"وفي هذا الإطار، يتعين على كافة الفاعلين، الأخذ بعين الاعتبار التغيّرات المجتمعية التي يشهدها المغرب، وذلك عبر وضع مسألة الشباب في صلب النموذج التنموي المنشود، والتفكير في أنجع السبل من أجل النهوض بأحوال شبابنا، باعتبارهم الرأسمال الحقيقي لبلادنا، وثروته التي لا تنضب.
ولدينا اليقين بأن نجاح أي تصور في هذا الإطار يبقى رهيناً بتغيير العقليات، باعتباره السبيل الوحيد، ليس فقط لمجرد مواكبة التطور الذي يشهده المغرب، في مختلف المجالات، بل بالأساس لترسيخ ثقافة جديدة للمبادرة والاعتماد على النفس وروح الابتكار، وربط المسؤولية بالمحاسبة".
هكذا جاءت مضامين الرسالة الملكية السامية الموجّهة إلى المنتدى البرلماني الدولي الثالث للعدالة الاجتماعية، الذي ينظمه مجلس المستشارين تحت شعار "رهانات العدالة الاجتماعية والمجالية ومقومات النموذج التنموي الجديد".
ومنه فلن نستطيع خلخلة المعيقات الذهنية والموانع الداخلية والخارجية التي حَذَّرَ منها جلالة الملك محمد السادس إلا بالتمسك بروح الخطابات والرسائل الملكية وبصريح مضمونها والثقة المستمرة في الأفكار الملكية الذكية الساعية إلى تدشين مرحلة مشرقة من الإنماء والبناء المتواصلين لمغرب الحاضر والمستقبل.
وقد تبدو الموانع المادية كإكراهات ذات أولوية، إلا أن معظم الشباب يجدون أنفسهم أمام عقليات تثبت أن الموانع التي تبنيها المؤثرات الزمنية النفسية والسيكولوجية تصبح في حالات كثيرة صعبة التجاوز، فالتأويل السياسي الخرافي يقود الإنسان بشكل مباشر إلى جمود العقل وتحجر العقليات، فهو تأويل غير قائم على المعرفة والمواكبة والمسايرة، تأويل لم يأخذ بالأسباب ولم يستجلب الشباب بالترغيب في المواطنة.
وذاك ما جعل الشباب المغربي يعتنق -في غالبيته- مذهب "اللامبالاة السياسية" ويعاني من حرِّ الغياب أو التَّغْيِيب عن ذوق الثقافة.
إنها الكتلة الناشئة لزمن "بعد ما بعد الحداثة"، شباب يعاصر فوضى وفرة المعلومة وينخرط إرادياً أو لا إرادياً فيما اصطلح عليه بـ"المواطن العالمي"، ولو افتراضياً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
هذا الشباب ارتفع حجم مطالبه في ظل وضع اجتماعي واقتصادي جد قاسٍ، وقبل هذا وذاك هو شباب منفتح في السلوك والمعاملة. إنه بالمحصلة نتاجٌ إنساني وجب أن يستقيم سلوكه بالتشبع العقلاني بسمو الاعتدال ونبذ العنف ومواجهة الإقصاء والتمييز، مع رفض الغلو والتكفير والمساهمة في إحقاق العدالة الاجتماعية والمجالية والتشبث بمبدأ المواطنة الدستورية.
إن مضمون الرسالة الملكية السامية يستدعي شحذ هِمَم الشباب قصد الانخراط الشجاع والمثمر في تغيير وضع لم يعد مقبولاً استمراره، وتستلزم العمل الجماعي الفعال لإحقاق الصعود المنشود، وربح معركة الوحدة الترابية وكسب رهان التنمية المتوازنة، وترسيخ الديمقراطية التشاركية في إنجاز المشروع التنموي المنشود.
هذا الانخراط الشبابي وجب أن ينطلق من الحسم في الاختيار، والاعتماد على عملية المعرفة والاجتهاد، مع الالتزام المسؤول والمحاسبة والمكاشفة. إذ لا بد من القطع مع مظاهر التسيب والسلبية والتزمت والانغلاق والعدمية والاسترزاق من خلال السمو بالمدلول الوطني النبيل للحوار الوطني حول المشروع التنموي المنشود الذي يتخلى عن الاتكالية المقيتة والفردانية الأنانية؛ لينصهر في ضمير جمعي واحد قصد استكمال بناء دولة المواطنة وإحقاق مبدأ المواطنة الدستورية.
وذاك ما سيجعل من الشباب المغربي جيل المستقبل، جيل الارتقاء نحو حياة أفضل، جيلاً توّاقاً للحرية والمسؤولية والمحاسبة مسعاه تحويل الإحباط والفشل والألم إلى دافعة نفسية إيجابية نحو سبيل الإبداع الإنساني المتنور.
إن الديمقراطية التشاركية ينطلق حوارها من الفكر والثقافة أولاً، وإذا نحن أخطأنا في الممارسة السليمة فحتماً ستكون النتيجة من أخت الفشل.
كما أن غاية الديمقراطية المفيدة وفلسفتها العتيدة تجعل من قوة الدولة وهيبتها أعمق آلياتها الاستراتيجية.
ويمكن الجزم بأن الوضع الراهن بجميع تمظهراته وجميع أفراحه وخيباته، يدفع كل عاقل لبيب نحو صدق المكاشفة ووضوح التحليل؛ لأن إنجاز المشروع التنموي المغربي المنشود يجد ركيزته الأساسية في صناعة الاستثناء الثقافي وجعل الشباب المحرك الأساسي للإنماء الفعال، من خلال المضي قدماً في معركة التحديث والحداثة، معركة العصرنة والمعاصرة، معركة الحاضر من أجل المستقبل، معركة تغيير العقليات.
لأن الشعوب تبلغ مقام التحضر وتصنع حضارتها المتميزة بحفظ نظامها والمعرفة والتعلم، وليس بالفوضى والتسيب والتواكل، فلم ولن نعلم عن تجارب صعود دول بلغت مراميها في التقدم دون نجاح المنظومة التعليمية في ضمان العقل السليم، ودون تمكّن المخطط الصحي من ضمان الجسم السليم.
فمن شروط تحقيق التنمية ارتفاع مردودية التعليم والصحة بشكل يزيد من إمكانية ارتقاء العنصر البشري، وبين هاتين العجلتين يستمر حصان الاقتصاد في إثبات مدى قوة جرِّه للعربة قصد بلوغ الأهداف المأمولة من رفع تحدّي عشرية الصعود.
ثلاثة مؤشرات علمية نستحضرها من بين أخرى بكل تبسيط، ثلاثة مؤشرات تساعد من يبحثون في الأمر على إدراك مسار التنمية الشاملة، ولا يمكن لاثنين أن يختلفا حول تدنّي الحصيلة الميدانية للإدارة المغربية وكذلك تعثّر المنظومة الحزبية في توفير جهاز تنفيذي فعّال في إنجاز التوجهات الاستراتيجية المتطورة للدولة المغربية.
كما أن استكمال إصلاح منظومة العدالة والقضاء يعني توفير حماية قوية لسيادة القانون وسمو قاعدته وحسن تطبيقه بكل نزاهة وحياد، فالتشبث بدولة المؤسسات يفرض وجود هذه السلطة القضائية المستقلة والتي تعمل وفق مبدأ "توازن السلط المتعاون"، وتدرك أن هيبة هذه المؤسسة الدستورية هي من هيبة الدولة المغربية.
من كل ما سبق نسترسل في التأكيد على أن صناعة الاستثناء الثقافي يشكل المدخل الأساسي لتثبيت التحول الديمقراطي المنطلق منذ المصادقة الشعبية على التعاقد الدستوري، هذا العقد الاجتماعي الذي يرسخ رؤية مغرب منفتح ومتعدد.
إنه دستور 2011 الذي يتمثل في هندسته مغرب المواطنة وتكريس المساواة بين جميع المواطنين، بصرف النظر عن الانتماء اللغوي أو الفئوي أو المجالي أو الديني، مغرب نتساوى فيه أمام سمو قانونه من حيث الحقوق والواجبات، فصناعة الاستثناء الثقافي تشكل المدخل العقلاني لإفراز المشروع التنموي المنشود.
ونختم بالتذكير بما سبق أن نبّه إليه جلالة الملك محمد السادس في فقرة من رسالة ملكية سامية سابقة سنة 2016: "ليس غريباً إذن أن يجد تطلعنا المشترك إلى العدالة الاجتماعية الذي ما فتئت أجسده قولاً وفعلاً بشكل متواتر، والذي تم التعبير عنه أيضاً بأشكال مختلفة من طرف فئات مجتمعية وفاعلين سياسيين ومدنيين متعددين، ترجمته الواضحة، غير القابلة للبس، في تصدير دستور بلادنا الذي يكرس اختيار المملكة الذي لا رجعة فيه، في إرساء دعائم مجتمع متضامن، يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، ومقومات العيش الكريم في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة ".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.