عن عمد يحدث الآن قطع للتواصل ما بين المصريين وبين تاريخهم القديم والحديث، وهذا القطع الهدف منه التلاعب بالوعي لصالح تزييف الواقع؛ لكي يستمر النظام الحاكم في السلطة على النهج الديكتاتوري الحاصل الآن ومنذ الانقلاب في 3 يوليو/تموز 2013 وهذا أسلوب مارسه أيضاً الحُكام الديكتاتوريون الذين توالوا على مصر بعد انقلاب الجيش واستيلائه على السلطة في 23 يوليو/تموز 1952 ومنذ ذلك الحين فقد عمد العهد الجديد للضباط في الحكم، إلى إنشاء وزارة جديدة "للإرشاد القومي" عرفتها مصر لأول مرة؛ تتولى بصفة رسمية التلاعب في وعي المصريين والتلاعب في تاريخهم لصالح استمرار حكم الضباط، وكانت هذه الوزارة تَخلط ما بين الدعاية وتزييف التاريخ وتعمل على فصل المصريين عن تاريخهم الحقيقي، وقد استمر هذا طابعاً لهذه الوزارة التي أسسها المدني "فتحي رضوان"، وقد تولاها بعد ذلك الضابط "صلاح سالم" عضو مجلس قيادة الانقلاب بإشراف وتوجيه مباشر من رجل الانقلاب القوي "جمال عبد الناصر"، وقد استمر هذا المنهج المتلاعب والدعائي طوال عمل هذه الوزارة منذ تأسيسها وحتى تم تغيير شكل عملها مؤخراً، دون أن تتغير طبيعة المهام والوظائف التي كانت تقوم بها كآلة دعاية لصالح النظام الحاكم، بحيث تبقى دائماً غشاوة على أعين المصريين تمنعهم من كشف التزييف العمدي في رواية وقائع تاريخهم، وما يترتب على ذلك من استغلال هذا التزييف لصالح الحُكم القائم.
طوال سنوات حكم "السيسي" الخمس الماضية فقد كانت آلة الدعاية وتزييف الواقع والتاريخ تعمل متزامنة مع آلة القمع، على "تسليس" خشونة الحكم الديكتاتوري الذي ينتهجه "الرئيس الذي كسر كل قواعد الدستور والقانون والمنطق، ولكن كل الاستخفاف بالشعب وحقوقه لم يخلق إلا حالة أزمة حكم وأزمة دولة: هذا وسوف يستمر التأزم السياسي في إدارة منظومة الحكم في مصر؛ وسوف تستمر "طفرات" التعقد في "أزمة الحكم"؛ لأن من أمسكوا بالسلطة غصباً أو طوعًا كل انشغل بمصالحه عن الهدف الذي يحقق "عدالة النظام الحاكم"، الذي يحمي كل المصالح للقوى المختلفة في السلطة وخارجها، ولهذا لم يأتِ على مصر النظام الذي يعتلي السلطة وفي نفس الوقت لا يتجاهل الشعب أو يتلاعب به أو يخدعه أو يستخدمه كوقود للاستمرار في الحكم ، ثم بعد ذلك يُهمش الشعب في إدارة السلطة ويُهمش الشعب في ميزان العدالة الاجتماعية.
لقد تضاعف السوء في "أزمة الحكم" بعد الإطاحة "العسكرية" بالرئيس مبارك في يوم 11 فبراير/شباط 2011؛ لأن الأزمة تعقدت بفعل "أزمات" أخرى منها أزمة الحاكم نفسه، إلى جانب "أزمة النظام" الذي كان من المفترض أن يمثل الشعب أساساً في إدارة الدولة، ثم تعقدت الأوضاع، بأكثر من "أزمة النظام وأزمة حاكم النظام" إلى أزمة أخطر، وهي فشل الحاكم في إدارة السلطة وتبديد أساس وجود الدولة؛ بل إن نظام الحُكم خلق إشكالية مهددة لكيان الدولة المصرية نفسها بعد الانقلاب "الثالث" في سلسلة الانقلابات المصرية الرئيسية، فقد حدث بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 أن تمترس الانقلاب حامياً نفسه خلف الشعب وأخذ الأغلبية من الشعب دروعاً بشرية؛ بل إنه أخذ المصريين في الواقع "رهينة" بادعاء أنه أخذ تفويضاً من الشعب، على أساس أنه سوف "يحمي الشعب من أعداء الشعب"، رغم أن هذا الشعار الأجوف وآليات تنفيذه كان حيلة "ابتدعها" الرئيس جمال عبد الناصر؛ وقد اتبعها من بعده "الرئيس" عبد الفتاح السيسي.
والحاصل أن الواقعية الشخصية والسياسية غائبة فيمن يتولون السلطة الآن في مصر، فلا أحد لديه القناعة بشفافية "إدارة الحكم" أو أن "الديمقراطية" واجبة وأن الالتزام بالدساتير التي أقرها الشعب "سيف" على رقبة الحاكم، لا يجوز التنصل من حده القاطع، إذا ما تم الإخلال بأي من تعهدات الحاكم للشعب ودستوره.
والحاصل في مصر الآن أيضاً أن دروس التاريخ الثمينة مهملة؛ بل التاريخ الآن يداس عليه بالبيادة وتمزق وثائقه، والإعلام السلطوي يستخدم أحط حيل التلاعب بوعي المصريين ويتمادى في إغراقهم في ضباب لا يمكن الرؤية الصحيحة من خلاله، ولم يبق من "حيل السلطة" الآن للاستمرار في الحكم غير الجري وراء سراب أميركي أطلقه الرئيس "دونالد ترامب" سواء حمل اسم: الشرق الأوسط الجديد أو صفقة القرن أو "الحل السحري"، وهي طروحات سابقة من عهد الرئيس الأميركي "هاري ترومان" وقد قبلها بعض العرب ورفضها آخرون فبقيت مؤجلة حتى جاء الأميركي ترامب والمصري السيسي والسعودي سلمان وولده محمد والإماراتي محمد بن زايد والأردني عبدالله بن حسين والإسرائيلي بنيامين نتنياهو والفلسطيني محمود عباس والفلسطيني الآخر محمد دحلان؛ ليصنعوا الحلف الجديد لإدارة الشرق الأوسط بخلق تكتل وحلف سياسي واقتصادي وعسكري؛ متصادم مع التاريخ ومع مصالح الشعوب العربية في مجموعها.
وهي مشروعات كما فشلت أول مرة فسوف تفشل هذه المرة أيضاً، ولكن بعد أن تفجر المنطقة بأكثر من تفجرها الحالي والأفضل للشعوب العربية.
فض هذا الحلف ومشروعاته قبل أن تخسر من الشعوب العربية أكثر، وأيضاً فإنه في المنظور القريب فلن يستفيد من هذا "الحلف" وهذا التحالف؛ الحكام العرب الذين تورطوا فيه أو دخلوا إليه تحت حاجة الرغبة في الاستمرار في السلطة.
ومثلاً لن يفيد "السيسي" الذي يتطوع في معارك الحلف "الأميركي السعودي" من أجل مظلة مستمرة للاشرعية التي يكمل بها رئاسته الثانية، بما لا يليق بحجم مصر ولا بطبيعة شعبها؛ فهو لم يبقَ من حيلة من حيل السلطة المتوارثة عن الانقلاب العسكري الأول في يوليو/تموز 1952 إلا وجربها.
ولم يبق لنظام السيسي ليجربه غير مخاصمة التاريخ ومخاصمة الواقع والحقائق وخلخلة مؤسسات الدولة؛ لصالح حكم الفرد المعتلي "جيش السلطة" منذ التخطيط في 2011 لإجهاض محاولة "الثورة الشعبية"، وألا تصبح واقعاً في مصر؛ فقد تم إجهاض مشروع "الثورة الشعبية" بمخطط للثورة المضادة؛ وكان "اللواء السيسي" من مجموعته المنفذة؛ وقد تمادى المخطط حتى أصبح السيسي رئيساً للدولة لفترة رئاسية أولى ولفترة ثانية وربما لفترات أكثر وهو في نفس الوقت يمثل "الثورة المضادة بوجهها الناعم المخادع والمحطم" لكل أحلام المصريين؛ وأغلب الظن أن هذه الازدواجية وهذا الخداع لن يستمر بدون مواجهات وبدون اختبار جدي حتى مئوية ثورة المصريين التي حدثت في عام 1919 عندما يحين موعد هذه المئوية في عام 2019 فوسط الكمون تنبثق المفاجآت المنذرة وكان آخرها ما حدث من "هتاف الحرية" في نهاية مباراة لكرة القدم بالقاهرة.
وهو ما سينعكس خطراً في حالة حدوثه على كل مشروعات "الحلف" الذي يجب فضه لصالح المصالح الأوسع لكل شعوب المنطقة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.