عند كل محطة تفاوُض دُعيت إليها المعارضة السورية، منذ انطلاق مسار جنيف 2 للمفاوضات عام 2013 بإشراف الأمم المتحدة، مروراً بمؤتمرات فيينا ومقرراتها ومحادثات أستانة وهُدنها، ظل السؤال عن أيهما أولى، وقف المقتلة الكبرى بحق الشعب السوري المتروك وحيداً في الميدان، أم مواصلة التركيز على سقف مطالب الثورة السورية وعلى رأسها رحيل الأسد، السؤال الأهم والأكثر تداولاً بين السوريين.
للوهلة الأولى، يبدو أن الشعب السوري، الذي ما زال يناضل لانتزاع حقوقه الشرعية من نظام التسلط والطغيان على مدار 7 سنوات، أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما التمسك بإسقاط النظام لتحقيق مطالبه بإقامة دولة الحرية والكرامة والعدالة، وانتقاماً لقرابة مليون شهيد وملايين الجرحى والمعتقلين واللاجئين والمهجّرين، وإما الدخول في تسوية مع النظام وفق صيغة حدود الممكن لا المطلوب، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
مع تضاعف المأساة وتعمقها، وخاصة مع ما نشهده من مذابح في الغوطة الشرقية وإدلب في هذه الأيام، وانكشاف المواقف المتخاذلة، يوماً بعد يوم، من دول كانت تحسب على "أصدقاء" الشعب السوري، بدأت ترتفع أصوات هذه الدول ومعظم الفاعلين الدوليين، وأيضاً بعض أطياف المعارضة السياسية، للقبول بتسوية سياسية مع النظام، قد تشمل، وبالضرورة، التنازل عن رحيل الأسد كشرط أوّلي أو كمدخل للتسوية.
مع عقد مؤتمر الرياض 2 في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، كانت العيون والآذان الإقليمية والدولية تنتظر رؤية وسماع ميثاق جديد للمعارضة لا ينص على رحيل الأسد كشرط من شروط التسوية السياسية المنشودة، وقامت الأجهزة الإعلامية الإقليمية والدولية بتصوير المسألة كعقدة وحيدة تواجه الحل، وأن انحلالها يعني حل القضية السورية برمّتها ووضع قطار الانتقال السياسي على سكّة التوافق الدولي الذي رسم بريشته الملطخة بدماء السوريين حلاً سياسياً بخط أعوج، خلق من العقبات والتحديات أكثر مما خلق من الحلول.
وضع مؤتمِرو الرياض حلهم السحري للعقدة المفترضة، ونصّوا في بيانهم الختامي على أن لا شرط مسبقاً على المفاوضات مع نظام الأسد، على أمل تحقق "المستحيل" أو الوعد الدولي بدفع الجهود للأمام؛ ليتبين لاحقاً أن ما توهموه تضحية عظيمة وحلاً سحرياً غدا دَيناً مستحقاً متأخر السداد، ومتراكم الفوائد، في تحايل جديد على الشعب السوري.
التركيز على شخص الأسد ومصيره، سواء بوصفه جزءاً من المشكلة أو حلاً لها، إذن، ليس سوى محاولة تشويش متعمدة، وخلط للأوراق من قِبَل الغرب وروسيا معاً، واختزال مفضوح للقضية السورية وطبيعتها وجذورها غير المعقدة والقابلة للحل.
فالشعب السوري عندما طالب بالحرية والكرامة والعدالة إنما كان يطالب بإعادة صياغة للعقد الاجتماعي الراهن، واعتماد الديمقراطية كسبيل وحيد لتداول السلطة وضمان عدم عودة نظام الفساد والاستبداد، وبهذا المعنى يغدو مصير الأسد تفصيلاً حقيراً في المعادلة؛ لأن رحيله لا يمكن أن يكون كافياً بحال لتحقيق ذلك الهدف، بل ربما استخدمت بعض الأطراف رحيله لإعادة إنتاج النظام في ثوب جديد.
وفي ذات الوقت، لا يمكن على أرض الواقع تحقيق وقف نزيف دماء السوريين، بصفة دائمة ومستقرة وغير قابلة للانهيار، من دون تحقيق أدنى متطلبات عملية التغيير إياها على الأقل.
فالبحث الجاد عن حل قائم على مفاوضات تفضي إلى حكومة مؤقتة يشترك فيها مسؤولون في النظام والمعارضة، وتتولى إعادة صياغة الدستور والإشراف على انتخابات عامة تؤدي إلى قيام حكومة منتخبة ديمقراطياً، وتُعيد تأهيل وهيكلة مؤسسات الدولة، لا سيما تلك المستلبة، لا يكون جاداً ما لم يتمكن من فتح الثغرة المطلوبة في صندوق النظام المغلق بإحكام، تلك الثغرة التي تفتح الصندوق بشكل يمكن التعامل معه لا يمكن أن تكون سوى إزالة القفل، وهو في حالتنا رأس النظام وزعيم عصابة آل الأسد وأذرعهم الأخطبوطية.
بهذا المعنى، يمكن أن يتحرك المفاوض السوري ويناور ويتنازل عن كثير من المطالب بما فيها العدالة الناجزة، ولكن على أرضية ثابتة وضمن آفاق واضحة، وعلى أساس معادلة رابحة.
فمصير الأسد ليس هو الهدف النهائي، بل هو مجرد تفصيل في مقياس المطلب الرئيسي، إلا أنه لا بد منه، وإذا كان ثمة من ضرورة للمناورة والتنازل، فالسوريون مستعدون نفسياً وسياسياً للقبول بفكرة إزالة فاعلية وتأثير الأسد إن لم تتسنَّ إزالته كشخص، وذلك ببقائه في منصبه منزوع الصلاحيات، ينتظر مواجهة مصيره الحتمي بعد قيام حكومة منتخبة ومؤسسات ذات مصداقية.
في الواقع، لم يُعرض على الشعب السوري عرض جاد من هذا القبيل ورفضه، ولا حتى مؤسسات المعارضة، مهما قيل حول تضييعها المفترض لفرص كثيرة منذ عام 2013، ومهما علت أصوات المكلومين وصرخات الغاضبين، وأي تصوير للمشهد بعكس ذلك إنما هو تزييف للواقع بهدف التغطية على العجز أو التواطؤ.
المشهد الحقيقي على الشكل التالي، عدم جدية الغرب من جهة، وإصرار روسيا وإيران على تحقيق النصر الميداني الكامل من جهة أخرى، واستخدام الاتفاقيات المبرمة مع تركيا كغطاء سياسي لمواصلة مشاريعها، وانكفاء الدول العربية التي كانت فاعلة في الملف السوري طيلة أعوام قبل أن تقرر الانسحاب العشوائي، يجعل من عملية التخيير المفترضة لا معنى لها، ويدفع الشعب السوري لمواصلة خياره الوحيد كما هو، مع ما يرافق ذلك من تشظّ متزايد وانقسام الولاءات للدول الأجنبية الفاعلة في الملف.
ينبغي توجيه سؤال أولوية الملف السوري، إذن، إلى المجتمع الدولي، أو ما تبقى منه فاعلاً في مثل هذه الأوضاع، وخاصة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كونهما يقبعان على رأس هذه المنظومة الدولية أولاً، وكونهما قوتين فاعلتين ميدانياً في سوريا، فقد أصبح معلوماً للجميع أن القوات الأميركية ومعها قوات بريطانية وفرنسية ووحدات عسكرية رسمية من دول أوروبية أخرى باتت تعد بالآلاف في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، والقواعد العسكرية الأميركية تصل إلى 12 قاعدة، بحسب بعض التقديرات.
أما روسيا وإيران فلا يمكن توجيه هذا السؤال لهما؛ لأن هذا السؤال في الحقيقة هو سلاحهما الذي يقاتلان به الشعب السوري على الساحة الدولية، والعجز في الإجابة عليه حجّتهما في تبرير هجماتهما الوحشية وجرائمهما المستمرة والمتجددة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.