حين استعادت القوات الموالية للحكومة، مسقط رأس نسرين، قبِلت نفس اتفاق الاستسلام الذي عرضته الحكومة على عشرات الآلاف من السوريينرحلة في اتجاهٍ واحد بالحافلة، إلى مكانٍ لم تذهب إليه من قبل قط، وهو محافظة إدلب الشمالية، التي تسيطر عليها المعارضة.
تضاعف سكان إدلب منذ بدأت الحرب السورية، بعدما استقبلت مزيجاً متنوعاً من اللاجئين المدنيين، والمعارضين المهزومين، والجهاديين المتشددين، وأولئك من أمثال نسرين، الذين شدُّوا رحالَ أسرهم ليستقلّوا حافلة الاستسلام التابعة للحكومة.
لكن في الوقت الذي تختتم فيه القوات الحكومية حملةً شرسةً في الغوطة الشرقية، وأخرى في دوما، يُرجَّح أن تكون إدلب هي الهدف التالي. وهذه المرة لن يكون هناك مكانٌ آخر للفرار إليه.
قالت نسرين (36 عاماً) لصحيفة Newyork Times، وهي مُعلِّمة لغة عربية من بلدة مضايا، التي كانت في السابق منتجعاً سياحياً، في مقابلةٍ جرت عبر الإنترنت مؤخراً: "هذا ربما الفصل الأخير في الثورة. السوريون يقتلون السوريين. لا شيء يهم بعد الآن، قرَّرنا الموت واقفين، أنا حزينة على الثورة، وكيف آلت، وكيف نادى الناس من أجل الحرية، والآن انتهت".
تُعَد إدلب، وهي مُحافَظة صغيرة على الحدود التركية، أكبرَ المناطق التي لا تزال خاضعةً لسيطرة المعارضة في سوريا. ومثلما كانت من أوائل المناطق التي تثور ضد الأسد، قد تكون هي المكان الذي تنتهي فيه أخيراً الثورة التي بدأت قبل أكثر من سبع سنوات.
وصلوا مصدومين.. ومرهقين.. وخائبي الأمل
نفَّذت الحكومة مع حليفتها روسيا هناك غاراتٍ جوية تتبع سياسة الأرض المحروقة، فاستهدفتا بصورةٍ روتينية المستشفيات والعيادات والمدارس وأسواق الأحياء.
وفي الأيام السابقة، نُقِل أكثر من 10 آلاف مقاتل ومدني بالحافلات إلى إدلب، قادمين من المناطق التي استسلمت بالغوطة الشرقية. ووصلوا في حالةٍ من الصدمة والإرهاق وخيبة الأمل، وفي كثيرٍ من الأحيان مع أطفالٍ يعانون من سوء التغذية، جرَّاء سنواتٍ من الحصار.
تعاملت الحكومة مع المحافظة كمنطقة تُفرِّغ فيها أولئك الذين لا يريدون البقاء في مناطقها، وتُصوِّرها باعتبارها وكراً للجهاديين. لكنَّ الغالبية العظمى في إدلب هم مدنيون، من بينهم نشطاء سلميون قد يواجهون الاعتقال أو التعذيب إذا ما بقوا في مناطق سيطرة الحكومة، وكثيراً ما يتصدون للمتشددين في المحافظة الذين يرون أنَّهم قد استغلوا الثورة لمصلحتهم.
خياران أحلاهما مرّ
يصحب مروان حباك زوجته وطفلته ياسمين إلى إدلب، وكانوا قد نجوا من وابل القصف في الغوطة الشرقية، بعدما مكثوا في قبو. وهذا خيارٌ صعب، لأنَّه سيكون عليهم ترك والدَي زوجته وراءهم، بسبب عدم وجود مكانٍ لهما ليعيشا في إدلب، فضلاً عن أنَّه وأسرته سيواجهون مزيداً من القصف هناك. لكن إن بقي في الغوطة، فإنَّه متأكدٌ من أنَّه سيُعتَقَل أو يُجبر على أداء الخدمة العسكرية.
وقال: "خياران أحلاهما مر. المغادرة إلى المجهول، أو البقاء في قبضة الأسد"،
لكنَّ انتقاله ليس فيه من خيرٍ إلا تأجيل المحتوم.
وقال مهران عيون، وهو عضو مجلس المعارضة المحلي لمدينة دوما في المنفى، وهو مجلس منعقد في تركيا: "إنَّها وصمة عار على جبين العالم. إن وافقتم على التهجير القسري الذي يُعَد جريمة حرب، فعلى الأقل احرصوا ألَّا يعاني الناس مراراً وتكراراً".
اليد العليا في إدلب، لمن؟
كانت إدلب من قبل خاضعةً لسيطرة مزيجٍ من فصائل المعارضة المتصارعة فيما بينها، بعضها تحت قيادة منشقين عن الجيش مدعومين أميركياً وينادون بإقامة دولة مدنية. وأخرى، بينها فرع تابع لتنظيم القاعدة، رحَّبت بالمقاتلين الأجانب وتتبنى طيفاً من الأيديولوجيات الإسلامية، لكنَّ اليد الطولى أصبحت من نصيب المتشددين، وهو ما يصبُّ في صالح الصورة التي تُصدِّرها الحكومة عن المنطقة، تزامناً مع خلق هؤلاء للتوترات مع السكان الذين يعارضونهم.
وفيما يكافح الكثير من السكان من أجل البقاء، ينتهي بهم المطاف عالقين بين هجمات الحكومة من السماء والحكم المتسلط من جانب فصائل متطرفة، المسيطرة على الأرض.
نسرين.. القفز على الثورة
التحقت نسرين بالثورة في بدايتها في عام 2011، مُناديةً بدولةٍ ديمقراطية مدنية علمانية، وطلبت عدم نشر اسمها كاملاً خوفاً من العقاب من أي طرف، شأنها في ذلك شأن 12 آخرين من سكان إدلب، أُجريت معاهم مقابلات عبر الهاتف والبريد الإلكتروني من أجل هذا التقرير.
كانت نسرين قد استقلَّت حافلةً متَّجهةً إلى إدلب، العام الماضي، بعدما نجت من سنةٍ من الحصار والقصف، على أمل ألا يموت ابنها عبدالله (10 سنوات) جوعاً، مثلما حدث مع بعض الأطفال في بلدتها مضايا. وفي البداية، شعرت بحماسة لأنَّها ستجتمع من جديد بزوجها، وهو طالب حقوق سابق، ومقاتل في صفوف المعارضة، ذهب إلى إدلب قبلها بعامين.
لم تشعر بالندم على مغادرة مضايا، فبعدما سيطرت الحكومة هناك، جُنِّد أخوها وأصهارها وأُرسِلوا إلى الخطوط الأمامية بحدٍّ أدنى من التدريب، وسقطوا في المعركة.
لكنَّ نسرين شعرت بالانزعاج من اللافتات الجهادية الموجودة في مدينة إدلب، والنقاب، والمقاهي التي تعزل النساء وتمنعهن من تدخين الأرجيلة. وحين ترتدي حجابها المعتاد ومعطفاً محتشماً، ينصحها المُحتسِبون ويوبّخونها لعدم ارتدائها النقاب.
وكانت إحدى جاراتها المتزمِّتات تتحدث باستمرار عن محاربة الشيعة، وليس عن بناء دولة جديدة. وفي نهاية المطاف ثارت ثائرة نسرين.
وروت أنَّها سألت المرأة: "لِم تقفزون على الثورة؟ لم أنضم إلى الثورة لأرى هذا".
وعانى زوجها أحمد، الذي كان مقاتلاً في صفوف المعارضة في مضايا هو الآخر للعثور على طريقةٍ للاستمرار في القتال، من أجل قضيةٍ يؤمن بها. وبعد فترةٍ وجيزة من انضمامه إلى اثنين من الفصائل الإسلامية الرئيسية في إدلب، غادرهما ليصبح مساعد محامٍ.
وقال عن الفصيلين: "اعتبراني زنديقاً، وأنا اعتبرتهما متطرفين".
لكنَّ أكثر حادثة صدمت نسرين، كانت هي اليوم الذي قال فيه ابنها، بعد بضعة أشهر من اللعب مع الأطفال الآخرين في إدلب: "أريد الانضمام للجهاد".
وقرَّرت نسرين المذعورة أن تُوجِد بدائل تعليمية، وتبدأ سراً حملة ضد تجنيد الأطفال.
وساعدت أيضاً على فتح منظمة ضمَّة، وهي منظمة توفر الدعم النفسي وأنشطةً ثقافية.
لا تبقى صامتة.. ولا تخاف الموت
أمَّا أم عبده (36 عاماً)، وهي أستاذة فلسفة من أكبر المدن السورية حلب، فتسلك نهجاً أكثر صداماً. كانت قد نزحت إلى إدلب في عام 2014، خوفاً من اعتقالها، بعدما ألقت القوات الحكومية القبض على زوجها.
وقالت: "أنا لا أبقى صامتة، ولا أخاف الموت، مرحباً بالموت!".
وأضافت أنَّها لا تغادر منزلها دون سلاح.
لم تتمكن أم عبده من العثور على عمل في جامعة إدلب؛ إذ حُظِرَت الفلسفة باعتبارها "شِركاً". لذا أصبحت مُعالِجةً تقليدية، تُعالِج النساء في الغالب، ووجدت أنَّ حرياتهن المحدودة أصلاً قد تقلَّصت أكثر تحت حكم المتشددين الذين يسيطرون على إدلب.
وسمعت أحاديث من تلاميذ غُسِلَت أدمغتهم، لدرجة أنَّهم وصفوا آباءهم بالكفار، ومن مراهقاتٍ بِعن للزواج. ووصلت إليها امرأة غير قادرة على الحديث. واتَّضح أنَّ زوجها ضربها بشدة بعدما ضبطته يخونها.
وبدأت تدافع عن المساكين في المحكمة الإسلامية، فهي حاصلة على درجة علمية في الشريعة الإسلامية. وساعدت المزارعين على إحباط محاولات الفصائل الاستيلاء على أراضيهم. وفازت بحكم طلاق لامرأة باعها زوجها لمقاتلٍ أجنبي اغتصبها وضربها.
وقالت: "عندما قرَّرنا الثورة، كانت ضد الظلم، لكنَّنا اليوم نواجه ظلماً".
تُمثِّل الحياة في إدلب المُحافِظة تحدياتٍ لكل من ينحدرون من دمشق، المتحرِّرة نسبياً، خصوصاً بالنسبة للنساء العازبات.
ومنهن ريما، وهي سجينة سياسية سابقة من مضايا، وصلت إلى إدلب وهي مُطلَّقة بدون روابط أسرية هناك، أو أقارب ذكور لحمايتها، وقليلون فقط من أصحاب العقارات كانوا مستعدين لتأجير مسكنٍ لامرأة بمفردها، وطَرَدَها أحدهم.
وقالت: "حتى سائق سيارة التاكسي يسأل: لِمَ أنتِ بمفردك؟ لِمَ لستِ مع إخوتك؟".
ومؤخراً أعلنت السلطات المحلية في مدينة إدلب، أنَّ النساء المنفردات سيكون عليهن العيش في مخيماتٍ خاصة.
بالنسبة لريما، حُلَّت المشكلة حين تمت خِطبتها. لكنَّ المشكلة كانت أنَّ خطيبها يريدها أن تغطي وجهها.
وقالت: "سأفعل، ليس لأنَّني مقتنعة، بل لأنَّني أحبه".
ولا يزال الانسجام يُشكِّل تحدياً، لكن لا توجد خيارات كثيرة متاحة.
وقالت: "لم تكن إدلب هي الخيار الأفضل، بل كانت الخيار الوحيد".