مصر أمام شكل جديد للمعارضة لم تعهده منذ الحركة الوطنية من 1879 حتى 1882 وثورة 1919.
ربما هي المرة الثالثة التي تتوافق فيها الجماعة الوطنية على قضايا عليا مشتركة لا خلاف عليها، وتقف مجتمعة في جانب بينما السلطة التي تُدير البلاد – أو قل تفككها – في جانب آخر.
تماماً كما فعل الخديو توفيق الذي احتمى بالقناصل الأجانب وبالمراسيم السلطانية وبالجيش الإنكليزي في مواجهة الحركة الوطنية، وورثته الذين استنجدوا بالمحتل في مواجهة ثورة المصريين، فإن السلطة الحالية ليس لها أي غطاء شعبي، ولا تستند إلا إلى دعم خارجي مقابل ما تقدمه من تنازلات وتوقعه من اتفاقات تفرط بموجبها بحقوق سيادية وتفكك بها مكونات حزمة القوى والعناصر التي تشكل مصدر القيمة الحضارية لمصر.
وفي المقابل، فإن الشعب بفئاته كلها، بدءاً بالقلة الثرية والفئة المتوسطة والجماهير الغفيرة المطحونة، أصبح يعاني جميعاً من تجريف اقتصادي يستهدف إفقار الغني وخنق الطبقة الوسطى وسجن الفقير في فقره للأبد؛ ليُصبح أغلبية المصريين أشبه بأقنان الأرض الذين يجري بيعهم مع نقل ملكية الأراضي بين الإقطاعيين.
كذلك فإن القوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مروراً بالليبرالي واليساري والعلماني والإسلامي ومن شارك في ثورة يناير ومن عارضها، جرى وضعهم جميعاً في خانة "الأشرار"، في مرحلة لا تقبل من يُفكر أو يُدقق أو يُطالب بأن يفهم حتى ولو لم يعترض.
لم تعد الجماعة الوطنية في وضع يسمح لها بأن تختلف في التحليل أو تتنازع حول طرق الحل؛ لأنها بكل بساطة لا تواجه حالة يستعصي فهمها. فهي بوضوح أمام عملية تدمير للدولة ومحو للجماعة الوطنية في ذاتها وبكل مقوماتها وأياً كانت مواقف أطرافها.
فمصر لم تعد تعاني من خلل اقتصادي أدى لاختلال ميزان العدالة الاجتماعية، أو من غياب الحقوق والحريات وانهيار الحياة الدستورية وغياب القانون كما كان الوضع منذ ثماني سنوات بنهاية عهد مبارك، وهو ما استدعى ثورة يناير الإصلاحية.
فالوضع القائم يحتاج لمسيرة وطنية مختلفة للإنقاذ والإصلاح، ربما تبدأ بتغيير النظام، لكن سيكون عليها أن تستمر لتصفية آثار هذه الحقبة الظلامية ولاسترجاع ما جرى ويجري التفريط فيه بسرعة وتعجل غير مسبوقين.
وإذا كان منطقياً أن تختلف أي جماعة وطنية على تحليل وضع مختل وطريقة العلاج، فإنها لا تملك هذه الرفاهية عندما تواجه أوضاعاً منهارة تُهدد الدولة في وجودها والشعب في بقائه، وعندما يكون واجبها هو تحرير إرادة الوطن وقراره السياسي ومجاله الاقتصادي.
ومن ثم لم تعد اقتراحات إصلاح النظام من الداخل ذات مصداقية في مواجهة سلطة تشكلت أساساً على أساس قتل المعارضين وتصفيتهم وشراء شرعيتها مقابل التفريط بالحقوق الوطنية. ولن تؤدي هذه الاقتراحات إلا لإعطاء السلطة مساحة أكبر للتقدم للأمام، وهي تسابق الزمن لإنهاء كل مصادر القوة الوطنية.
كما أن محاولة وضع الأمور باعتبارها شكلاً من الاستبداد والحكم العسكري في مواجهة معارضة له، سيكون خطأ تاريخياً؛ لأنه يقر للسلطة بأنها تمثل واحدة من مؤسساتنا الوطنية على غير الحقيقة، فهي كما تنكل بالشعب تنكل بالجيش، وكما تفرط في الأرض، تُفرط في الجيش باتفاقات تُقيده أو بمعارك وهمية تُنهكه، أو بتوريطه في الحياة المدنية وأعمال البزنس والسمسرة.
وربما كان اعتقال الفريق عنان ومن قبله العقيد قنصوة، رسالة واضحة بأن هذه السلطة لا تُمثل الجيش كما لا تُمثل الشعب. فخطوة اعتقال رئيس أركان الجيش السابق لا تختلف – بالنسبة للجيش – عن خطوة اختطاف رئيس مدني بالنسبة للشعب.
بمقاييس الانقلابات، نحن أمام انقلاب على الشعب وآخر على الجيش، في ظل هذا التمايز الذي تمارسه السلطة بين شعب وجيشه، يكون علينا واجب إيضاح أنها لا تعتد بالجيش كما لم تعتد بالشعب.
وحتى القضايا الاقتصادية، أصبح من الخطأ البحث عن حلول لها في كتب الاقتصاد البحت أو الاقتصاد السياسي، وأمسى من غير ذي قيمة الجدل حول أن يكون الإصلاح بالقبول بروشتة صندوق النقد أو برفضها.
فالاقتصاد الوطني أصبح بذاته مجالاً للاحتلال الأجنبي بما فاق تلك الحالة التي استمرت في مصر منذ هيمنة صندوق الدين على الاقتصاد المصري في عهد سعيد وإسماعيل باشا حتى معارك التمصير الكبرى التي قادها مصريون وطنيون، امتلكوا روح المبادأة وحلم بناء منظومة اقتصادية وطنية مستقلة.
في مصر اليوم يتسرب نفوذ أجنبي لدول كالشركات وشركات كالدول في كافة القطاعات الاقتصادية، خصوصاً الاستراتيجية منها. كما أن الحصول على حقوق امتياز على مساحات هائلة من الأراضي الاستراتيجية المصرية، لا يُقيد فقط أي برنامج اقتصادي إصلاحي في المستقبل، وإنما يقيد الإرادة الوطنية ذاتها.
إن التكييف الواضح والحقيقي للحالة التي تمر بها بلادنا، أنها مرحلة احتلال بالوكالة، فدول كبيرة وصغيرة أصبحت نافذة في الشأن المصري بأكثر مما تملكه السلطة الظاهرية التي نراها توقع المراسيم وتصدر القرارات وتصدق على الاتفاقات.
وبالتالي فإن مطالب التحرر الوطني يجب أن تعود إلى مائدة الجماعة الوطنية، لتُصبح أساساً للتوافق ولأي برنامج عمل وطني للإنقاذ والإصلاح.
الاستقلال التام أصبح هو الحلم الذي يُراود كل مصري، وهو يرى قراره الوطني مرهوناً برضى دول صغيرة وأخرى عظمى، واقتصاده منتهباً من كل من هب ودب.
وكما كانت مطالب الحركة الوطنية في 1879 حياة دستورية ومراقبة على موازنة البلاد وتحرراً من النفوذ الأجنبي، وهو ما أعادت ثورة 1919 رفعه مضافاً إليها الاستقلال الوطني في مواجهة محتل غربي، فإن الجماعة الوطنية اليوم تحمل نفس هذه المطالب مع تفصيلات قد تختلف قليلاً، لكنها في العموم متطابقة.
وبعد انتخابات ثبت مما أحاطها من ظروف وملابسات، أن السلطة القائمة لا تملك شرعية تجعلها تمثل مصر الدولة أو الشعب على أي مقياس من مقاييس الديمقراطية أو حتى النظم الاستبدادية التي لها جذور وطنية.
فإن الجماعة الوطنية اليوم مُطالبة بأن تبتكر الأدوات التي تسمح لها بأن تُصبح هي من يُمثل الوطن ويُعبر عن الشعب.
وتحمل ذاكرتنا الوطنية عشرات التجارب التي استعادت فيها الجماعة الوطنية حق تمثيل الوطن في الداخل والخارج، بينما فضحت حقيقة السلطة بأنها لا تُمثل إلا النفوذ الأجنبي وجماعة المنتفعين منها.
ويجب أن يُدرك الجميع أن السلطة تعتبر نفسها في سباق مع الزمن، فهي ترغب في أن تستبق أي حراك للجماعة الوطنية لغلق كل القضايا ولجعل البلاد على حافة هاوية بحيث يكون الوصول للحلول مستحيلاً، أو يكون ثمن المطالبة بالتغيير انهياراً كاملاً.
نحن في عصر التفريط الذي يمثل الثمن للبقاء في السلطة. والتفريض يقتضي تفكيك عناصر القوى والمقاومة الداخلية، وما جرى في خمس سنوات سابقة سيتضاعف في الفترة المقبلة.
وعلى الجماعة الوطنية أن تستعد لذلك، وأن تكون أهلاً لمجابهته، خصوصاً أنها تملك قدرة على كبحه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.