إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق، قالها ابن خلدون في مقدمته ذات يوم، ولا يزال بعدها قائماً إلى يوم الناس هذا، ويبدو أن عمقها يتحدى الزمن، ليبقى صالحاً لمستقبل سنكون نحن تاريخه.
تاريخ البشرية كحاضرها غنيٌّ بالدروس، ثري بالعبر، يحمل في طياته رسائلَ عدة لا تَظهر للمطبوع على قلوبهم، الذين أخذهم غرورهم على حين غفلة، ووقعوا في فخِّ كبريائهم، تراهم يحسَبون أن ما حصل لمن سبقهم لن يقوى عليهم، وأن عتادهم أقوى من جيش الزمن، وفلسفتهم أقوم من دروس التاريخ…
الطغاة يحفرون قبورَهم بأيديهم، قُلتها لنفسي، وها أنا اليوم أقولها وأردِّدها على الملأ. الطغيان لا يرحم صاحبه، والزمن لا يرحمهما الاثنين. إن طغاة اليوم كطغاة الأمس، يحسبون طغيانَهم أذكى وأشدَّ وأعتى من طغيان طغاة التاريخ، يحسبون رياحَ بطشهم أعتى من قوارب الحق التي سترسو، شاؤوا أم كرهوا، على شواطئ الشعوب المقهورة.
غبيٌّ هو كلُّ مَن أنساه جبروته أن يتصفَّح التاريخَ ويَعتبرَ مِن كل ديكتاتور مات ذليلاً، وعُلِّق رأسُه على أبواب المدن، ونُصبت نفسُ المشانق التي استعملها لتجعل لحياته نهايةً كنهايات الكلاب المشرَّدة. أعمى هو كل حاكم ظنَّ أن الظلمَ ضامنٌ لاستمرارية مُكوثِهِ على كرسيِّ حكمه، ونسي أنَّ المظلومَ قد استوت عنده الحياة، ولم يبق له ما يخاطر به أو يخسره.
واضربْ لنفسك أمثالاً لا تعد ولا تحصى مِن حكام طَغَوا في الأرض وكأنما هم وارثوها، وعاثوا فيها فساداً كأنهم مالكوها. ظنوا أن المُلك لهم خالد، والشعب المقهور ميت هامد. لا واللهِ، وملكِ الملوكِ إنَّ الحقَّ لَعائِدٌ، وإنْ أسلم أصحابُه وارتختِ السواعدُ. إن الدنيا قوامها العدل وإن كثرتِ الشدائدُ، وإن حَسِبَ الطغاةُ أن قانونهم سائدٌ…
إن دامت لأسلافهم من الطغاة لما كانت عندهم، وَلَمَا وصلت إليهم؛ لكن يبدو أن لحمَ الشعوب العربية يُسيل لعابَ الضباعِ منهم. حسب كلُّ رؤساءِ العرب أن الكراسي لن تَقلِبَهم، فَقَتَلَ القذافي شعبَه، وسرق بن علي خزائنَ تونس، وحكم بوتفليقة من على كرسي متحرك، وحسب بشار أن سوريا أرض اشتراها والده من عند أسلافه ، وورَّثه إياها، فقال إما أن أحكم أو أن أُقتل، فشرَّد شعبَه وهجَّره وقتله، ولا يزال نهِماً مشتاقاً للدماء، لا يهمه إن حكم أرضاً بشعبها أم بفراغها، سمح للقاصي والداني بأن يهتك عِرض أرض الشام، فأصبحت مرتعاً لجرذان التطرف والخونة الجبناء.
أمَّا مصرُ، أمُّ الدنيا، التي حسبناها معقلَ العروبة، وملجأَ القضية الفلسطينية، نستظلُّ بظلِّها يوم يعتدي علينا الأعداءُ، وتردعُ عنَّا كلَّ عدوان غاشم، فقد حلَّ بها بلاءُ الطغاة والخونة، وتَدَاوَلَ عليها أرذل الخلق، فحَكَمَ فيها طاغيةٌ من سلالة فرعون، يكاد يخرج علينا يوماً قائلاً أنا ربُّكم الأعلى، أحكمُ في مصرَ كما أشاءُ، ولا يشاركُني الحكمَ أحدٌ…
فرعون على شعبه، صرصور أمام أسياده من الصهاينة، يصول ويجول في مصر، بضحكاته القبيحة كأفعاله، ترى على وجهه علاماتِ المبشَّرِين بالعذاب في الدنيا والآخرة، عبد من عبيد الطغيان، ومرتزق لدى الصهاينة ومَن آخَاهُم مِن أهل قبائلِ العربِ في الطائفِ وما جاورها، ممن وصل به الطغيان إلى ما لم نتخيله حتى في أسوأ كوابيسنا، وأتعس مراحل يأسنا…
لكن… نهايةُ كلِّ طاغيةٍ محتومة، والظلم وإن طال فهو فانٍ، وخلاصُ الأمة العربية من براثن حكامها آتٍ لا محالة، يرونه بعيداً ونراه قريباً؛ بل ونشمُّ ريحه تدق أبوابنا… الطغاة يحفرون قبورهم بأيديهم، وما تشدُّدهم في الطغيان إلا علامة على قرب سحقهم وهلاكهم، وما اشتداد الأزمة على الأمة العربية إلا إشارة إلى أن الفرج قريب.
إن التاريخ جليٌّ لمن يعتبر، ومبسط لمن أعمل عقله، بغضِّ النظر عن العاطفة؛ لكن هل نستحق أن يُنصفنا التاريخ، ونحن من صنعنا طغاتنا بأيدينا، وبعنا ذمَمَنا بأبخس الأثمان؟ هل سنستغل فرصة النجاة بأوطاننا من أطماع الطامعين وبطش الغاصبين؟ هل نحن جاهزون لنقود أنفسنا في عرض بحر العالم، وأن ننجو من معترك الصراعات الإقليمية والطائفية؟ هل نقدر نحن، وقد تكالبت علينا الأمم من كل حدب وصوب تمتص خيراتنا وتفتك شبابنا، بأن ننهض بأمتنا…
أسئلة عديدة لن يجيبنا عنها سوى التاريخ، في حاضرِه ومستقبله، ومَن يدري فلعلَّ التاريخ قد أجابنا بما يحمل في ماضيه من دروس…
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.