآخرين الذين يقاتلون الجيوب المتداعية لمسلحي داعش. بينما تُركِّز تركيا على منع الميليشيا الكردية (التي تعتبرها إرهابية) من التوسُّع على حدودها الجنوبية.
ونتيجةً لذلك، انتعش خليطٌ من الجماعات المُسلَّحة من أصحاب الأجندات في إدلب، ما ألحق ضرراً بالقوى الأخرى التي تعارض نظام الأسد. وقال مسؤولٌ غربي كبير يتابع سوريا من كثب: "إنَّ مساحة المعارضة المعتدلة تتقلَّص في الشمال الغربي".
و"حكومة الإنقاذ" تُحكم سيطرتها برافد ضرائبها
وتسعى هيئة تحرير الشام الآن للسيطرة على القطاعات الإدارية المهمة في إدلب من خلال هيئة تسميها "حكومة الإنقاذ". تجني الإيرادات عن طريق فرض رسوم على السكان للحصول على الكهرباء والمياه، وتسيطر على معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.
وكانت الهيئة قد سيطرت على المعبر الحدودي في يوليو/تموز عام 2017، عقب مواجهات عنيفة خاضتها مع حركة "أحرار الشام" المعارِضة لنظام الأسد وطردها من المنطقة.
وعلى خلفية ذلك، أعلنت تركيا أنها ستحدُّ من حركة السلع غير الإنسانية عبر معبر باب الهوى، وبررت ذلك بقولها إن "الجانب السوري (من المعبر) يخضع لسيطرة تنظيم إرهابي"، وفقاً لما ذكرته وكالة رويترز.
وقال آنذاك وزير التجارة والجمارك التركي، بولنت توفنكجي: "ستكون هناك رقابة شديدة وسيتباطأ مرور كل المنتجات باستثناء المساعدات الإنسانية والأغذية إلى أن تنتهي سيطرة الجماعة أو تضعف على الأقل".
وقال رجلٌ يبلغ من العمر 27 عاماً، في إدلب: "تحاول حكومة الإنقاذ كسب تعاطف الناس من خلال تقديم الخدمات. وفي الوقت نفسه، يحاولون السيطرة على الناس".
ويتوارى البعض في حذر، ويحضر طلاب الجامعة دروسهم بالعراء، وتُهدِّد المستشفيات بالإغلاق إذا تدخَّلَت الجماعة في عملها. ويطلق البعض على "تحرير الشام" لقب "هاعش"، كاسم مصغر لـ"داعش".