لا تقاس أعمار الثورات بالسنين والقرون والأيام، إنما بما حقق أصحابها من نجاحات وكم من درج صعدوا بها على سلم الرقي والحضارات؛ لذلك فإنه لا يحق لكائن من كان أن يحكم على ثورة ما بالنجاح أو الفشل، ومخطئ مَن يظن أن ثورة تونس قد ولت وانتهت… صدق فارس الشعراء أبو القاسم الشابي حين قال:
روَيدَكَ! لا يخدعنك الربيع ** وصحو الفَضاء، وضوء الصباح
ففي الأفق الرحب هول الظلام ** وقصف الرعود، وعَصف الرياح
حذار! فتحت الرماد اللهيب ** ومَن يَبذر الشَوكَ يَجن الجراح
إن الثورة هي شعاع الأمل ولهيب شعلة الوجود، وهي عقيدة الحياة لدى الكثير منا اليوم.
ولعل ما يحصل اليوم في تونس ليس وليد اللحظة، بل هو استمرار لمشروع بناء ديمقراطية الشعب التي تخيف الكثيرين من الأفراد والدول؛ إذ إن كل الثورات اليوم، خاصة في عالمنا العربي، مستهدفة ومهددة بالخراب والفناء، فصورة المواطن العربي في مخيلة العالم لا تتجاوز حدود الاستعباد والذل، ولا تقبل إذا أراد المواطن العربي تغييرها والنجاة بنفسه من براثن الفقر والإذلال.
وهذه الصورة ليست محفورة في عقول العالم فقط، بل هي أيضاً رؤية السياسيين العرب الذين لا يقبلون هذا التغير الذي يشهده عالمنا العربي؛ لذلك فإنهم يخيرون شعوبهم بين الرضا بالموجود أو خراب الوطن والبيوت.
أما عن تونس وثورتها فالأحداث تتسارع وتتوالى مذكرة أصحاب الذاكرة القصيرة أن الثورة ما زالت مستمرة وما الهدوء الذي عرفه الشارع التونسي إلا سبق للغضب، وما يحدث اليوم هو نتاج تراكمات عدة سيتطرق إليها فيما سيأتي.
من الغباء أن يظن التونسيون أن الحكومات المتعاقبة على البلاد ساذجة، وتشكو من الغباء السياسي، فكل السياسات المعمول بها تصب في وادي إفراغ البلاد من كل خطر يهدد استقرار أصحاب الكراسي والنفوذ.
ولعل هذه السياسات تستهدف أساساً أصحاب الكفاءات العلمية والشباب الذي يمثل طاقة ساكنة لو ثارت على أصحاب السلطة لأردتهم حفاةً عراةً؛ لذلك فإن المتابع للوضع العام في تونس يلتمس توجهاً سياسياً لإلهاء الشعب عن أم القضايا وإقصاء المجتمع من دوره الرقابي، فتخلو بذلك الأجواء العامة من كل رقيب ليرتع أصحاب السلطة ويتسنى لهم خرق الدساتير والقوانين والأعراف، ويستفحل بذلك الفساد الذي ما انفك ينخر أركان الدولة المهترئة.
إن سياسة إلهاء الشعب وتضليله وسلب الدولة ونشر الفساد هي السياسة الوحيدة التي توارثتها الحكومات المتعاقبة، ولن نعود إلى التاريخ البعيد لنلتمس مظاهر ذلك؛ إذ يكفي تعديد الأحداث التي هزت الرأي العام في تونس هذه الأيام؛ لنكتشف أن الشعب المسكين وقع ضحية مهزلة سياسية ومسرحية متقنة التمثيل.
تعود بدايات الحكاية أساساً إلى حلم الوصول إلى السلطة الذي يرى فيه بعض السياسيين مبرراً لاستعمال الوسائل القذرة للوصول إليه من خلال تشويه الخصوم وبث البلبلة والإشاعات وتضخيم صورة شبح الإرهاب الذي أضحى وبدون شك وسيلة دموية لإسكات الشعب وتمرير القوانين غصباً.
فما يرفض الشعب أمراً إلا ويطل علينا الإرهاب في الوقت والمكان المناسبين والكفيلين بإرضاخ الشعب وترهيبه وإسكاته والفتك بحقوقه تحت غطاء محاربة الإرهاب.
ولا يكتفي أصحاب النفوذ بهذه الوسائل فقط؛ ليتعدوا إلى إلهاء الشعب عما يحدد مصيرهم ومستقبل الأجيال القادمة، فقضية الميراث التي يجترها كل سياسي وإعلامي مأجور كانت كافية لإدخال البلبلة وتوجيه الرأي العام واستنفاد الطاقات فيما لا يعني من مسائل ثانوية، وكأن تونس أنهت كل مراحل التقدم والتطور وأوجدت الوقت والسبل لمناقشة والتنظير في القضايا الجانبية.
أما عن استنزاف طاقات الشباب، فتونس هي الرائد في هذا المجال بسياسات جد متقدمة، كتسهيل الهجرة غير الشرعية وتضييق الخناق على كل طاقة فذّة تحاول البناء والتطوير والإصلاح، فيضطر الشاب إلى إلقاء نفسه في عرض البحر في سبيل تحقيق حلم الهجرة وإيجاد مَن يؤمن به بعد أن أضحى غير قادر على الإيمان بنفسه.
فتضمن الدولة بهذا غياب الطاقات الشبابية التي تطالب بالتشغيل والكرامة والتي قد تمثل وقود ثورة شعبية حقيقية تغلق الأبواب على الفاسدين وعديمي الضمير والوطنية، ولا يفوت صاحب النفوذ على نفسه فرصة تشتيت تركيز الشعب، فحادثة إغراق سفينة لمهاجرين غير شرعيين شغلت الرأي العام وعمّرت منصات الإعلام المتهاوية بمن يفقه ومن لا يفقه، وكانت غطاء ناجعاً لستر مرور قانون المالية لعام 2018 دون رقابة الشعب الذي لم يعد يتحمل سرقة حقوقه وموارده وأبنائه؛ جثث تتغذى عليها الحيتان وتلفظها البحار كقطعة خشب لسفينة الأحلام التي تحطمت في اصطدامها بحجر الواقع المرير الحزين؛ ليتحول الوطن في آخر الحكاية إلى مقبرة الأحلام والشباب والإنسانية، ويصبح مرتعاً للصوص والعصابات التي تمتص خيراته.
إن استفزاز الشعب التونسي وصل حد محاولة الانقلاب على الدستور والانتخابات التي جرت في ألمانيا، والتي تمت على أثرها تلفيق تهم للفائز فيها ومحاولة إقصائه، في حين يرتع الفاسدون جهاراً في أرجاء هذا الوطن، بين عميل وخائن وسارق، في حين أن الحكومة تتغنى بمحاربة الفساد.
إن رائحة الانقلاب في تونس تفوح من جديد، وتربص الأعداء وتسلطهم علينا أضحى جلياً، ولعل الإمارات كانت آخر المعتدين؛ لذلك فإن الحذر واجب، والشباب الذي صنع ثورته هو الذي سيحميها بدمه، لكن عليه ألا ينساق وراء دوامة العنف، فإن كانت الثورة هي أكثر ما يخيف الأعداء، فإن الفوضى هي جنّتهم؛ كي يقدروا على الفتك بنا.
لم يعد في الوطن ما ينسب إلينا، ولم يبقَ من الثورة سوى تاريخها كاسمٍ لبعض النهج ولم يبقَ من الأمل سوى الألم، ومن الحلم سوى ندوب الكفاح… لم يعد الوطن يعرفنا ولم نعد نعرف الوطن؛ إذ لا خير في وطن شبابه جثث بلا روح، إن لم يأكلها الفقر والذل أكلها البحر الأبيض المتوسط الذي سيسود سخطاً على مَن كان سبباً في الدمار.
لذلك فإن معركة اليوم هي مسألة حياة أو موت، إما تصحيح المسار والعمل من أجل الوطن والمحاسبة، وإلا فإن التاريخ سيذكر كم كان حلمنا جميلاً وواقعنا مريراً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.