تمر العلاقات التركية – الأميركية بمرحلة ساخنة، ويشهد خط أنقرة – واشنطن هذه الأيام، سلسلة لقاءات مكثفة على أعلى المستويات، فبعد زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي ماكماستر إلى تركيا نهاية الأسبوع الماضي، زارها وزير الخارجية ريكس تيلرسون، فيما التقى وزيرا دفاع البلدين قبل ايام في بروكسيل.
في خطوات تأتي في سياق محاولات واشنطن للتقليل من حدة التوترات مع أنقرة، على خلفية غضب الأخيرة بسبب دعم اميركي للامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا والـ"ناتو"، ولمحاولة احتواء عملية "غصن الزيتون" التي بدأتها تركيا مؤخراً في الشمال السوري، وقضايا أخرى لا تقل اهمية كملف فتح الله غولن الموجود في الولايات المتحدة، والمتهم تركياً بمحاولة الانقلاب الفاشلة.
كانت تركيا بالنسبة إلى الأميركيين، ولا سيما في الحقبة التي تلت انتهاء الحرب الباردة، جزءاً من السياسة الأميركية الإقليمية في احتواء العراق وإيران، وتدعيم عملية السلام في الشرق الأوسط من طريق توسيع التعاون التركي- الإسرائيلي، إضافة إلى مراوغة موسكو وطهران، والالتفاف عليهما في نقل الطاقة من آسيا الوسطى وبحر قزوين إلى الأسواق العالمية؛ حيث استفادت واشنطن من موقع تركيا المهم. ووفق الخبير في شؤون الطاقة رئيس مجلس إدارة كريون إينرغي (أكبر شركة للاستشارات في قطاع الطاقة الروسي) فارس كلزية في حديث لـ"الحياة"، "تعتبر تركيا اليوم ثاني أهم وأكبر مستورد للغاز من روسيا بعد ألمانيا، ويمكن أن تصبح المستورد الأول خلال 15 – 20 عاماً"، ويضيف كلزية: "علاقات أنقرة مع واشنطن في هذا القطاع بُنيت على أسس مختلفة كلياً".
يمكن القول: إن التحرّكات العسكرية التركية، مؤخراً في سوريا (عملية درع الفرات، وغصن الزيتون) في شقٍّ منها، نتيجة للتقارب التركي – الروسي، بالنظر إلى حقيقة أن نظام الأسد بات تحت حماية موسكو، وأن العلاقات الروسية – التركية في تحسّن متزايد، وبات واضحاً دخول موسكو وأنقرة مرحلة جديدة من الشراكة في سوريا، فروسيا تتفهم مصالح تركيا في المناطق الشمالية السورية، وهي تشبه مصالح روسيا في شرق أوكرانيا، وليس من الصعب التكهن بأن الذي يدعم الموقف التركي في شأن حزب العمال الكردستاني، ستكون لديه أفضل العلاقات مع أنقرة.
تباينت السياسات التركية والأميركية في الشرق الأوسط تبايناً لا تخطئه العين، بعد حرب الخليج الثانية، خصوصاً ما يتعلق بتعقيدات المسألة الكردية في عراق الأمس، وتأثيراتها في المسألة نفسها داخل تركيا.
وكشفت التصريحات الرسمية الروسية، وتلك الصادرة عن الأمم المتحدة، والتحولات في الخريطة السورية، مشروع الولايات المتحدة التقسيمي، لتكرار سيناريو شمال العراق في سوريا، الا أن واشنطن بدأت تصطدم مع واقع مختلف، حيث إن شمال سوريا يختلف كلّياً عن شمال العراق جغرافياً وديموغرافياً، بالإضافة لعامل آخر لم تأخذه واشنطن في الاعتبار، هو أن تؤدّي نهاية الحرب على "داعش" إلى حروب عدة في سوريا والعراق، معظمها بين حلفاء أميركا أنفسهم.
ليس خافياً على أحد أطماع بعض أكراد سوريا في إيجاد تواصل جغرافي بين منطقة عفرين وبقية المناطق السورية التي ينتشرون فيها، ما من شأنه إقامة حزامٍ يفصل تركيا عن كامل أراضي الجمهورية العربية السورية، خصوصاً مدينة حلب، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى، وهو ما يشكل تهديداً واضحاً لوحدة أراضي سوريا، ويهدد في الوقت نفسه أمن تركيا القومي.
تدرك واشنطن جيداً مخاوف أنقرة؛ لذلك كانت دوماً تراوغ، وتعمل على تضليل حليفتها تركيا، كما سبق عندما قدمت تطميناتٍ بأن نسبة القوات الكردية المشاركة في "قوات سوريا الديمقراطية" التي شاركت في معركة منبج لا تزيد عن الخمس، لكن الأتراك ومعظم السوريين يعلمون جيداً أن التركيبة الفعلية لهذه المجموعة المسلّحة مغايرة لما يقدّمه الأميركيون من معلومات.
وجدت واشنطن في الأطماع الكردية في سوريا فرصةً لاستكمال ما بدأته سابقاً في العراق، على الرغم من أن هناك اختلافاً كبيراً بين البلدين، ولا سيما فيما يخص العامل الكردي.
ثمة حديث يدور أن الأكراد في سوريا يشكلون القومية الثانية، وقد يكون هذا كلام حق يُراد به باطل، لإسقاط الحالة الكردية في شمال العراق على أكراد سوريا، من دون الأخذ في الاعتبار فوارق كبيرة بين الحالتين، وهي أنهم في سوريا لا يمتلكون المقومات التي لدى نظرائهم شمالي العراق، ديموغرافياً وجغرافياً.
وسبق أن أشار المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، إلى أن نسبة أكراد سوريا 5 في المائة، ولا يمتلكون أي تواصل جغرافي بين مناطقهم الرئيسية (القامشلي – عين العرب – عفرين)، بالإضافة إلى أنهم لا يشكلون أغلبية مطلقة في مناطق إقامتهم.
ومن هنا، تلاقت مصالح واشنطن مع الأطماع التي وجدت فرصة تاريخية من خلال الفوضى التي اجتاحت سوريا، بظهور تنظيمات إرهابية متطرفة، للتقدم ووراثة الأراضي التي كانت تحت سيطرة "داعش"، إلا أنهم توسعوا أكثر من إمكاناتهم، وفي شكل يتجاوز حجمهم الحقيقي، وفي مناطق عربية تاريخياً، مثل مدينة منبج، لا يملك فيها الأكراد أي امتداد تاريخي أو اجتماعي، أو ديموغرافي، وأخرى ليس لهم أي وجود فيها على الإطلاق قبل حرب "داعش"، مثل مدينة تل رفعت وبلدات أخرى محيطة في جوار عفرين.
يبقى القول: لا تريد واشنطن استبعاد أنقرة من أي تحالفٍ تقوده في المنطقة، فتركيا من الدول التي تتمتع بوفرة الخيارات الاستراتيجية، بسبب امتداد عمقها الاستراتيجي في أقاليم عديدة مجاورة، وهذا يجعل الولايات المتحدة غير مستعدة للتضحية بمصالح استراتيجية بعيدة المدى مع شريك استراتيجي مثل تركيا، في مقابل مصالح أخرى مؤقتة وقصيرة المدى، أملتها ظروف الحالة السورية، فمصالح واشنطن الدولية والإقليمية، وليست علاقة وروابط الصداقة، هي المحرّك الرئيسي للسياسة الأميركية تجاه تركيا، وبقية حلفائها، إضافة إلى أنها لا تريد أن تصل علاقتها مع تركيا إلى حد القطيعة؛ لعدم دفعها إلى التقارب أكثر مع موسكو، والمساس بمصالحها الكبرى في المنطقة.
* نقلاً عن صحيفة الحياة اللندنية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.