يقول الثائر الأممي الجزائري الخالد فرانز فانون: "إن التحرر الحقيقي ليس بالثورة وحدها وإنما في التحرر من إرث المستعمر"، واليوم بعد سبع سنوات على ما اصطلح على تسميته بالثورة التونسية التي مثَّلت شرارة الأحداث العاصفة بالوطن العربي، يقف جيل جديد من الشباب على ناصية الحلم استعداداً لجولة أخرى من القتال، ربما نجحت انتفاضة 17 ديسمبر/كانون الأول – 14 يناير/كانون الثاني في كسر أغلال الحاكم بأمره، وربما منحتنا هامشاً كبيراً من الحرية كان يبدو لناظره بعيد المنال، لكننا أيضاً لم نحقق خلال هذه السنوات شيئاً أكثر من الجدال.
فهل انتفاضة من دون تغيير اجتماعي حقيقي ومن دون ثورة اقتصادية تكسر أغلال الشمال تستحق لقب ثورة أم أنها وقوف في المنتصف قد يقود البلاد والعباد إما إلى الرجوع إلى سياسة العهد القديم وإما إلى الانتحار؟
الثورات المبتورة ليست بدعة أهل هذا الزمان، هي متلازمة رافقت العرب في كل تحركاتهم المناوئة للسلطات القائمة، يبدأ الحراك قوياً عنيفاً مزمجراً ثم يتوقف في منتصف الطريق من دون تحقيق جوهر أهدافه، كانت حناجر التونسيين تهتف قبل الحرية بالعدالة الاجتماعية، ولمن يتوهم أن قادة الأحزاب كانوا يقودون الحراك نقول: إنه هو من كان يقودهم وإنهم كانوا أشبه بالزبد تحمله الأمواج بقوة جبارة نحو الأمام يحسبه البعض يقودها، لكنه بها يندفع، كانت الحناجر تنادي بتنمية عادلة بين جهات البلاد، وكانت تعبيراً عن رغبة أبناء طبقة مضطهدة في تحطيم سلطة طبقة نافذة مهيمنة منذ فجر الاستقلال، لكن جوهر مطالب المستضعفين يأبى بعد سنوات سبع أن يتحقق لتنظم هذه الثورة إلى قائمة ثورات عربية سابقة توقف بعضها في المنتصف، وبعضها الآخر تحول أكثر قادتها تطرفاً في صبيحة يومها التالي لنجاحها إلى محافظين يرتدون جلباب حاكم الأمس.
وسنستعرض سريعاً بعض هذه الثورات التي تعثرت في سيرها وقادت دولها إلى تعميق الهوة الفاصلة بين الطبقات وترسيخ التبعية للأجنبي:
1- ثورة الشريف حسين التي ربما كانت صادقة في سعيها لإعادة أمجاد العرب وتوحيد رايتهم، لكنها انتهت بتقسيم الخارطة العربية وبجلب جيوش البريطانيين والفرنسيين إلى ما تبقى من أرض عربية كانت لا تزال خارج سيطرتهم، كما انتهت بضياع الأرض المقدسة نتيجة الحسابات الخاطئة والانحياز المعرفي واللاعقلانية في اتخاذ القرارات واختيار الحلفاء.
2. ثورات التحرر من ربقة المستعمر الغربي والتي مثلت في جوهرها واحدة من أنبل الحركات على مر التاريخ، دفع فيها الشعب العربي الملايين من أبنائه في سبيل نيل الحرية كاملة غير منقوصة، لكن انتهى به المطاف إلى حالة مستحدثة من الاستعمار يكون فيه وكيل الحاكم الغربي واحداً من أفراد الشعب المنتفض، فتضيع الحرية ويضمحل الطموح نحو الاستقلال الاقتصادي والمساواة الاجتماعية في ظل حكم هذا الجيل الجديد من أدوات الاستعمار.
3. ثورات الجنرالات في عدد من الأقطار العربية والتي على اختلاف تفاصيلها وتوجهات قادتها نجح بعضها في تأميم الثروات ونيل الاستقلال كاملاً غير منقوص، لكنه كان استقلالاً هشاً أو ظرفياً يكمن عقب أخيله في افتقاره إلى الحرية السياسية وهي صمام أمان المجتمع وفي غياب الثورات الصناعية والعلمية العملاقة، وهنا نستثني العراق في فترات محددة تمكن خلالها من ردم الهوة الفاصلة بينه وبين دول الشمال، لكن أزف ربيعه مع دخول القوات الغازية أرض بغداد.
الثورة في تونس لم تكن استثناءً مما سبق وإنما سلسلة من حراك عربي لم يقطف ثماره غير الغرب وأعوانه، ربما ميزة ما حدث في تونس أنه لا يزال حالة مستمرة متخبطة بالإمكان أن تتلمس طريقها نحو النجاح، بيد أن كتابة السطور الأخيرة لقصة الثورة يبدو أصعب من كتابة بداياتها، والحكومات المتعاقبة حتى اللحظة يبدو أنها أعجز من أن تجاري الشباب الثائر في عزمه وجلده، لم يدرك أصحاب الكراسي أن لا معنى لثورة لا تنفض الغبار عن ملفات العقود مع الشركات الأجنبية، وأن لا مستقبل لحكومة لا تضع لبنة الثورة الاقتصادية والفلاحية الكبرى، لم يدركوا أنهم بتخلفهم عن ركب الثورة التي أوصلتهم إلى كراسيّهم يصنعون وقود الثورة القادمة، وأن ما يراهنون عليه من شرعية انتخابية أو توافقية ليست صكاً على بياض، وأن لا شرعية أمام المد الذي "تخر له شم العروش وتُهدَم".
ما يمكن استنتاجه بعد هذه السنوات العجاف أن الشعب على ثباته في الاستعداد للتضحية والصبر إذا ما آمن بنهج حكومته، لكنه يفتقر لحكومة ثائرة تقود ثورته أو حتى تتبع خطاه، وأن من يحكمنا اليوم لا يختلف في خطه الاقتصادي والاجتماعي عن سابقيه منذ السنة الأولى للاستقلال.
إن الثورة قوة وجسارة وإن حكومة تبيح للناتو غزو الجماهيرية أو تعلن الحرب على سوريا أو تعجز حتى عن توجيه أصابع الاتهام للكيان الصهيوني في حادثة اغتيال أحد علمائها هي حكومة أبعد ما يمكن أن تكون عن الثورة، أو عن تمثيل شعب ثائر، هي حكومة أوجدتها القوى الدولية لضمان بقاء البلد داخل بيت الطاعة الغربي، قد تمتلك شرعية انتخابية لكنها أيضاً نتاج عقد خناصر ساسة الأمس واليوم على الاستكانة للقيود المفروضة من الغرب.
ما حدث في تونس يوم 17 من ديسمبر هو انتفاضة تحتاج إلى خط سياسي يحولها إلى ثورة، قد يعتبرها أشد الناس تفاؤلاً ثورة ستثمر ولو بعد حين، وقد يراها المتشائمون استمراراً في حالة الأمس بأقنعة جديدة أو ربما هي حالة أكثر سوءاً، ونحن على وصف إيميل حبيبي "متشائلون"، ندرك أن الغرب نجح في قلبها مرحلياً لصالحه فاستغل شرارتها الأولى لتصفية خصومه في الوطن العربي، وأنهى حالة الثورة المستمرة أو المترهلة في سيرها طيلة عقود أربعة في الجماهيرية العظمى وقصم ظهر سوريا، وصومل اليمن، لكنها في تونس لا تزال قادرة على الحياة وعلى النجاة إذا ما انتقلت ثورية الشعب إلى الحكومة.
ما لم يفهمه حكامنا أن الشعب لا يتحرك فقط بسبب المصاعب الاقتصادية، وإنما بسبب غياب الأفق وعدم الثقة في النهج القديم الذي يتبناه حاكم اليوم، وأن الثورة في جانبها الأهم سيادة كاملة على القرار السياسي يجب ترجمته في الانتصار لقضايا الأمة، وعدم الانخراط في حسابات الربح والخسارة، وضرورة تأميم كامل لمقدرات البلاد، وثورة على الحدود التي رسمها الاستعمار بغية ديمومة هيمنته على الأرض العربية.
إن الثورة تمنح لرجل الدولة حرية مطلقة ومداً قوياً يتحدى به أدوات الاستعمار، لكن اليد المرتعشة ليست ثورية، ولا تصنع التاريخ ولا تتقن إلا فن الالتفاف على مطالب الشعوب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.