في السلوك البشري ثمة ميل فطري نحو الاعتداد بالذات وتجنب الاعتراف بعيوبها، وإذا ما تم النيل منها فهي تسارع إلى الإنكار أو إلى تحميل مسؤولية نقائصها للغير، فالعنصر الخارجي هو من وضعها في ظروف قاهرة وحملها فوق طاقتها حتى جرها إلى ما هي عليه من سوء، وهذا لا يقتصر على العلاقات الاجتماعية بين الناس فحسب، فحتى التجمعات العشائرية والحزبية وكذا الشعوب والدول تجتر ذات السلوك فيما بات يعرف بنظرية المؤامرة.
الأمر ليس حكراً على واقعنا، فبخلاف السائد بيننا والذي يصور ذهنية المؤامرة وكأنها صنيعة عربية إسلامية، فقد عرفت التحليلات التي تعتمد على نظرية المؤامرة حضوراً دائماً لدى معظم الثقافات وفي مختلف الأزمنة، غير أن تجاذباتنا التي ازدادت حدةً وتعقيداً باتت تستدعيها بشكل مكثف، لا سيما بعد "الربيع العربي" ومخرجاته حتى خيل إلينا أننا نحن من أتينا بها.
في المقابل، فقد خلق الإغراق في تبني نظرية المؤامرة رد فعل عكسي عنيف يلغي أي احتمال للتآمر، ويسارع إلى التهكم والسخرية من كل حديث عن الكيد والاستهداف، لكأن الذات تعيش في جزيرة معزولة، وأن من حولها محايدون ليس بينهم من يطمع فيها ويستعد للانقضاض عليها، بل وافتراسها إن استطاع إلى ذلك سبيلاً.
بين هاتين النظرتين المتطرفتين نتأرجح، بين من يرى العالم مسيراً من قوى لا قِبَلَ له بمواجهة مخططاتها الدقيقة والتي تتحكم فيه وتشكله مثلما تشاء في تسليم تام بالعجز عن مقاومتها، وبين من لا يرى في المشهد بشموليته غير عيوبه وعيوب مجتمعه فيكاد يحمله مسؤولية كل مصائب الدنيا، فيما يظل البعض الآخر يتنقل بين المَنْطِقَيْن دون ضابط، وذلك حسب وضعه السياسي وتموقعه الظرفي.
الواقع أن كلا المنطقين لا يمكن تبنيهما أو رفضهما بالمطلق؛ حيث إن الرغبة في التمدد وبسط النفوذ لا تنقطع، وهو ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى الاعتماد على المؤامرات والدسائس لبلوغ تلك الأطماع، غير أنها تنكفئ وتتقلص حين التعاطي مع جسد قوي منيع، وهي كذلك تتعاظم في حالة الجسد المريض المتهالك.
في أوضاعنا الراهنة مثال صارخ على كل هذا، فالعدوان على الأمة واستباحة أراضيها ونهب ثرواتها مستمر، ورفض أي نزوع لتحررها قرار لا رجعة فيه من طرف قوى الاستكبار العالمي، غير أن النجاح في التحكم فيها ما كان له أن يتحقق لولا الثغرات التي تعاني منها وقابليتها للاستعباد وللفرقة والتشرذم، فلولاها ما تمكن الاستعمار من النفاذ إلينا، ولولاها ما تمكن من الحفاظ على مصالحه حتى بعد الاستقلال الصوري عبر وكلائه، ولا استطاع غرس كيان هجين يقطع أوصالها.
كان لا بد أن يخلق واقعنا المتردي احتقاناً وانحباساً شديداً، وكان لا بد لهذا الانحباس أن يسفر عن انفجار شعبي طال الزمن أم قصر، وهو ما حدث جزئياً في أحداث الربيع العربي.
بعد تلك الأحداث سارع البعض لتلقف منطق المؤامرة للاختباء وراءه من أجل تبرير قهر الاستبداد المحلي باعتباره الوسيلة الوحيدة لتبخيس مطالب الشعوب المستضعفة، ومن ثم رميها بالعمالة وخدمة الأجندات الخارجية.
لا ننكر أن الخارج حاول أن يخترق الثورات بدعمه لبعض تياراتها وتدخله السافر في شؤونها، لكن هذا شيء والزعم بأنه هو من أوجد تلك الحركات الاحتجاجية شيء آخر، وتبسيط مخل ينم عن جهل بفهم الظواهر الاجتماعية الكبرى، فالثورات لا تصنع، ولا أحد يملك القدرة على إرغام الناس عن الخروج للشارع ومواجهة الرصاص الحي إن لم تكن هناك حاجة ملحة بذلك.
معركتنا للتحرر والانعتاق لا يمكن لها أن تمضي لغايتها إن لم ندرك طبيعتها التي تفرض علينا أن نبقى متيقظين من تآمر القوى الخارجية، لكن دون المبالغة في تقدير أدوارها، ودون أن ننسى أن المفتاح الرئيسي الذي يكبحها هو تحصين بيتنا الداخلي، والعمل على تقوية نسيجنا المجتمعي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.