هل أنت “مدبرس” (مكتئب)؟

كيف لا والواقع أليم؟ كيف لا وآفاق المستقبل تبدو ضيقة؟ كيف لا، ومن في ساحة القيادة صورة مستنسخة من صور الماضي بفساده وطغيانه وهيمنة الفرد الواحد والفريق الواحد والحزب الواحد وشلة الفساد والمنتفعين على حساب مصالح وحياة الآخرين؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/25 الساعة 03:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/25 الساعة 03:49 بتوقيت غرينتش

يقولون فلان "مدبرس" يعني "مكتئب". استخلص بعض المبدعين في اللغة من الشباب "مدبرس" من كلمة depression (دبرشن)، والصفة المشتقة منها بالإنكليزية depressed (دبرسد).

أحياناً، أشعر بـ"الدبرسة" وأكون "مدبرساً"، وعندما أحاول أن أتلمس سبباً واضحاً لذلك، لا أجده. في بعض الأحيان يكون هناك سبب صغير وتافه، لكنه يسحبني وبقوة إلى حفرة الدبرسة أو الاكتئاب.

تعلمت مع السنين أن أدرك أني دخلت الحفرة، وتعلمت أن أحاول الخروج منها سريعاً، فكلما حاولتَ الخروج سريعاً كلما كان ذلك أسهل لك.

لا أدري لماذا أبحث عن سبب الاكتئاب أحياناً، فيكفي الواحد أن يكون مرتبطاً بالعروبة وبوطن كاليمن، فيكون لديه من الحيثيات والمسببات الكثير ليكون "مدبرساً" من الدرجة الأولى.

كيف لا والواقع أليم؟ كيف لا وآفاق المستقبل تبدو ضيقة؟ كيف لا، ومن في ساحة القيادة صورة مستنسخة من صور الماضي بفساده وطغيانه وهيمنة الفرد الواحد والفريق الواحد والحزب الواحد وشلة الفساد والمنتفعين على حساب مصالح وحياة الآخرين؟

كيف لا يكتئب كل من يرتبط بالعرب وأوطانهم وهو يرى الموت جاثماً عليها، ويرى صور الدمار الذي حل بها، ويرى صور البؤس والفقر والحرمان والجهل على وجوه أطفالها وكبارها؟

كيف لا يكتئب الإنسان وهو يرى وجع الأمهات وهن يحملن أمتعتهن وأطفالهن ويهربن من قرية مدمرة إلى أخرى حتى يصلن إلى خيمة باردة في أرض غريبة، هذا إذا حالفهن الحظ وانتشلتهن عناية الله قبل أن يأتي أجلهن على يد قناص أو طائرة عمياء لا تدري من تقتل، أو لغم غبي دفنه شخص خائف مذلول لا تشفع عنده فكرة أن لغمه المدفون يمكن أن يأخذ روح أو ساق أمٍّ هاربة؟

في اليمن، يعيش اليمنيون تحت وطأة الحرب أقسى الظروف وهم صامدون، يحاولون أن يحصّنوا أنفسهم ضد الهزيمة والاستسلام أمام الموت.

في تعز، يذهب طلاب الجامعة ويحضرون المحاضرات في كلياتهم بينما تتساقط قذائف مدافع الهون حولهم، قاعاتهم ذاتها شاهدة على الدمار والموت المحيط بهم، الجدران التي سجلت نحت الرصاص لها فأزعجت سكونها وسلامها، وزوايا الفصول الدراسية التي كان لها نصيب من القذائف سجلت هي أيضاً قبح الحرب وغباءها وخبثها وهي تستهدف حتى أقدس أماكن العلم.

يعود الطالب والطالبة إلى منزله أو منزلها بعد أن قضى ساعات دراسته داخل ساحات دمار وحرب دراسية، قد خلت من كل معالم الأمل عدا روح الإنسان الذي يصر على البقاء والاستمرار والسعي والتعلم.

في طريق العودة، يبحث الطالب عن باص صغير ينقله إلى حارته ويركبه، وهو لا يدري هل سيكتب الله له أن يترجل من ذلك الباص أو لا، فلربما يصيبه مقذوف عدواني، انتقامي غاشم موجّه لإثارة الفزع والخوف بين أرواح المدنيين، وربما يصيبه صاروخ أو قنبلة دمار موجَّهة أخطأت هدفها، وربما يكون نصيب الباص أن يمر من جوار سيارة ملغومة أو انتحاري استعجل الذهاب إلى الحور العين.

يصل الطالب إلى بيته أخيراً، تُذكِّرُه أمه بأن غالونات الماء التي جلبها بالأمس قد نفدت وعليه أن يجلب اليوم غالونات أخرى، فيخرج بغالوناته الفارغة ويمر من جوار مجموعة مسلحة، لم يعد يهتم كثيراً بأهدافهم ولا بعقيدتهم، فقد صار الأهم بالنسبة له أن يبتسم ويمر عبرهم بأمان ليجلب بعض الماء.

يتجه إلى أقرب خزان ماء خيري وينتظر دوره بين الأطفال والنساء ويملأ غالوناته ويتجه نحو البيت، بينما تحلّق طائرة عسكرية نفاثة، مخترقةً حاجز الصوت لتصيبه هو ومن في الشارع بالهلع والخوف.

يصل أخيراً إلى منزله ليصعد سُلماً مظلماً في بيت لم تعرف الكهرباء المركزية أن تدخله من سنوات.

يدخل فيجد والده الموظف الحكومي المهزوم، الذي يقضي الأشهر من دون راتب، قد استقر في إحدى زوايا غرفة مظلمة أيضاً، يكتوي بنار عجزه عن القيام بدوره كربّ أسرة، وحياته الجديدة التي جعلته رهين الاعتماد على المساعدات الإغاثية والمنح الغذائية التي تساعدهم للبقاء على قيد الحياة.

يأتي الليل ويغطي الظلام المدينة إلا من بعض الأضواء الخافتة التي تولدها الطاقة الشمسية المخزونة في الألواح الصغيرة التي تمكن بعض أهل هذه المدينة من شرائها، ويبحث هذا الطالب مثل زملائه عن بصيص ضوء من لمبة خافتة وحيدة في البيت أو من شمعة يحرقها ليجلس يذاكر دروسه على ما يأتيه منها من ضوء.

يستجمع كتبه وما أمكنه من طاقة؛ ليبدأ المذاكرة، لكن أفكاره عن نهاية المذاكرة ونهاية الجامعة والمستقبل الغامض -إن لم يكن المظلم- الذي ينتظره تأخذ القسط الأكبر من حالة القلق والتوتر التي يعيشها هو وزملاؤه. ينام ويستيقظ في الصباح التالي لتتجدد المعاناة معه وهكذا.

من يعيش في جو الحرب يصعب عليه الهرب من الاكتئاب، ومن يعيش خارج جو الحرب ويظل يتابع ما يجري فيها فلا بد للكآبة أن تتسلل إلى نفسه وهو يراقب الوضع ومآلاته وعملية البيع والشراء والمقايضة بحقوق البشر والأوطان والتي يقوم بها القادة الذين يعوَّل عليهم في البحث عن الحلول.

العربي الإنسان الذي يستشعر آلام الأوطان وقهر الإنسان، سيشعر بالاكتئاب، ومن يعيش في أجواء المأساة نفسها وتألم من واقع الدمار وغياب وتأخر الحلول، فلن يهرب من الاكتئاب. بقي علينا فقط أن نعرف علامات الاكتئاب ليساعد بعضنا بعضاً على التعامل معه، فما دام واقع العربي لن يتغير بسهولة فالاكتئاب سيلازم الكثير منا ولوقت ليس بالقصير.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد