في ذكرى الندم، ندمهم هم وندمنا نحن على حد سواء، حاولت إخبارهم بأننا لم نندم أبداً على حلمنا بقدر ما ندمنا على تركهم يشوهونه بتسامح بلغ حد السذاجة.
هكذا خربشت على حائطي الأزرق دون إطالة تفكير في ليلة الذكرى الثامنة لأحداث السابع عشر من فبراير/شباط، ونمت لأستيقظ على كم من الرسائل والتعليقات ظاهرها المدح وباطنها الذم، وربما العكس أيضاً صحيح، أما من يمرون في صمت فكثيرٌ ما هم.
هذا ما دونته دون أن أعلم حقيقةً إن كان الندم أو ضده يصلحان لأن يكونا إحساساً مشاعاً أو ذاكرة جمعية، فالندم حمّال أوجه فكرة كان أم معنى أو شعوراً توقظه صحوة ضمير أو ربما موته، فالأمر سيان، والندم قد يكون شرارة ثورة أخرى وبارقة أمل في تغيير قد يتلافى أخطاء الماضي، فطالما صدنا حمقنا الآدمي عن التعلم من أخطاء غيرنا حتى صار الخطأ تلو الخطأ والعثرة إثر العثرة في تجاربنا الشخصية هو الطريق والطريقة الوحيدة للنجاح أو للتعلم على أقل تقدير.
ولكن لا ينفك سؤال يداهمني أينما وليت وجهي حقيقة أم افتراضاً في كل ذكرى لفبراير "ثورة" كانت أم "نكبة"، كما رآها ذلك النائب الذي لم يوصله أحد سوى فبراير بالذات إلى هذا المقام نائباً عن الشعب في برلمان منتخب لم تعرفه ليبيا لأكثر من أربعة عقود، سؤال يلجمني عن الكتابة وعن التعبير، وقد يبلغ به أحياناً أن يلجمني عن مجرد الشعور أيضاً.
سؤال مفاده: من حق له أن يندم؟
فربما لأن سوادنا الأعظم كما أخبرنا تاريخنا القريب قبل البعيد لا يعرف الوفاء، حتى الوفاء لمبادئه وأحلامه كان الندم. فالندم قد يكون إعادة اختراع لما ندمنا عليه آنفاً، وقد يهدي صاحبه إلى إعادة قراءة الذات وإعادة البحث فيها من زوايا لم تكن متاحة قبل. كأن يُحشّد أنصار الفكر الجماهيري مثلاً داخل البلاد وخارجها للانتخابات القادمة ويسخّروا للحدث الذي كان في الماضي القريب تدجيلاً ومحض تقليد للغرب بديمقراطيته الزائفة كما كان ينظر قائدهم، يحشدون كل أموالهم وآلاتهم الإعلامية ذات اللون الواحد لهذا الاستحقاق وإن لم تتحدد معالمه بعد.
بعيداً عن الميتافيزيقية هذه المرة.. الندم قد يكون عملاً ثورياً يمارسه حتى أولئك الذين يسمون الثورة نكبة، ويمارسه في الوقت ذاته أبناء الثورة الذين أكلتهم كما تفعل الثورات دائماً، وقد يمارسه الجالسون في الظل والواقفون في طوابير المصارف أو طوابير الخبز أو طوابير التزود بالبنزين، ويمارسه بطريقة أو بأخرى تجار الحروب والسفلة الذين أخبرنا عنهم "جورج جاك دانتون"، ويمارسه بشكل ما ضحاياها أيضا والمنفيون والسجناء والعاطلون عن العمل وأمهات الشهداء.
والندم قد يكون ممارسة مشتركة بين قطبين طالما حاول إبراهيم الكوني الإشارة لهما في رواياته التي لا تخلو من الفانتازيا بين أولئك الذين يرون الوطن قيمة، وأولئك الذين لا يرونه سوى غنيمة وبين القيمة والغنيمة قد يأتي الندم على هيئة مشروع ديكتاتور جديد تباركه عمائم الحكماء والمشايخ من فوق رؤوس خاوية، ويصفق له أنصاف المتعلمين وأنصاف المثقفين ممن بُحت حناجرهم من شتم سلفه الديكتاتور الذي هوى البارحة من عليائه إلى أسفل نعال من أحسوا فجأة بالندم.
لذا فالندم قد يكون جلداً للذات وحنيناً مرضياً لكل ما هو قديم، فالنوستالجيا مرض عربي بامتياز، ومن غيرنا يصّر على تسمية محاولات سينمائية بدائية بأفلام الزمن الجميل، في الوقت الذي بلغت فيه هوليوود مبلغاً كادت عائداتها المالية تضاهي عائدات النفط والغاز في بلداننا الريعية منذ الأزل.
وإذا كان الندم حنيناً، فالحنين غالبه العجز حيال ما صعب استرداده، فما الذي جناه من تباكى طيلة عقود أربعة على عهد الملك "الصالح" وما الذي سيجنيه من يتباكون اليوم على أيام "العقيد" الذي لا نعرف لها قبراً يضمه حتى؛ لهذا كله حاولت القول إنني هكذا أحسست طوال الوقت أنه يجدر بنا أن نُبغض الندم الذي يتخذ من فعل الماضي الناقص دوماً موقعاً له دونما أن يترك لنا شيئاً من شغف الانطلاقة نحو مستقبل أفضل لنا ولأطفالنا وأوطاننا.
أما عن أولئك الذين يقبعون في السجون شرقاً وغرباً شرعية كانت أم غير شرعية فلم أعايش ظروفهم حقيقة، ولله الحمد، ولم أشاركهم ما يشعرون به غير أنه ومن المؤكد وبفضل وسائل الإعلام العابرة للجدران أنهم يشاركوننا هم شيئاً من الندم بأنواعه ودرجاته المختلفة، ولكنني وفي الوقت ذاته كنت سعيد الحظ على الأقل حينما أُتيحت لي فرصة مشاركة بعض مهجري تاورغاء قبل أيام مأساتهم بأحد مخيماتهم البائسة لبضع ساعات، نعم سعيد الحظ من تتاح له الفرصة ليتأكد وبتجربة مجانية أنه ما زال على قيد الإنسانية، لدرجة أنني لم أكترث كثيراً لمحاولة فهم ما أشعر به حينها، ولم أجهد نفسي في محاولة تحديد أي نوع من أنواع الندم يعتريني الآن، وإلى أن أكملت كتابة هذه التدوينة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.