السكتة السياسية

وكما أن مرض القلب المزمن يؤدي إلى تأثير سلبي على أعضاء أخرى بالجسم مثل الكُلى والكبد، فإن وفاة الأمة بالسكتة السياسية تؤدي إلى أنواع أخرى من الوفيات بالسكتات الاقتصادية والأخلاقية والإعلامية والعلمية وغيرها...

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/26 الساعة 00:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/26 الساعة 00:08 بتوقيت غرينتش

إن الكائنات الحية تموت أحياناً بما يسمى السكتة القلبية والسكتة الدماغية، والبلدان والأمم تموت أيضاً بسكتات مفاجئة، والسكتات القلبية لا تأتي فجأة للناس، إنما يسبقها فشل أو مرض مزمن في القلب؛ حتى تأتي القشة التي تقصم حياة القلب، فيقع مريض القلب المزمن فجأة بالسكتة القلبية.

والسكتات المفاجئة للأمم لا تأتي بين غمضة عين وانتباهتها، إنما تأتي بعد مرض أو عدة أمراض مزمنة في الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الإعلامية أو الأخلاقية أو المعلوماتية أو العلمية… إلخ.

والأمة التي تموت بالسكتة السياسية تسبقها أعراض المرض السياسي المزمن مثل:

1- لا توجد أحزاب سياسية
إن الأحزاب هي العمود الفقري للسياسة في النظم الديمقراطية؛ فلا توجد سياسة بدون أحزاب سياسية حقيقية تتنافس فيما بينها في برامجها السياسية التي تقدمها للشعب، وتتنافس أيضاً في العملية الانتخابية، ولا يستمر في الحكم إلا الأصلح.

والأحزاب السياسية تفرخ كوادر حزبية تعمل بالسياسة، وتتمرّس في الحكم وفي إدارة دولاب الدولة، حينما تأتيها فرصة الفوز في الانتخابات.

أما في النظم الشمولية والديكتاتورية والسلطوية، فلا توجد سياسة ولا توجد أحزاب، وإذا وُجدت أحزاب، فلا يوجد إلا الحزب الواحد الذي يقبض على مقاليد الحكم بقبضة من حديد، وإذا وُجدت أحزاب حول ذلك الحزب الواحد القابض على الحكم، فإن دورها لا يتعدى الديكور السياسي، كما حدث في مصر منذ منتصف سبعينات القرن العشرين وحتى الآن، وطبعاً، لا يوجد ثمة أمل في حصول تلك الأحزاب على الأغلبية في الانتخابات لكي تحكم؛ لأنه لا توجد منافسة حقيقية ولا انتخابات حقيقية، إنما يوجد تزوير فاضح لصالح الحزب الواحد، وخير مثال على ذلك هو الحزب الواحد الذي حكم مصرنا المكلومة منذ انقلاب يوليو/تموز 1952 والذي ارتدى عدة أثواب (هيئة التحرير والاتحاد الاشتراكي وحزب مصر والحزب الوطني الديمقراطي).

ولما قامت ثورة يناير/كانون الثاني 2011، سقط على أُم رأسه ذلك الحزب الواحد الفاسد الذي يحتل مصرنا الحبيبة منذ انقلاب يوليو 1952!

ولما قامت انتخابات حقيقية بعد الربيع العربي في 2011، لم تجد الشعوب العربية إلا اختيار التيار الإسلامي، وعلى رأسه جماعة الإخوان المسلمين؛ ثقة في ذلك التيار النظيف وغير الملوث بأي فساد.
ولكن هل هذا التيار الإسلامي يمتلك كوادر تستطيع إدارة دولاب العمل في الدولة التي يحكمها؟ طبعاً الإجابة بالنفي؛ لأن الحزب الواحد المسلط علينا لم يسمح لأي كوادر تتدرب وتتمرّس على إدارة الحكم من الأحزاب الكارتونية التي وضعها للزينة السياسية ولا لأي قوى أخرى.

ومع ذلك، فقد بذل التيار الإسلامي كل جهد حتى يصلح ما فسد على يد الحزب الواحد الذي جثم على أنفاس البلد وأفسد كل شيء. ولم يُترك التيار الإسلامي لكي يصلح الخراب الذي ينعق في أرجاء البلدان، إنما قامت خفافيش ظلام العهد البائد بالثورة المضادة وأجهضت أول تجربة ديمقراطية نزيهة بمصرنا الحبيبة في عصرنا الحديث في انقلاب 3/7/2013، ووقف الغرب المتمسح بثياب الديمقراطية الزائفة مع الثورة المضادة، وأغمض ذلك الغرب (الديمقراطي والمتحضر) عيونه عن المجازر الدموية التي قامت بها الثورة المضادة، وعلى رأسها العسكر الذين يحتلون بلادنا باسم الجيوش الوطنية!

2- لا توجد انتخابات حقيقية
حيث إن الحاكم المتسلط إما أن يكون في صورة أسرة تحكم باسم الملكية، أو مجموعة باسم الطائفية، أو فئة متسلطة على البلد باسم قادة الجيش، أو فئة رجال دين تحكم باسم الدين وما يسمى (حكم الفقيه)؛ فلا ثمة أمل في الأفق لإجراء انتخابات نزيهة لانتخاب الحاكم ونظامه الذي يمثل الشعب.

والذي يتجرأ ويصدق أن هناك انتخابات حقيقية، فإن الحاكم المتسلط يلفق القضايا لذلك المتجرئ كما حدث لأيمن نور في انتخابات الرئاسة في 2005، وفئة أخرى تنقلب على متجرئ آخر صدق أن الشعب سينتخب حاكمه بنزاهة، فإذا به يجد نفسه في غياهب السجون بعدما كان في أبهة الحكم.
وانظر إلى مهزلة الانتخابات الرئاسية في مصر 2018!


3- قانون الغابة

الدولة ليست دولة قانون وإن تسمّت بذلك، ولا يوجد دستور حقيقي مطبق على أرض الواقع وإن كان هناك دستور. والقضاة موجودون تحت شعار "قاضٍ تحت الطلب"؛ فهو ينفذ الأوامر التي تلقى إليه بالهاتف، وأحكام الإعدام تصدر بالجملة وحتى بدون أي قراءة لمحاضر المباحث العامة أو الخاصة، والإعدام يتم أحياناً على سرير المعارض وبدون أي قانون سوى قانون وشريعة الغابة!

أما المجالس التشريعية فوظيفتها الرئيسية هي التسبيح بحمد الحاكم والتقديس له، والموافقة بالأغلبية الساحقة لكل قوانين الحاكم والحكومة. والقوانين ذاتها يصدرها الحاكم وينشرها في الجريدة الرسمية بدون الرجوع إلى مجالس المآتة التشريعية؛ فلا فصل بين السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية.


4- إجراء المعاهدات والاتفاقيات بدون الرجوع للشعب

وليت الأمر توقّف عند اختلاط السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، إنما تعدى إلى أن الحاكم بأمره يعقد معاهدات واتفاقيات مع دول أخرى، ولا يعرف الشعب عنها شيئاً، وأحياناً توجد بنود سرية ولا تُعرف أبداً؛ انظر إلى البنود السرية في معاهدة كامب ديفيد عام 1978 بين مصر والكيان الصهيوني، وانظر إلى اتفاقية سد النهضة بين مصر وإثيوبيا عام 2015 ولا نعرف عنها أي بند، واتفاقية بيع جزيرتي تيران وصنافير للسعودية أمام دراهم معدودة ولا نعرف عنها أي بند، وحتى تلك الدراهم لا نعرف قيمتها!

وكيف يعود الحاكم للشعب في أي اتفاقية، والشعب لم ينتخبه أصلاً؛ فالحاكم بأمره لا يعرف شعبه ولا يعترف به أصلاً، ولسان حال ذلك الحاكم، شعار (حلال علينا البلد ونفعل به ما نشاء).

5- سياسة فرّق تسُد
لكي يستمر المحتل والحاكم المتسلط على أي دولة، فإنه يمزق الشعب إلى طوائف وشيع، ويبث الفتنة الطائفية بينها:
– أنتم شعب ونحن شعب.. لنا رب ولكم رب.
– الجماعة الإرهابية.
– المعارض للنظام إرهابي.
– أهل الشر…

6- تغييب الوعي بالإعلام المضل والموجه من أجهزة المخابرات

إعلام الحكام بأمرهم وظيفته الرئيسية هي تضليل الشعب وتغييب وعيه وزرع الخوف من عدو خارجي أو داخلي، مثل الإرهاب، وحتى مانشتات الجرائد متشابهة وتخرج من جهة واحدة وهي أجهزة المخابرات، والأبواق الإعلامية المختلفة تتلقى مادتها أيضاً من أجهزة المخابرات.

7- زرع الخوف والهلع والرعب في النفوس
تقوم الأنظمة الديكتاتورية والمتسلطة بزرع الإرهاب والخوف في نفوس الشعب حتى لا يقوم بأي ثورة، وهذا يفسر لنا القتل المروع في رابعة والنهضة في 2013، والمقصود ليس إرهاب التيار الإسلامي وأنصار الشرعية فقط، إنما المقصود هو قتل الثورة في نفوس الشعب المصري؛ حتى لا يقوم بثورة ثانية لأحقاب تالية.

8- هجرة الطبقات المتعلمة إلى الخارج
ومن الملامح الخطيرة للدول التي تموت بالسكتة السياسية، أن الطبقة المثقفة والمتعلمة تهاجر بلدها إلى الخارج؛ لأن الوطن يصدر الجهل والجهلة في الصورة (جهاز كفتة يقتل الفيروسات)، وفي ذات الوقت، يطرد كل عقل متنور ومبدع، ويطارد كل مواطن حر وشريف.

9- تجريف ثروات الوطن وتهريبها للخارج
إن الحكام الطغاة والديكتاتوريين والسلطويين لا يشعرون بالأمان أبداً؛ لذلك فإنهم يجرّفون ثروات البلد ويهربونها للخارج؛ لكي تنتظرهم هناك لو انقلب عليهم أي طاغية آخر.

ومن المتوقع في الدول التي تموت بالسكتات السياسية أن تجد السجون تُشيد والطائرات تُدمر وتُخطف بحزام لشد الظهر؛ لأنها (دولة فاشلة)، وعدد المنتحرين كُثر وفي ازدياد، والفقر المدقع ينهش في حياة أغلب الجماهير، والتعليم في تدهور صاعق، والاقتصاد في خراب ناعق، والسياحة في تدمير ماحق، والعملة الوطنية في انهيار ساحق، وحتى آثار البلد تُهرب للخارج بأعداد مهولة… إلخ.

وكما أن مرض القلب المزمن يؤدي إلى تأثير سلبي على أعضاء أخرى بالجسم مثل الكُلى والكبد، فإن وفاة الأمة بالسكتة السياسية تؤدي إلى أنواع أخرى من الوفيات بالسكتات الاقتصادية والأخلاقية والإعلامية والعلمية وغيرها…

إن الكوارث المروعة تتجرعها الأمم التي تصمت عن الظلم الواقع بها، وتسير داخل الحائط، وتغمض عينَيها عن سرقة مقدراتها ومقدرات الأجيال التالية.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد