تأخرت.. نعم تأخرت كثيراً يا صديقي للكتابة عنك عن تلك التي يسمونها ذكرى الوجع بمرور عام على رحيلك، عام يا صديقي محمد ونحن نحتسي الوجع كل حين برحيل أحبائنا، وتأكدت أن الجميلين هم من يرحلون وهم من يصطفيهم الله.
صديقي محمد القابع في السماوات الآن، لقد تجاوزت التفكير بالألم وبالموت ولم أعد أهتم، وهذا ما يبرر تأخري عن الكتابة لك، فذاكرتي مثقوبة ولم تعد تحتفظ بالأسماء، وما يشغل تفكيري حالياً هي لغتنا، لغتنا التي أقاموا لها يوماً عالمياً، إنني منشغل بها وبالتفكير بالذين خارج حدود لغتنا المسكونة بشغف الجهاد والقتل، الذين يفكرون الآن بصنع قدم متحركة لشاب فقد رجله اليسرى بعد أن وصل مدينتهم قادماً من اليمن، وآخرون بالدولة المجاورة للتو أنهى خمسة أطباء في مشفى حكومي عملية جراحية لطفل يمني فقد عينه اليمنى، وهم يتحدثون بلغتهم الإنكليزية عن المعاناة التي تحملها الطفل اليمني.
ويتردد الآن في مجلس حقوقي دولي تحضره دول كبرى صوت أنثوي خالص صوتها الملائكي، وشعرها الأشقر المبهم كلغتها التي تتحدث بها، ولا أعرف شيئاً من حديثها سوى أنه يجب إيقاف الحرب باليمن وتخفيف معاناة اليمنيين، وأسمع همس رجل يقترب عمره من الستين يمسك صليباً ويجثو على ركبتيه يسأل المسيح أن يرحم الشهداء والأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء الذين قُتلوا باليمن والعراق وسوريا وليبيا، ويقابله صوت مآذن متباعدة تتلو دعاءها أن تنتهي الحرب، أسمع الآن جيداً لغة أخرى قصيرة في نبراتها قادمة من أقاصي الشرق تبدو من رجل مسنّ، أظنه يحمل عدسات تتيح له الرؤية والقراءة جيداً، وهو يجتمع بمجلس الجامعة لمناقشة الدعم المعنوي والمادي للطلاب الوافدين إليهم للدراسة والقادمين من اليمن، تمنيت أنني لو كنت أحد الذين سيذهبون للدراسة، كنت استطعت دراسة الماجستير في السموم والأدوية ومعرفة من قتلك يا صديقي على الأقل كنت استطيع معرفة السم الذي وضعه القتلة لك وصنع ترياقاً لك، فنحن بعد رحيلك لم نجد من يصنع لنا ترياقاً للوجع الذي نحمله.
عزيزي محمد وأنت في السماوات التي لا نعرفها يحيط بنا الوجع من كل جانب، والبرد أصبح يخيفنا أكثر من الموت، وأشعر أنك تحمل عتاباً خفيفاً لي بأنني تأخرت بالكتابة لك والحديث معك، فكيف أخبرك أن الكتابة أصبحت جريمة في هذا الوقت وقد أكون أقل حظاً منك، ويرمى بي في زنزانة تكتظ بالمفقودين والمظلومين والثائرين والجرحى والمصابين، وربما يتم قتلي بذات الطريقة التي دبرت لقتلك.
لكن لا أرجّح الطريقة الأخيرة، فالقتل هنا أصبح شيئاً اعتيادياً وليس بحاجة للاختفاء أو بطريقة تخطيط وصناعة سم قاتل، بإمكانهم قتلي هكذا أمام الجميع ثم يمشون خلف جنازتي إن كنت محظوظاً واصبح لي جنازة.
حدث هذا العام يا صديقي الشهيد أحداث كبرى هزت العالم أجمع، حصرنا في دائرة أن نكون قتلة أو شهداء، فلم تعد صور العشاق وأحرفهم التي تشير للجميلات، توضع خلفية للهواتف المحمولة، ولم تعد صور لاعبي كرة القدم تعلق فوق السيارات أو جدران المنازل، لم تعد المدارس تتلو النشيد الوطني في الصباح، واختفى من مذياع منزلنا القديم أغاني أيوب طارش وصباحيات فيروز ولطفي بوشناق، واختُطف الصحفيون الذين يكتبون في جريدة الوطن ولم نعد نقرأها كل صباح، وقتل الطبيب ورجل السياسة والمسعف والطفل والمعاق والمعلم والأم والمهندس والشاعر والطالب والمريض وكبار السن والوزير والتاجر والعقيد واغتيلت الفتاة قبل عرسها، والمولود قبل ولادته، أصبح للموت طرق عديدة يا صديقي.
وما جعلني أكتب لك اليوم ليس ذكرى رحيلك الأولى، لكنه بسبب الرسالة التي وصلتني بداية الأسبوع، وصلتني رسالة من فرانكشتاين، أعرف أنك تتذكر هذا الاسم، وماذا كتبت عنه ماري شيلي، ثم زيارته لبغداد، إنه ينوي أن يزور صنعاء هذه المرة سيكون فرانكشتاين في صنعاء عما قريب، هكذا كان عنوان رسالته التي وصلتني، لقد طلب منّي أن أجمع له كل الجثث التي سقطت وقُتلت من أعوام، فكنت أخبره عن الجثث المتفحمة إثر القصف، وعن الأطفال الذين استشهدوا قنصاً وهم يحملون علب الماء، وعن معلم توفي جوعاً خلف باب منزله الموصد، أخبرته عن الجثث المرمية في ثلاجة الموتى مبتورة الرأس والأجزاء، وعن الموتى في السجون وكتاباتهم على الجدران.
كان فرانكشتاين يعرف بكل الذي يحدث، وكان يخبرني عن الأجزاء التي سيتكون منها والتي سيقتص من قاتليها، كما فعل في بغداد، أرسل لي خارطة تحتوي أماكن وأجزاء جسد كانت تشير أن قدمه اليمنى ستكون من شاب اغتيل في عدن، ويداه من رجل قتل بقذيفة هاون بتعز، وعيناه من رجل تم تفخيخ سيارته في صنعاء، ورأسه من رجل تم تفخيخ منزله وهو بداخله، وأصابعه من شاب قتل في زنزانة منفردة بسبب كتاباته للوطن، وأنفه لبائع خضراوات تم قتله بعد رفعه لصورة زعيمه، وفمه من رجل مسنّ خرج يبحث عن قطعة خبز فقتل قبل أن يحصل عليها، وأجزاء أخرى من صعدة وحجة والحديدة وإب ومارب وذمار والمحويت والضالع، كان يعرف كل أجزاءه وكل الجثث التي سيجتمع منها كان يحتاج فقط للعملية الأخيرة، للعملية الأخيرة التي ستجعل كل أجزاء الجثث التي سنجمعها تتحرك ونبعث بها الروح، الروح التي ستحمله وتستيقظ به في صنعاء، كانت الكلمات أسفل الخريطة مبهمة قليلاً قبل أن أتعرف عليها، كنتَ وحدك يا صديقي من اختاره، من أخبرني عنك من سيرتدي روحه حينما يأتي فرانكشتاين إلى صنعاء، وأنه سيقتص لك ولكل القتلى الذين سقطوا، سيكون فرانكشتاين في صنعاء بروحك أنت يا صديقي، تذكرت حينها اليافطة التي أخبرتك بها من قِبل أننا سنحملها لنلتقي بفرانكشتاين، ونرحب به في صنعاء، فما زلت أحتفظ بها، لكن هذه المرة سأستقبله وحدي وسيكون ممتلئاً بروحك وبروح كل الأبرياء والأحرار والشهداء والقتلى والمظلومين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.