فلنتفق على “ما لا” نريد

لا بد في البداية من الاعتراف بصعوبة هذا النوع التوافق؛ لأن معناه الحقيقي أنه محاولة لتوحيد مجموعة مكونات متنافرة فكريا (من اليمين إلى اليسار)، كما أنها - في الغالب الأعم - تكره بعضها البعض، وكل منها يحمل ثأرا تجاه الآخر.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/26 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/26 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش

تجارب التحول الديمقراطي في العصر الحديث فيها كثير من المفارقات الملفتة، مفارقات تكاد تكون قاسما مشتركا بين غالبية هذه التجارب.

الأصل في تجارب التحول الديمقراطي أن يتفق غالبية الناس (ممثلين في التيارات السياسية بشتى جماعاتها وقياداتها ورموزها) على ما يريدونه من إيجابيات في النظام الديمقراطي. أي أن يتفق الناس على ضرورة تحقق الحرية، والفصل بين السلطات، والعدل، وتكافؤ الفرص، واستقلال القضاء، وتوزيع الثروات، وحرية التعبير، وغير ذلك من مظاهر الحكم الديمقراطي الرشيد.

ولكن في بعض الأحيان، وبسبب شدة الاستقطاب السياسي بين مكونات المجتمع، وبسبب الأعمال التي يقوم بها النظام الحاكم لكي يستمر هذا الخلاف بين المعارضين، تلجأ المعارضة (الرشيدة) إلى أسلوب آخر لخلق حالة التوافق التي تقويهم ضد الاستبداد.

إنها محاولة لتفكيك حالة الطغيان، وتخليق حالة الاصطفاف، لقد لجأت المعارضة في بعض من تجارب التحول الديمقراطي إلى ما يمكن تسميته: "الاتفاق على ما لا نريد"!

فبدلا من الاتفاق على تحقيق المعاني الإيجابية الناتجة عن الديمقراطية في أرض الواقع، يتم تجميع المعارضة على أساس أنهم متفقون على ضرورة منع الاعتقالات، والقضاء على الاختفاء القسري، وإغلاق السجون، وإيقاف القتل خارج إطار القانون، ووقف سجن الصحفيين دون حق، وعلى تجريم محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية… وغير ذلك من المعاني السلبية التي يعيش فيها جميع المعارضين تحت حكم الاستبداد.

ما سبب اللجوء لهذا الأسلوب في توحيد المعارضة؟

هناك أسباب كثيرة، ولكن أهمها سببان:

الأول: الخلافات الأيديولوجية بين تيارات المعارضة

فهناك تيار يرى أن الحكم الرشيد لا بد أن يكون اشتراكيا يقوم بتوزيع الثروات بين الناس، بعد تأميم موارد الإنتاج وأدواته، بينما النصف الآخر في المعارضة يرى العكس تماما، فالدولة تشرف من بعيد فقط، أما الأسواق فلا بد أن تفتح للعرض والطلب.

هذا في الجانب الاقتصادي، ولا شك أن كل تيار من هذين التيارين سيكون له سلوك مختلف تمام الاختلاف في مسائل العلاقات والتحالفات الخارجية، وإدارة الشؤون الداخلية بمختلف تفاصيلها، من التعليم إلى الصحة، إلى الضرائب، إلى أسلوب إدارة كافة المرافق والخدمات.

وهذا الخلاف يشبه الخلاف الدائر في بلادنا بين الإسلاميين، وبين تيارات أخرى ليبرالية، أو اشتراكية، فلكل منها وجهة نظر مختلفة (نظريا) عن الآخر، (لا يفوتني أن أنوه إلى أن بعض التيارات السياسية قد أصبحت مجرد معكوس لتيارات الإسلام السياسي).

السبب الثاني: الثأر!

في بعض الأحيان تؤدي الخلافات السياسية إلى أحداث تخلق ثأرا بين التيارات السياسية، بسبب تصرفات ينتج عنها دماء، وأموال، وأعراض. وهذا يحدث دائما في حالات السيولية، وفترات التحول، ودائما ما يستغل النظام هذا النوع من الثأرات بين مكونات المعارضة، لكي يبقى الاستبداد جاثما على صدر الجميع.

في هذه الحالات يصعب توحيد المعارضة على المعاني (الإيجابية) التي تنتجها الديمقراطية، ويصبح التصرف العملي لتوحيد المعارضين هو أن يجمعوا على منع المعاني (السلبية) الناتجة عن الاستبداد.

ما شروط تحقق مثل هذا الاصطفاف الاستثنائي؟

لا بد في البداية من الاعتراف بصعوبة هذا النوع التوافق؛ لأن معناه الحقيقي أنه محاولة لتوحيد مجموعة مكونات متنافرة فكريا (من اليمين إلى اليسار)، كما أنها – في الغالب الأعم – تكره بعضها البعض، وكل منها يحمل ثأرا تجاه الآخر.

ما الذي يمكن أن يوحد هؤلاء؟

إنه الخطر المشترك (الدكتاتورية، الظلم، الاستبداد)… سمه ما شئت!

في حقيقة الأمر… الشرط الوحيد لتحقق هذا النوع من الاصطفاف هو أن تكون النخب السياسية على مستوى المسؤولية التاريخة الملقاة على عاتقها.

فمطلوب من هذه النخب أن تتعالى على خلافاتها، وأن تستحضر الخطر الداهم على الوطن، وأن تتنازل الأطراف المختلفة كل بقدر حجمه، وكل بقدر ما يستطيع، وأن تواجه محاولات إغوائها من قبل الدكتاتور الذي لا هم له سوى تفريق صفوف معارضيه، تارة بالعنف والوعيد، وتارة بالذهب والمناصب. وهم حين يفعلون ذلك لا يفعلونه من أجل الحرية والعدل والفصل بين السلطات… بل لحماية أنفسهم من القتل والسجن والتعذيب (المعاني السلبية كما شرحت سابقا).

هل يمكن أن تصل المعارضة العربية عامة، والمصرية خاصة، إلى مثل هذا المستوى من المسؤولية؟

في رأيي الشخصي، إن النخب السياسية المتصدرة حاليا في غالبية تجارب التحول الديمقراطي في الوطن العربي؛ ليست مؤهلة لتجاوز مثل هذا الاختبار السياسي الصعب.

ولكن إذا تحدثنا عن التجربة المصرية بالذات… فإنني أحب أن أنوه إلى أننا لا ينبغي أن نغفل وجود من يعتبرون صفا ثانيا من القيادات المؤهلة في الداخل والخارج، هذا الصف الثاني يتميز بميزتين أساسيتن، الأولى: أن غالبيتهم العظمى من الشباب (تحت الأربعين، وكثير منهم تحت الثلاثين).

والثانية: أنهم من جميع التيارات السياسية، وهم منفتحون على الآخر.

هذا الجيل من القيادات بعضه منفي في السجون، وبعضه مسجون في المنافي، وكلاهما على أهبة الاستعداد لتولي مسؤولية تاريخية في لحظة من أصعب اللحظات التي مرت على أوطاننا في تاريخنا كله.

إن مصر تمر اليوم بمنعطف خطير، يقتضي من كل السياسيين أن يصلوا إلى حل يؤدي إلى إسقاط هذا النظام الذي يشكل خطرا وجوديا على مصر، فإذا لم يكن هناك إمكانية أن نتفق على ما نريد… فلنفكر في الاتفاق على ما لا نريد!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد